أو من أجل عبقرية بصيغة المؤنث
فوزي بوخريص:تنتقد جوليا كريستيفا الحركة النسائية من الداخل، وذلك بإبراز قيمة المساهمة التأسيسية التي جاءت بها سيمون دو بوفوار، التي تعتبر من خلال مؤلفها الذائع الصيت quot;الجنس الثاني quot;، إحدى منظراتها. و كذا بالوقوف على محدودية هذه المساهمة، التي أجهزت، في نظر كريستيفا على قيم الاختلاف، الاستقلالية والحرية الذاتية باسم الشعارات والوعود الكبرى، التي حملتها الحركة النسائية الجماهيرية.
جوليا كريستيفا
إن جوليا كريستيفا، تعترف بأنها مثل غيرها من الباحثات والمناضلات الملتزمات بquot;القضية النسائيةquot; مدينة بالشيء الكثير لسيمون دي بوفوار، فهي واعية كامرأة، بأنها تدين لها بالحرية quot;التي ما تفتأ تتشكلquot; باستمرار، وخاصة بحرية التفكير، بما في ذلك التفكير مع دي بوفوار و ضدها.
لكنها في نفس الآن تؤمن بقيمة المشاريع النسائية الذاتية والمتفردة، التي تعيد الاعتبار quot;للذات النسائيةquot; في اختلافها وتميزها، في استقلاليتها وتحررها، بل و تعتبر أن هذه المشاريع هي التي تجسد بحق quot;العبقرية بصيغة المؤنثquot;، وهذا الذي جعل كريستيفا تخصص مشروع quot;العبقرية الأنثويةquot; لثلاث شخصيات نسائية هي: حنة ارندت، ميلاني كلاين وكوليت، مستثنية بذلك سيمون دوبوفوار.
لكن رغم المسافة النقدية التي تقيمها كريستيفا مع المشروع الفكري والنضالي لصاحبة quot;الجنس الثانيquot;، فقد أهدت لها ضمنيا المشروع السالف الذكر، من خلال الإشارة التي وردت في خاتمة جزئه الثالث حول quot;كوليتquot;.
اعتبرت جوليا كريستيفا أن الأعمال التي كرستها لحنة ارندت، ميلاني كلاين وكوليت أضاءت عملها ووجودها ودعمتهما.وشعرت خلالها بأنها تشارك تلك الشخصيات النسائية حياتها.فقد أقامت معها علاقات وثيقة، واقتربت منها.حيث هيمن الإعجاب بتلك الشخصيات على قراءتها لأعمالهن، التي تنتمي إلى حقول مختلفة:الفلسفة السياسية(ارندت) التحليل النفسي(كلاين) والأدب (كوليت).
وتعتبر تيمة quot;العبقريةquot; الخيط الناظم الذي ساعد كريستيفا على الكشف في أعمال هذه الشخصيات النسائية الثلاث عن التجاوز الذي حققته كل واحدة منهن في مجال تخصصها. فالعبقريةquot; هي الصيغة الأكثر تعقيدا لهذا التفرد، الأكثر إغراء،والأكثر خصوبة في فترة تاريخية ما،والتي تندرج، في ظل هذه الشروط ضمن الديمومة وفي الكوني.
والاهتمام بالعبقرية بصيغة المؤنث، هو انتصار للتفرد على حساب البعد الجماهيري، واحتفاء بقدرة الذات الفردية على التجاوز والإبداع، وهو دعوة ضمنية لكل امرأة، ولكل إنسان بشكل عام، لمحاولة مماثلة لتجاوز ذاته.لأن كريستيفا تعتقد أن التتويج النهائي لحقوق الإنسان بالنسبة للرجل والمرأة هو في هذا الاهتمام الذي يقود إلى تفتق القدرة على التفرد، أي بالانشغال بمآل الquot;منquot;(الفرد) داخل الquot;أي كانquot;(الجماهير).
