نبيل شرف الدين: تلك اللحظة التي تمد فيها ذراعك لطبيب التخدير حتى يغرس إبرته في جسدك، بعدها يهاجمك المخدر بضراوة، فلا تشعر بعبث الجراحين في أحشائك، وحين تفيق تبدو وكأنك قادم للتو من ثقب أسود بين المجرات، فيتداخل المكان في الزمان، والوجود في العدم، تنظر حولك لا ترى سوى اللون الأبيض، تباغت الذاكرة كلمات quot;الجنوبيquot; أمل دنقل: quot;لونُ الأسرّةِ, أربطةُ الشاشِ والقُطْن, قرصُ المنوِّمِ, أُنبوبةُ المَصْلِ, كوبُ اللَّبن, كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْquot;.
ذلك المساء استمعت حتى الثمالة بحمام دافئ، ورشفت فنجان قهوة استثنائياً أعددته بنفسي، وارتديت أفخر ثيابي، وتعطرت بإفراط، وألقيت بأكوام الشحم التي تثقل كاهلي في مقعد السيارة، ثم وضعت إسطوانة لمنير يغني فيها: quot;بعد ما لف وبعد ما دار.. بعد ما داب واشتاق واحتار، حط الدبلة وحط الساعة.. حط سجايره والولاعة.. علق حلمه على الشماعةquot;.. وبالفعل، ساعتها كنت أضع حلماً جديداً على quot;الشماعةquot;.
لم تعد quot;شماعتيquot; تحتمل المزيد، ناءت بالأحلام المبتسرة والمجهضة، والأمنيات التي تتسرب واحدة تلو الأخرى من بين أصابعي، شعور عميق بالمرارة يلاحقني في الصحو والمنام، كأنني استيقظت فجأة لأجدني أقف على عتبات العام السادس والأربعين ولم أحقق شيئاً، كل رهاناتي خابت، وكل من تعلقت بأهدابهم خذلوني.. مازلت ألهث في مناكبها دون أن تظهر بارقة أمل واحدة تبعث على الاطمئنان، فمازلت أتدثر بخرافات لا حصر لها، كالوطن والحب والصداقة والأمل والنبل والشرف الإنساني وغيرها من الأكاذيب الصغيرة التي يقتات بها من أدركتهم حرفة الكتابة.
آه يا quot;بدرquot; يا آخر عنقود في سلسلة خيباتي، بالطبع هذا ليس اسمها الحقيقي، لا تهم الأسماء، فهي محض أكاذيب أيضاً يطلقها البشر على أنفسهم وعلى الآخرين، ثم يصدقونها..
لعلها الآن تشرب كوباً من الشاي المعطر الذي كانت تعشقه، أو لعلها في هذه اللحظة تذوب كقطعة السكر في كأس رجل آخر، أو ربما كانت نائمة متعبة بعد يوم طويل من العمل المضني، أتذكر كل كلمة كانت تقولها بحماس عن عمل المرأة، وإصرارها على التحقق في مجتمعات تمنح الذكور حقوقاً لا تقابلها التزامات، لا لشئ إلا لمصادفة قدرية جعلتهم ذكورا، وأتذكر أيضاً كيف كنت أزايد عليك يا quot;بدرquot;، فأقول إن الحياة أنثى، والسعادة أنثى، ومصر أنثى، وحتى الثروة أنثى، بينما الفشل مذكر، واليأس شرحه، وهكذا الخراب والدمار والفساد والهوان..
كنت تردين على مزايداتي تلك، وألاعيبي الصغيرة للإيقاع بك، بابتسامة كالشمس، تشرق فتمنح الوجود يوماً جديداً وتشعل في ربوعه جذوة الأمل والتحدي والنماء، وكنت أشعر بالخجل من نفسي أمام قدرتك الهائلة على احتوائي، كأنني طفل ضبطته أمه متلبساً بارتكاب حماقة مبتكرة..
