تخترقني تلك الليلة، أراها في غبش السنين عروسا تزفها النجوم. ونسيم خلفت فيه شمس يونيو أنفاس الغروب المعتدلة، استعيد البيت الطيني الذي تحيط به أشجار التين وعرائش الدوالي... وأنا أتصورني اعبث بأطراف تنورتي مأخوذة بالفوانيس الصغيرة تقاوم الظلام المنسدل على أعتاب الحوش الكبير.. عمي العريس مجلل ببياض جلباب طويل..ارمقه بإعجاب، كنت دائما أراه في ملابس رثة في الحقول والإسطبلات هيئته تلك تشعرني بمحبة غامضة تجاهه..اندس بين الرجال وألمح النساء اللواتي يختلسن النظر من شبابيك تختفي تحت أوراق الدوالي، ألمحهن بزهو المنتصرة، تحميني طفولتي من ذلك الفصل الصارم بين النساء والرجال، أتنقل بينهما بحرية وانقل رسائل شفوية هي غالبا جمل متشابهة، لا افهمها أحيانا فانقلها حرفيا دونمااكتراث
يقول لي احدهم:
- قولي لخالتك فطومة هات الأمانة
أعود إليه بورقة نقدية
- تقول لي امرأة:
-قولي لصاحب العمامة الصفراء أين وضع المفتاح؟
أعود بجواب ما، وقد ينهرني رجل ما فألوذ بحضن أبي تاركة المرأة تنتظر خلف الشباك
.. ترتفع حناجر الرجال بأهازيج لااتبين منها غير اسم عمي محمد، أرى في عينيه وميضا غريبا، أراه يتداعى لأصواتهم بتمايله الخفيف اشعر انه في اقصى الهشاشة و يكاد يتكسر.. الشيخات بأردافهن المكتنزة وعيونهن الكحيلة يتوزعن في رقص منتظم من يمين الحوش إلى يساره، من يساره إلى يمينه و من شماله إلى جنوبه..ثم في حركات دائرية جميلة، يتمايل الرجال يتأوهون...يصفرون ويضعون أوراقا نقدية على صدورهن الكبيرة.في مدرستنا؛ كنا نصفق للراقصات الصغيرات في حفلات الأعياد الوطنية لماذا لا يصفقون وكفى..أفكر أن الكبار يتصرفون بغرابة وجنون... حاول رجل بدين أن يحرر حضن أبي مني ويبعدني عنه بقوة قائلا:
- أنت بنت لا يصح وجودك هنا اذهبي إلى أمك
نظرت إليه بكراهية.. قال له أبي:
- مازالت صغيرة دعها تتفرج، لكزه الرجل
ابتسم أبي قائلا:
- لا، لاتفهم
استفزني الحوار الغامض ماذا لا افهم؟! سمعت معلمي يقول دائما لأبي إني سريعة الفهم لماذا ينكر علي أبي ذلك عوض أن يفتخر بي؟ تسلل حزن خفيف إلى قلبي وفكرت أن الرجل الضخم الكريه هو السبب.. قال لي أبي انه خالي وطلب مني أن ألثم ظهر يده، فعلت ذلك على مضض. لمريم خال جميل، رشيق،يرتدي بذلة وربطة عنق كان يحضرها إلى المدرسة وحين يراني يناديني برقة:
- فاتي تعالي
يقبل خدي ويشتري لها ولي حلوى لذيذة..
اقتربت منا الراقصة الفارعة، قفطانها يلمع وشعرها الأسود مقسم إلى ضفيرتين تتدليان حتى الحزام هزت وسطها في عنف صفر الرجل البدين لكز أبي قائلا:
-شوف النعمة، شوف!!
ضحك أبي بكرم، كان أبي لا يضحك كثيرا، كنت اسمع أمي تقول لجدتي ذلك بلهجة شاكية أنا أيضا لم أكن أراه يضحك، فقط يبتسم لماذا يضحك الآن! يكركر بصخب، قال الرجل:
- هاهو يقف) وضغط على أسفل بطنه(
نظرت إليه وحولي كان الجميع جالسا سالت أبي من وقف؟
ضحك الرجل الضخم وعاد يلح على أبي وهو يدفعني
- قلت لك: ارسل البنت إلى أمها..
