قبل أن اجني العناقيد
أهمس بكم:
أيها الجياع
اسلخوا جلودكم فوق دكة المعمدان
وارحلو عن جلودكم
فالجوع في الوطن غربة
د.باسم عبود الياسري:بهذه الكلمات يفتتح د. طالب البغدادي مجموعته الشعرية الجديدة (عناقيد الموج)، وهي أقرب الى بيان سياسي أو تحريض لجماهير احتشدت أمامه، لما تحمله من طاقة وتأثير في السامع، مستعيراً العبارة الشهيرة ( الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن). وهذا هو ديدن البغدادي لمن يعرفه عن قرب، كلما التقيته وجدته بذات الحماس الذي لايفتر، فهو رجل موسوعي تخصص بالاقتصاد، وحصل على الدكتوراه فيه من فرنسا، خاض غمار السياسة، فلم ينل منها غير الاعتقال والتعب، وحين دنت منه قال لها غري غيري. رغم كل الذي مر بطالب البغدادي إلا أنه غير نادم عما سار فيه من درب. خلال حياته نسج شبكة من العلاقات الاجتماعية الواسعة، وهو شاهد على عصر من التحولات الكبيرة في العراق، زامل ورافق واختصم مع الكثير من شخصياته. طالب البغدادي من ذاك النوع من الرجال الذين يحملون كيرزما خاصة كما وصفه أحد الأصدقاء، ما إن تجلس معه حتى يأسرك بحلو حديثه في الموضوع الذي تختاره أنت. ففي الاقتصاد - وهو تخصصه - حديثه غرف من بحر المعرفة التي لا تتوفر في كتب، وحين يحدثك عن التاريخ تشعر كما لو انه عاصر تلك الحقب القديمة التي يحدثك عنها، وما في التاريخ من حكايات تتكرر فصولها علينا كل يوم، وهو شاعر حين يحدثك عن الشعر ومدارسه وأعلامه، ومتذوق للفن قاده تذوقه الى أن يختص بالموروث المادي quot;الانتيكاتquot; فهو أحد العراقيين وربما العرب القلائل في هذا المجال. كان لابد لي من التعريف بالدكتور طالب البغدادي على هذا النحو فما نقدمه اليوم ليس شـاعراً حسب، وإنما هو مفكر وسياسي واقتصادي ومثقف شامل.
أصدر قبل ايام مجموعته الشعرية الجديدة (عناقيد الموج) عن دار قرطاس للنشر بالكويت ضم ثمان وعشرين قصيدة سبقها بمقدمة تلك التي أوردنا بعضاً منها في بداية المقال، ثم كلمة حب ووفاء لصديقه الفنان التشكيلي الكبير سعدي رشيد الذي أسهم بريشته في تفاعل ابداعي لا تفسيري لقصائد المجموعة.
ما إن تمر على عناوين القصائد حتى تجد نفسك أمام شاعر اجهده الفكر اكثر من التحليق في عوالم الشعر السحرية، فهي: عناقيد الموج، طواحين الزمن المكسور، في جبة الحلاج، حكايتي من المهد الى اللحد، على مائدة حيدر حيدر في وليمة الأعشاب البحرية، عاشق الغربة، في صومعة القديس بطرس، قلق ممزوج بالأمل، الخروج عن المألوف، تأملات في زمن الذهب المبرود وتحت رماد التنباك وغيرها.
كتب هذه القصائد في أعوام بعد التسعينات بما يعنيه هذا التاريخ للعراقيين من دلالات الانقطاع عن العالم الخارجي، وقصائد المجموعة متفاوتة الزمان متغيرة المكان، فجغرافية كتابتها تشير الى تنقل بين بغداد وباريس وامستردام، وعمان والجزائر والدوحة التي حصلت على اكثر عدد من القصائد فهي مستقره الأخير لحد الآن ولا يدري الى أين ستقوده قدماه فيما بعد.
مع عدم امكانية الحديث عن مجموع القصائد في هذه المجموعة إلا أنه لا بأس من التوقف عن بعضها لنفتح للقارئ كوة نحو القراءة. في قصيدة (عناقيد الموج) التي حمل المجموعة اسمها يبدأ قصيدته برسم صورة مأساوية تذكرنا بحقب من تاريخنا الصادمة:
أرتمي على الرمل مقطوع اليدين
أو مسمل العينين/أحس بنداوة البحر
تحفر جفاف عروقي
ثم يحاكي عناقيد الموج فهي (شفافة مثل رغوة الصابون) التي يجد نفسه وحيداً معها، غير أن هناك صمتاً عميقاً يلفه وسط ليل وحشي يحمله (فوق أجنحة الحمام الهارب نحو السراب).