تتزاحم في مخيلتي مئات الصور عن لقائنا الأول، ولمسة أيادينا لأول مرة ورائحة ذلك العطر الذي كنتِ تفضلينه، وتعليقاتك المقتضبة المعبرة على الناس والأشياء والأحوال، لكن اعترف بأنني لم أضبطك يوماً متلبسة بالاستهانة بأوجاع المأزومين والمتعبين والمهمشين، كنت تفيضين رقة وإنسانية كأنك من مواليد quot;برج الحكمةquot; فأدركتِ حقائق الدنيا مبكراً، ويا لتفاهتي أيامها حين كنت مسكوناً بثقة مفرطة لا أفهم مصدرها، ونزق لا أجد له مبرراً رغم كل هذه السنوات التي أحملها على كاهلي..
الآن.. لا أعرف سبباً محدداً لتبخر هذا النزق، وتلك الثقة، اهتز الكون حولي بشدة، وحاصرتني العذابات والخيبات من كل صوب، ولم يعد من ملاذ سوى الانغماس في البلادة والكسل، والنهم إلى الطعام لحدٍ صرت معه أقرب للأفيال، وبصدق صرت أبغض نفسي بعمق، فلم أعد اكترث بالحياة ولا أخشى الموت، ليس من باب الشجاعة طبعاً، بل نتيجة للاكتئاب والعدمية،
باختصار لم أعد أنا الذي أعرفه، بل هذا شخص آخر، تسلل إلى كياني شيئاً فشيئا حتى استحوذ عليه شكلاً وموضوعاً.. كم أكره هذا الشخص الذي quot;صادرنيquot;.. واستحوذ على روحي فألهمها عبوسها وسلواها، وتمكن من تلك المضغة النادرة، التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد كله.. وقد فسدت.. وفسد العمر كله..
آه يا quot;بدرquot; المستحيلة: من أي كوكب دُريّ هبطتِ أيتها الملائكية، التي اختطفتها مني تصاريف عبثية، لا قبل لي بها؟
وفي أي قلبٍ تحتوين كل عذابات المنهكين والمنتهكين ومن ضاقت بهم السبل وثقلت موازينهم؟
وفي أي صوب تدفقت جداولك لتروي العطاشى، وتهدي الحيارى، وتواسي الضالين والتائهين في مناكبها؟
ذلك المساء استمعت حتى الثمالة بحمام دافئ، ورشفت فنجان قهوة استثنائياً أعددته بنفسي، وارتديت أفخر ثيابي، وتعطرت بإفراط، وألقيت بأكوام الشحم التي تثقل كاهلي في مقعد السيارة، ثم وضعت إسطوانة لمنير يغني فيها: quot;بعد ما لف وبعد ما دار.. بعد ما داب واشتاق واحتار، حط الدبلة وحط الساعة.. حط سجايره والولاعة.. علق حلمه على الشماعةquot;.. وبالفعل، ساعتها كنت أضع حلماً جديداً على quot;الشماعةquot;.
لم تعد quot;شماعتيquot; تحتمل المزيد، ناءت بالأحلام المبتسرة والمجهضة، والأمنيات التي تتسرب واحدة تلو الأخرى من بين أصابعي، شعور عميق بالمرارة يلاحقني في الصحو والمنام، كأنني استيقظت فجأة لأجدني أقف على عتبات العام السادس والأربعين ولم أحقق شيئاً، كل رهاناتي خابت، وكل من تعلقت بأهدابهم خذلوني.. مازلت ألهث في مناكبها دون أن تظهر بارقة أمل واحدة تبعث على الاطمئنان، فمازلت أتدثر بخرافات لا حصر لها، كالوطن والحب والصداقة والأمل والنبل والشرف الإنساني وغيرها من الأكاذيب الصغيرة التي يقتات بها من أدركتهم حرفة الكتابة.
آه يا quot;بدرquot; يا آخر عنقود في سلسلة خيباتي، بالطبع هذا ليس اسمها الحقيقي، لا تهم الأسماء، فهي محض أكاذيب أيضاً يطلقها البشر على أنفسهم وعلى الآخرين، ثم يصدقونها..