من هنا فالتركيز على التفرد الذي يكشف عن ذاته في أعمال نموذجية(خاصة في حقل quot;الإنسانياتquot; الذي هو حقل تخصص جوليا كرستيفا) هو أيضا طريقة للانفصال عن الحركة النسائية الجماهيرية. فمعركة النساء من أجل تحررهن عرفت، في نظر كريستيفا، ثلاث مراحل في الأزمنة الحديثة: مرحلة المطالبة بالحقوق السياسية، (بدءا بالحق في التصويت)، ومرحلة التأكيد على مساواة انطولوجية أو وجودية مع الرجال(ضدquot;المساواة في إطار الاختلافquot;)، وهذا ما قاد سيمون دو بوفوار في quot;الجنس الثانيquot; (1949) إلى إثبات نوع من quot;الأخوةquot; بين الرجل والمرأة والتنبؤ بها، فيما وراء خصوصياتهما الطبيعية.وأخيرا مرحلة البحث عن الاختلاف بين الجنسين، في سياق ثورة ماي 1968 وتطور الدراسات في مجال التحليل النفسي. وفي هذا السياق سيتم التأكيد على الإبداعية الأصيلة في تجربة النساء، في تجربة الحياة الجنسية كما عبر امتداد الممارسات الاجتماعية، في السياسة كما في الكتابة الأدبية.
صحيح أنه في كل هذه المراحل كان الهدف هو تحرير مجموع النساء.لكن حركات النساء لم تستطع بذلك التميز عن الحركات التحررية الجماهيرية سواء تلك التي تمخضت عن فلسفة الأنوار أو تلك التي لها بعد ديني، فهي مثلها قامت على شعارات ووعود شمولية.فالحركة النسائية ذاتها، رغم تعدد تياراتها في أوربا كما في أمريكا، لم تستطع الانفلات من هذه الأهداف.وقد انتهى بها هذا التوجه إلى الجمود والتصلب في صورة حركة نضالية بلا أفق، فهي بتجاهلها لتفرد الذوات، اعتقدت أنها قادرة هكذا على اختزال كل النساء، مثل كل البروليتاريا أو كل العالم الثالث في مطلب عنيد و ميئوس منه.ومع ذلك تعترف جوليا كريستيفا بأن سيمون دو بوفوار هي أفضل من يمثل تجربة التفرد، فهي لم تكن تحتقرquot;الذاتquot; في المرأة، أو quot;الفردquot; في ذاتها، هي التي تشعر بحاجة غير محدودة إلى التعالي عن الذات، وهي الوفية للمنظور المتولد عن الأخلاق الوجودية، كما أنها اعتمدت تأويلا خاصا للماركسية، كل ذلك بهدف تحرير المرأة من وضع القاصر الذي يفرض عليها أن تكون آخر الرجل، ذلك الآخر الذي ليس له حق ولا فرصة أن يشكل ذاته بذاته.وبمحاربة سيمون دوبوفوار لكل ما يختزل المرأة في بعدها البيولوجي، من خلال قولتها الذائعة الصيت:quot;لا تولد المرأة امرأة بل تصير كذلكquot;،فهي في الواقع تواجه الميتافيزيقا التي تسجن المرأة في الآخر، وتحول بينها وبين وضعها الإنساني الفعلي، وضع الاستقلالية والحرية.مؤكدة على حق النساء في الحرية، و الحق في المساواة مع الرجال، في أفق بلوغ حرية كونية تتيح الولوج إلى الإنسانية الفعلية. وبعد مضي أكثر من خمسين سنة على هذه الكلمات، التي تؤسس النقد البوفواري للاستلاب الجنسي، الاقتصادي والسياسي... ما فتأت ذات الكلمات تصير واقعا اجتماعيا بالنسبة لملايين النساء اللواتي يرغبن في حياة أكثر كرامة..لكن بإعادة التفكير في تصور بوفوار اليوم، نلاحظ انه ينطوي على تناقضات.فهي باستبعادها لإشكالية الاختلاف لصالح إشكالية المساواة امتنعت عن دفع المشروع الوجودي إلى ما هو أبعد، أي إلى التفكير، من خلال وضع النساء في صيغته الجمعية، في حظوظ حرية كل واحدة منهن ب
سيمون دي بوفوار
وصفها كائنا بشريا متفردا.تقول بوفوارquot;فمأساة المرأة، تكمن في هذا الصراع بين المطالبة الأساسية لكل ذات، والتي تضع ذاتها دائما باعتبارها جوهرية و بين ضرورات الوضع أو الشرط.فكيف يمكن للكائن البشري أن يتحقق في ظل الشرط الإنساني؟ باهتمامنا بحظوظ الفرد، لا نحدد هذه الحظوظ بلغة السعادة وإنما بلغة الحريةquot;.بالفعل، فعلى الرغم من أن سيمون دي بوفوار نهلت من انجازات نساء quot;ذواتquot; أو quot;أفرادquot;، نساء يتميزن بعبقريتهن مثل القديسة تيريز أو كوليت...الخ.إلا أن مؤلفها quot;الجنس الثانيquot; انشغل quot;بالشرط النسائيquot; في كليته، أكثر مما اهتم بquot;الكائن البشريquot; أو quot;حظوظ الفردquot;، لأن بوفوار اعتبرت أن تحول هذا quot;الشرط الإنسانيquot; هو الكفيل بتحقيق الاستقلال الفردي والإبداعية النسائية.