إن هذه الحالة النفسية المركبة التي يعبر عنها الشاعر إنما هي نتاج معاناة كبيرة واحساس بالخراب والفجيعة التي افضت الى المجهول. إنه تعبير عن حيرة جيل بل أجيال أضاعت بوصلتها السياسية وتسلى بعذاباتها تجار الحروب.
في (حكايتي من المهد الى اللحد) يعترف الشاعر بضعف الانسان أمام هذا العالم الواسع المليء بالشرور، فيرى الشاعر نفسه ضعيفاً وعاجزاً عن التغيير الذي كان يحلم به طيلة حياته، فلا حياة بلا أمل:
حاولت أن أبقى معقولاً في الوجود الظاهر
أحمل جوهري في كتفي... وأرى المسافات أمامي
فبين المرئي والمتداول
تتهاوى المدارات مثل المسافة بين الواقع والغموض
ويصف الشاعر الحياة وصفا طريفاً، فيرى أن
الحياة لها درج لولبي
تتضاءل كلما صعدت
وتهبط في مدار مستعار
ليس له حدود
في قصيدة (الغربة على شاطئ البحر) يتحدث الشاعر عن غربته المبكرة، وهي هنا ليست غربة المكان، وإنما الاغتراب الروحي عن المحيط، ووسط هذه الغربة التي هو فيها اليوم لا يمتلك إلا أن يعود الى أصوله الأولى التي يعتز بها أعرف جيداً أنني أفقد دفة التوازن مع العالم
فقد جئت من السلالة التي حملت دمها على كفها
وكفنها فوق جسدها
ولم ينتصر سوى موتها
نعم قد يتحول الموت الى انتصار ويتحول الشهيد الى قبس للآتين (برؤى تشبه رؤى القديسين أو المجانين).
في (عاشق الغربة) لا يجد القارئ نفسه أمام شاعر، وإنما هو في حضرة قديس أو ثائر يحمل في صوته أصداء الآخرين، وفي خطاه توثب لمن فقدوا قدرتهم على المضي، فتتحول الكلمة الى فعل:
ستقرئين في عيوني... دمار الأزمنة
وصرخات المعذبين... والشتات عبر دروب الأرض
والتاريخ الذي يشبه البحر.... في لحظة غضب
ثم ييحدث عن البحر (نرتمي على شواطئه
مثل باقات من أكليل الزهور الذابلة
فوق الأضرحة التي لا ينهض موتاها
يستحضر الشاعر طالب البغدادي صوراً غاية في الغربة غرابة التشبيه وغرابة المزج بين الصور حتى ليغدو العالم يحمل من الأدران والألم أكثر مما يحمل من الخير والفرح، لاشك إن صورة بهذه القتامة لم تكن تنثال في خيال الشاعر لو لم يكن يحمل من الهموم والمعاناة كما يقول أحد المعري:
يُهِمّ الليالي بعضُ ما أنا مُضْمِرٌ ويُثْقِلُ رَضْوَى دونَ ما أنا حامِل
ورضوى جبل، وهكذا هو ألم الشاعر، وتمكن بلغته الفخمة التعبير عن مكنونات الذات. في قصيدة (الليل وعيون الكلاب) فالليل يطلع من عيون الكلاب، وله صهيل كالجياد لكنه مثقل بالسموم، يتلصص حول شبابيك الجميلات، وهو قاتل فهو يدس السم ويحرق البسمة، صورة مركبة لا يتمكن منها شاعر بسهولة، يقول البغدادي:
يطلع الليل من عيون الكلاب
نسمع صهيله مثقلاً بالسموم
يدور حول شبابيك الغواني
يدس الزعاف في مريء القدر
يحرق البسمة على حلمة الزمان
وينزع النهود من كورتها
من باريس يكتب قصيدته (الأرض وهذيان الغبار) يعتذر من الأرض ـ الأم عما يجري عليها
اعذريني ايتها الأرض
فأقدام الجنود
لاتدوس سوى القصب
ومناجل الأطفال
لا تحصد سوى الطحالب
لكن الجذور... تمتد تحت قبور القبرات
لا تختزل هذه القراءة ما في المجموعة من أفكار وصور ولا تعوض عن قراءته، فهناك الكثير من القصائد التي تحيل الى بلاغات لغوية وصورية، تمتع القارئ وتضيف إليه ثراء فكريا وشعريا نحتاجه جميعا في هذا العالم المادي القذر الذي يلغي قيمة العقل والابداع.
[email protected]