لعلها الآن تشرب كوباً من الشاي المعطر الذي كانت تعشقه، أو لعلها في هذه اللحظة تذوب كقطعة السكر في كأس رجل آخر، أو ربما كانت نائمة متعبة بعد يوم طويل من العمل المضني، أتذكر كل كلمة كانت تقولها بحماس عن عمل المرأة، وإصرارها على التحقق في مجتمعات تمنح الذكور حقوقاً لا تقابلها التزامات، لا لشئ إلا لمصادفة قدرية جعلتهم ذكورا، وأتذكر أيضاً كيف كنت أزايد عليك يا quot;بدرquot;، فأقول إن الحياة أنثى، والسعادة أنثى، ومصر أنثى، وحتى الثروة أنثى، بينما الفشل مذكر، واليأس شرحه، وهكذا الخراب والدمار والفساد والهوان..
كنت تردين على مزايداتي تلك، وألاعيبي الصغيرة للإيقاع بك، بابتسامة كالشمس، تشرق فتمنح الوجود يوماً جديداً وتشعل في ربوعه جذوة الأمل والتحدي والنماء، وكنت أشعر بالخجل من نفسي أمام قدرتك الهائلة على احتوائي، كأنني طفل ضبطته أمه متلبساً بارتكاب حماقة مبتكرة..
تتزاحم في مخيلتي مئات الصور عن لقائنا الأول، ولمسة أيادينا لأول مرة ورائحة ذلك العطر الذي كنتِ تفضلينه، وتعليقاتك المقتضبة المعبرة على الناس والأشياء والأحوال، لكن اعترف بأنني لم أضبطك يوماً متلبسة بالاستهانة بأوجاع المأزومين والمتعبين والمهمشين، كنت تفيضين رقة وإنسانية كأنك من مواليد quot;برج الحكمةquot; فأدركتِ حقائق الدنيا مبكراً، ويا لتفاهتي أيامها حين كنت مسكوناً بثقة مفرطة لا أفهم مصدرها، ونزق لا أجد له مبرراً رغم كل هذه السنوات التي أحملها على كاهلي..
الآن.. لا أعرف سبباً محدداً لتبخر هذا النزق، وتلك الثقة، اهتز الكون حولي بشدة، وحاصرتني العذابات والخيبات من كل صوب، ولم يعد من ملاذ سوى الانغماس في البلادة والكسل، والنهم إلى الطعام لحدٍ صرت معه أقرب للأفيال، وبصدق صرت أبغض نفسي بعمق، فلم أعد اكترث بالحياة ولا أخشى الموت، ليس من باب الشجاعة طبعاً، بل نتيجة للاكتئاب والعدمية،
باختصار لم أعد أنا الذي أعرفه، بل هذا شخص آخر، تسلل إلى كياني شيئاً فشيئا حتى استحوذ عليه شكلاً وموضوعاً.. كم أكره هذا الشخص الذي quot;صادرنيquot;.. واستحوذ على روحي فألهمها عبوسها وسلواها، وتمكن من تلك المضغة النادرة، التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد كله.. وقد فسدت.. وفسد العمر كله..
آه يا quot;بدرquot; المستحيلة: من أي كوكب دُريّ هبطتِ أيتها الملائكية، التي اختطفتها مني تصاريف عبثية، لا قبل لي بها؟
وفي أي قلبٍ تحتوين كل عذابات المنهكين والمنتهكين ومن ضاقت بهم السبل وثقلت موازينهم؟
وفي أي صوب تدفقت جداولك لتروي العطاشى، وتهدي الحيارى، وتواسي الضالين والتائهين في مناكبها؟
..........