ازددت التصاقا بأبي تركني انساب في حضنه من جديد كماء يبحث عن مستقره
سأله الرجل وهو يغمز
ألا تعجبك؟
لا، تعجبني فريدة الحسيمية.. لم اسمع أبي يعلن إعجابه يوما بامرأة غير فاطمة بنت الرسول وعلمت انه سماني فاطمة تبركا بها، ربما نمت وأنا أفكر في هذه الفريدة التي تعجب أبي..حين صحوت وجدتني فوق حصير خشن وسط نساء كثيرات، تبينت أمي وسطهن بصعوبة... العرس انتهى قال أبي يستحثنا على ركوب السيارة للتوجه إلىالمدينة..ربما كنت سأنسىالليلة تلك، وعمي العريس والرجل الضخم في تفاصيل الحياة، لكن حدثا اقترن بها فأقحمها بعنف في ذاكرتي مافتئت كلما كبرت أو حضرت عرسا أستعيدها و أفسرها مشهدا مشهدا، اشرح بخبرة العمر دقائقها المبهمة و أجد الإجابات لأسئلتها الغامضة..كان أبي ككل صباح يأخذني إلى المدرسة استوقفنا رجل وقور سمعت أبي يقول له:
- أهلا الفقيه
لثمت يده، ربت على راسي بحنان وهو يدعو لي بالصلاح والنجاح، سألني ماذا أريد أن أصبح في المستقبل، ربما صمتي شجعه أن يساعدني على الجواب
- من أتباع فاطمة الزهراء ان شاء الله
- آمين (قال ابي )
- ورابعة العدوية!
ظلت ملامح أبي محايدة تجاه الاسم الثاني، فحدست انه غير موافق وقلت بلهفة من ظفر بجواب شاف:
-أريد أن أكون مثل فريدة الحسيمية
توقعت آن يبتهج أبي لكنه ضغط بعنف على يدي وهو يستعيذ بالله، لم افهم، ألم يقل إنها تعجبه...سألت أمي
- من هي فريدة الحسيمية، قال أبي إنها تعجبه؟
-أنت أكثر حمقا من أبيك!
هي هكذا، تستزيد دائما غموض أسئلتي بجملها الساخرة، حين ألح تحيطني بنظراتها المرتبكة وصمتها الملغز أو تسمعني الجملة ذاتها:
- حين تكبرين ستفهمين
شيء من الحزن خالط السواد في عينيها وهي تقول لي:
- كبرت يا فاطمة وها أنت تتزوجين!
احتميت بابتسامة، الليلة عرسي، لست سعيدة، لست حزينة، بي خوف غامض يغذيه الظلام الساقط على زجاج النافذة.. تربت على ظهري أريد أن أقول لها أحس أني صغيرة، لكن الغصص المتخشبة في حلقي تخنق كلماتي تطمئنني بنفس العبارة المواربة:
- لا تخافي كل الأمور ستمر بخير، ليس الأمر صعبا كما تتخيلين، ثم هي ليلة و ستمر على كل حال
قبلتني تحسست دموعها على خدي انسلت هاربة كي لا أرى وجهها الباكي، افكر في تلك الامور بغموض لذيذ وخوف مربك، احسني افهم ذلك الوميض في عيني عمي، هو نفسه مارايته في عيني عريسي واراه في عيني،كأننا سنخوض معركة غامضة! قشعريرة باردة تعبر مسامي، من اين ياتي البرد؟ النافذة مغلقة والمساء لاشك خلفت فيه شمس يونيو انفاسها الدافئة، اغلقت الباب خلف امي.. (هي ليلة وستمرعلى كل حال) أقولها أيضا لنفسي
صوت فريدة الشجي يخترقني فأدندن مع أغانيها..أتمايل برأسي.. انقر على المنضدة القريبة بأناملي..فجأة اقف و ارقص أمام المرآة، جسدي يهتز، أنسى النساء اللواتي يرقصن في الصالون السفلي، أنسى الرجال الذين يرتلون الامداح النبوية في الصالون العلوي، أنسى الحلاقة التي تنتظرني خلف الباب وفي يدها فستان ابيض، صوت بداخلي يقول لي: تعجبني فريدة الحسيمية!..ارقص بعنف، أحس أني الراقصة الفارعة في تلك الليلة البعيدة هناك على تخوم الطفولة، أنساني وأقول لي من الذي سيتزوج هذه الليلة؟..ارقص، ارقص، الليلة عرس! تقول فريدة الحسيمية بصوتها الشجي، أحس جسدي يستكين في نوم طويل واكتشفني في الصباح طفلة على حصير خشن فاتبين أمي بين النساء بصعوبة واسمع أبي يقول بلهجته الحاسمة انتهى العرس ( و يستحثنا على امتطاء السيارة) يغمرني فرح طارىء كأني غريق اكتشف نفسه فجأة على شط آمن، ترتفع حناجر النساء بأهازيج لا أفرز منها إلا اسمي، هل هذه ليلتي؟ تقول امرأة بداخلي، لااجيب، أفكر في تلك الليلة البعيدة، ارقص، ارقص، الليلة عرس تقول فريدة الحسيمية.
قاصة من المغرب