وهكذا فمؤلفةquot;الجنس الثانيquot;، في نظر كريستيفا، أتت ربما مبكرة جدا من أجل الدفاع عن التفرد النسائي، ما دامت أن الشروط الجنسية والاقتصادية ما تزال تعوق تحرر النساء.ومع ذلك فقد عرف مؤلف دي بوفوار الأساسي نجاحا منقطع النظير، بالنظر لتضافر عدة عوامل أهمها في نظر كريستيفا: أسلوب دي بوفوار الصحافي الفلسفي، واعتمادها لنبرة التزام قوي، ثقافتها الشمولية وحسها البيداغوجي وسخريتها التي تتميز ببعد نظرها وأناقتها.
وما تزال رهانات مؤلف بوفوار قائمة في ظل الشروط التي تميز الوضع الإنساني العام(سيادة نزعات التقليد والمحافظة).لكن من غير المؤكد أن quot;الصراعquot; بين شرط كل النساء والتحقق الفعلي و الحر لكل امرأة، الصراع الذي هو في نظر بوفوار أساس المعاناة النسائية، سيعرف حلا إذا انشغلنا فقط بquot;الشرطquot; وأهملنا quot;الذاتquot;.وقد ساهمت بوفوار ذاتها على مستوى التفكير من خلال تفضيلها لتحويل quot;الشرطquot; النسائي، في استبعاد الرهان الأساسي الذي هو رهان المبادرة المتفردة...فحنة ارندت، ميلاني كلاين، وكوليت، وغيرهن كثير، لم ينتظرن نضج quot;الشرط النسائيquot; لكي يحققن حريتهن:أليست quot;العبقريةquot; بالتحديد هي هذه الفتحة أو الثغرة عبر/ وفي ما وراء الوضع أو الشرط؟
وهكذا فجوليا كريستيفا تسائل من خلال مشروعها حول quot;العبقرية بصيغة المؤنثquot;، عدم قابلية تجربة كل من أرندت،كلاين، و كوليت للاختزال، وتفردهن الإبداعي، وتهتم بالتالي بحظوظهن كذوات متفردة.ويمكن صياغة مشروع كريستيفا وفق فكرة أساسية وردت في quot;الجنس الثانيquot; كما يلي: quot;كيف يمكن، من خلال الشرط النسائي، تحقيق كينونة المرأة وتفردها، وتعزيز حظها الفردي من زاوية الحرية التي هي المعنى الحديث للسعادة؟ quot;. كما يمكن، من وجهة نظر كريستيفا، تحوير العبارة البوفوارية الشهيرة بالقول quot;إن المرأة تولد امرأة، لكنها تصير امرأة كذلكquot;.وبذلك تعترف كريستيفا بدينها تجاه بوفوار، هذه الباحثة والمناضلة الرائدة التي غالبا ما تنتقد أو تحتقر بدون وجه حق...
ومع ذلك، فإننا بالكاد- تقول كريستيفا- بدأنا ندرك أهمية وأبعاد الحدث الذي عرفه منتصف القرن العشرين، حدث الإعلان عن حرية quot;الجنس الثانيquot;، والذي كانت وراءه سيمون دي بوفوار، التي يجري هذه السنة الاحتفاء بذكرى مرور مائة سنة على ولادتها...