الطريق إلى المستشفى يشبه حزاماً صحراوياً يحيط بخصر القاهرة المترهل، ومع ذلك شعرت بالألفة مع تلك التضاريس البدائية، وتذكرت البيت الذي تفتحت عليه عيناي، كان مبنياً بالحجر بنفس الطريقة التي شيد بها الفراعنة مقابرهم وأهراماتهم، لكن لماذا اجتر هذه التفاصيل الآن؟
الحقيقة لا أدري.. فغاية ما يمكنني قوله إن هذه الصور والخيالات راحت تلاحقني كأنها حلم يقظة، بينما كنت ألمح على تخوم الطريق بضع خيام يقطنها البدوٌ، وتذكرت أنني اعتدتهم منذ صباي الباكر، وكي أكون أميناً لم أحبهم وحدهم، بل أحببت معهم الغجر والنور وفقراء القبط وبقايا اليهود وجيمع المهمشين، ولا أفهم لماذا أعتبرت نفسي منتمياً لهؤلاء بشكل فطري ومنحازاً إليهم بعفوية، ومنتصراً لقضاياهم دون سابق معرفة، أو شبهة مصلحة..
كنت أتردد على مضارب البدو لأقضي ساعات خلسة لا زالت رائحتها تغمر حواسي كلما تذكرتها، رغم مرور أكثر من ربع قرن على تلك الأيام الخوالي، لكنها لم تبهت في ذاكرتي، ظلت كالحلم الماثل في مخيلتي حتى اليوم..
مازلت أتذكر ذلك الشعور بأن quot;سالمquot; وأخاه quot;سويلمquot; لابد أنهما جميل بن معمر أو قيس بن الملوح، وقد تقمصا أجساد هذين النحيلين ذوي العيون السود الوسيعة العميقة، التي تشع ذكاء ومكراً، والبشرة النحاسية التي لفحتها الشمس والريح، وأن شقيقتهما quot;عاليةquot; لابد أن تكون هي quot;ليلى العامريةquot; شخصياً.. كانت تصغرني بعام واحد، ولم تكن تتعلم في المدرسة مثلي، وهكذا كان شقيقاها. كانوا ثلاثتهم يرعون الغنم، ويجمعون الحطب، أما أبوهم فكان كائناً أسطورياً بالنسبة لي على الأقل، فقد سمعت من أصدقائي quot;أبناء الحضرquot; أنه قاطع طريق تارة، وتاجر مخدرات تارة أخرى، وقاتل محترف تارات. لكن مع كل هذا كان يقابلني الرجل باحترام شديد، ويتحدث معي بندية كأني صديق له. ندية لم يعاملني بها أبي حتى مات. سألته مرة بجرأة لا أعرف حتى هذه اللحظة كيف واتتني: أحقاً يا عم أبو سالم أنت لص وقاتل وتاجر مخدرات؟
أطرق الرجل قليلاً، ولم يغضب كما توقعت، لكنه ابتسم وربت على كتفي قائلاً:
ـ إذا كنت تعتقد فعلاً أنني هكذا فماذا يأتي بك هنا؟
* لكني أتيت من أجل سالم وسويلم.
ـ وعاليه أيضاً؟
* نعم وعاليه.. فهي شقيقتي أو مثلها..
فاتسعت ابتسامة الرجل النحيف، وامتزجت بمكر فطري، وسألني بغتة:
ـ من قال لك إنني هكذا؟
* إنهم أصحابي وزملائي في المدرسة
ـ هؤلاء أطفال.. لا تهتم بما يقولون
* إذن فأنا طفل مثلهم، فهم في مثل عمري
ـ لا يا ولدي لست طفلاً.. بل أنت رجل حقيقي
* كيف؟
ـ يا ولدي الرجولة لا علاقة لها بالعمر.. الرجولة إحساس، وسلوك
* وماذا يميزني عن رفاقي؟
ـ أن تأتي هنا لتعرف الناس. رغم أنف الجميع بمن فيهم أهلك، تكون إذن رجلاً، لأنك قررت أن تفعل، وفعلت.
نبهتني هذه الجملة إلى أنني كنت بالفعل أتردد على quot;العربانquot; كما يطلق عليهم في قريتي رغم أنف أبي، فحينما عرف مصادفة أول مرة أني أتردد عليهم، منعني من مغادرة المنزل شهراً كاملاً، وظل يعيرني بأني أصادق quot;الرعاع والهواملquot;، وكثيراً ما كان يرشح لي أبناء أصدقائه، لكني لم أكن أميل لهم. إنهم باهتون وتافهون، ولا شئ يربطني بهم، كما أنهم يثرثرون كثيراً، ويكذبون بداعٍ ومن دون داع، وبدوا لي كائنات مزعجة مملة، وليسو من نفس الكوكب الذي أنتمي إليه، وكنت أتقبلهم على مضض، كما لو كنت في زيارة رسمية صحبة أبي، أو جدي.
الحقيقة لا أدري.. فغاية ما يمكنني قوله إن هذه الصور والخيالات راحت تلاحقني كأنها حلم يقظة، بينما كنت ألمح على تخوم الطريق بضع خيام يقطنها البدوٌ، وتذكرت أنني اعتدتهم منذ صباي الباكر، وكي أكون أميناً لم أحبهم وحدهم، بل أحببت معهم الغجر والنور وفقراء القبط وبقايا اليهود وجيمع المهمشين، ولا أفهم لماذا أعتبرت نفسي منتمياً لهؤلاء بشكل فطري ومنحازاً إليهم بعفوية، ومنتصراً لقضاياهم دون سابق معرفة، أو شبهة مصلحة..
كنت أتردد على مضارب البدو لأقضي ساعات خلسة لا زالت رائحتها تغمر حواسي كلما تذكرتها، رغم مرور أكثر من ربع قرن على تلك الأيام الخوالي، لكنها لم تبهت في ذاكرتي، ظلت كالحلم الماثل في مخيلتي حتى اليوم..
مازلت أتذكر ذلك الشعور بأن quot;سالمquot; وأخاه quot;سويلمquot; لابد أنهما جميل بن معمر أو قيس بن الملوح، وقد تقمصا أجساد هذين النحيلين ذوي العيون السود الوسيعة العميقة، التي تشع ذكاء ومكراً، والبشرة النحاسية التي لفحتها الشمس والريح، وأن شقيقتهما quot;عاليةquot; لابد أن تكون هي quot;ليلى العامريةquot; شخصياً.. كانت تصغرني بعام واحد، ولم تكن تتعلم في المدرسة مثلي، وهكذا كان شقيقاها. كانوا ثلاثتهم يرعون الغنم، ويجمعون الحطب، أما أبوهم فكان كائناً أسطورياً بالنسبة لي على الأقل، فقد سمعت من أصدقائي quot;أبناء الحضرquot; أنه قاطع طريق تارة، وتاجر مخدرات تارة أخرى، وقاتل محترف تارات. لكن مع كل هذا كان يقابلني الرجل باحترام شديد، ويتحدث معي بندية كأني صديق له. ندية لم يعاملني بها أبي حتى مات. سألته مرة بجرأة لا أعرف حتى هذه اللحظة كيف واتتني: أحقاً يا عم أبو سالم أنت لص وقاتل وتاجر مخدرات؟
أطرق الرجل قليلاً، ولم يغضب كما توقعت، لكنه ابتسم وربت على كتفي قائلاً:
ـ إذا كنت تعتقد فعلاً أنني هكذا فماذا يأتي بك هنا؟
* لكني أتيت من أجل سالم وسويلم.
ـ وعاليه أيضاً؟
* نعم وعاليه.. فهي شقيقتي أو مثلها..
فاتسعت ابتسامة الرجل النحيف، وامتزجت بمكر فطري، وسألني بغتة:
ـ من قال لك إنني هكذا؟
* إنهم أصحابي وزملائي في المدرسة
ـ هؤلاء أطفال.. لا تهتم بما يقولون
* إذن فأنا طفل مثلهم، فهم في مثل عمري
ـ لا يا ولدي لست طفلاً.. بل أنت رجل حقيقي
* كيف؟
ـ يا ولدي الرجولة لا علاقة لها بالعمر.. الرجولة إحساس، وسلوك
* وماذا يميزني عن رفاقي؟
ـ أن تأتي هنا لتعرف الناس. رغم أنف الجميع بمن فيهم أهلك، تكون إذن رجلاً، لأنك قررت أن تفعل، وفعلت.
نبهتني هذه الجملة إلى أنني كنت بالفعل أتردد على quot;العربانquot; كما يطلق عليهم في قريتي رغم أنف أبي، فحينما عرف مصادفة أول مرة أني أتردد عليهم، منعني من مغادرة المنزل شهراً كاملاً، وظل يعيرني بأني أصادق quot;الرعاع والهواملquot;، وكثيراً ما كان يرشح لي أبناء أصدقائه، لكني لم أكن أميل لهم. إنهم باهتون وتافهون، ولا شئ يربطني بهم، كما أنهم يثرثرون كثيراً، ويكذبون بداعٍ ومن دون داع، وبدوا لي كائنات مزعجة مملة، وليسو من نفس الكوكب الذي أنتمي إليه، وكنت أتقبلهم على مضض، كما لو كنت في زيارة رسمية صحبة أبي، أو جدي.
..........
رحل العربان. وما أكثر ما كان العربان يرحلون ويحل غيرهم، لكن هذه المرة أتى قوم لا يشبهون كل من عرفتهم من قبل، إنهم كثيرون جداً، وبشرتهم لم تلفحها الشمس كالعربان، خاصة فتياتهم. إنهن بيض وأحياناً شقر، وأطفالهم حاذقون يتحدثون نفس لهجتي لكنهم فجأة يتحدثون لهجة أو بالأحرى لغة لم أسمعها من قبل، عرفت بعد سنوات أنها لغتهم quot;لغة الحلبquot; أو quot;النورquot;، كما يطلق على quot;الغجرquot; في صعيد مصر، وأن هؤلاء ليسو من quot;العربانquot;، بل إنهم غير كل الناس. إنهم غجر!
ونسيت quot;العربانquot;، ووقفت مشدوهاً أمام هؤلاء القوم الغرباء. ماذا يعني أنهم quot;غجرquot;؟
quot;يعني أنهم قوم من اللصوص والمحتالين عديمي الكرامة الذين يمارسون كل صنوف الغش والخداع، وترقص نساؤهم في الموالد والأفراح، ويسرق أطفالهم كل شئquot;.. بهذه العبارات القاسية لخص لي جدي الذي كان أزهرياً حصل منه على شهادة quot;العالِميةquot;، لكنه لم يعمل يوماً في الحكومة، وتفرغ لزراعة ما ورثه من أراضٍ. غير أنه ظل يؤم الناس في الجمعة والجماعة، ويتقدم الصفوف في مجالس الصلح، وما أكثرها.
هذا الرجل الثمانيني كان صديقي بكل ما يترتب على هذه الكلمة من نتائج، كنا نتناقش معاً بمنتهى الحرية والحميمية والأريحية، وكنا نختلف كثيراً، وكنا نتخاصم أحياناً، لكنه كان دائماً هو الذي يسعى إلى مصالحتي، وكثيراً ما تدللت عليه. ورفضت رشاواه رغم رغبتي فيها.
عندما حدثني عن الغجر بهذه الأوصاف القاسية، صدمت، وثرت في وجهه:
ـ يا جدي لكنهم بشر مثلنا
* نعم. وهل قلت غير ذلك؟ لكن ربك لم يخلق الناس سواسية
ـ بل هم هكذا. الناس سواسية كأسنان المشط
* ومن قال إن أسنان المشط سواسية؟
دفعني هذا الحوار لمغامرة جديدة كالعادة، قررت أن أكتشفهم بنفسي. وذهبت إليهم وحدي. إنهم مختلفون فعلاً. نساؤهم رائعات.. متبرجات وجريئات، ورجالهم مبتسمون دائماً، أما الأطفال فقد استقبلوني بدهشة. كأنني أنا المختلف وليسو هم، راحوا يمطرونني بالأسئلة الفضولية والجريئة لحد الوقاحة، سألوا عن منزلي. فأشرت إليه فانبهروا، ولم يصدقوا الأمر، وعن هذه الملابس التي أرتديها، وعن عمل أبي. وبعد ساعة أو أكثر. طلبوا مني أن أشاركهم اللعب، فرفضت لأني كنت أتصور نفسي أكبر من التورط في quot;لعب العيالquot;. فازدادت دهشتهم، وعدت لمنزلي لاكتشف أنهم سرقوا حافظة نقودي.
لم أنم ليلتها. أحسست بالإهانة والخديعة. ولم أجرؤ على الإفصاح لأمي أو جدي بسرقة حافظتي، وفي الصباح لم أذهب للمدرسة، بل توجهت مباشرة إليهم. إلى هؤلاء quot;الغجر اللصوصquot;، فلم أجد الفتيان الذين التقيتهم أمس، بل كانت هناك فتيات يانعات في عمر خالاتي. كُنّ في مطلع العشرينات. بيضاوات مشرقات دائمات الضحك، وأخذن يتبادلن الحديث معي بجرأة لم أعهدها من قبل، بل وصل الأمر لأن تمسك إحداهن يدي وتقبلها. والأخرى تمرر أصابعها بين شعري.. ارتبكت.. كنت طفلاً لم أبلغ الحلم بعد، لكن جذوة دفينة كانت تتفجر. وتشتعل.
وما حدث أنني نسيت حافظتي، وقلت لنفسي لدى عودتي من هذه الزيارة quot;الفردوسيةquot;: لم يكن بالحافظة سوى جنيه واحد، وصور شخصية لا يهم أن أفقدها، فلن يسألني أحدُ عنها. وهكذا نسيتها quot;بمزاجيquot;، أو أقنعت نفسي بهذا التبرير، الذي مازلت ألوذ به كلما تعرضت لخديعة.
المهم أنني أدمنت زيارة الغجريات. وتطور الأمر فصرت أحمل لهن البسكويت الناعم الذي كانت أمي تعده خصيصاً لأبي، كنت أسرق بعضه، وألفه في ورق مفضض جميل واشتري quot;كوكا كولاquot; وأحمل كل هذا وأذهب إليهن. لم أتعلق بواحدة محددة منهن في البداية، كان يروق لي quot;المناخ العامquot;، وكنت أشعر كأنني فارسهن جميعا، وأن هؤلاء لاشك يتسابقن للتقرب مني.
بعد أيام تعلقت عيني بفتاة منهن تدعى quot;بدرquot;. نعم كان اسمها هكذا. وكانت بالفعل quot;بدراًquot;، عيناها مثل حبتي بندق. فمها يشبه الناي. شعرها هو الشتاء بكل أمطاره منسدلاً على جبين هو الصيف بكل قيظه. كانت تبدو أنثى مكتملة الأركان. لهذا لم أصدقها حين قالت لي إنها لا تكبرني إلا بعامين اثنين فقط، وقلت في نفسي لابد أنها تهون عليّ الأمر. وهذا يعني أنني أهمها على نحو ما.
لم أكن اهتم كثيراً بمعنى لهفتي على لقائها، أو بتعريف محدد لهذا الدفء الذي ينساب من أصابعها حينما تلتقيان بكفي. كنت أهيم بنظراتها وابتساماتها. لكني لم أجتهد في تفسير هذه المشاعر. بل تركت روحي الغضة لها. تسير في دروب اللهفة والبراءة. وترحل كالعربان والسحب والطيور البرية. والأيام...
ترى، أين ذهبت هذه الخرافية المتفردة، وأين انتهى بها التسكع في البراري والحواضر؟
ذات صباح تعللت بمغص مفاجئ وتركت المدرسة لأذهب للقائها الذي اعتدت عليه شهرين كاملين. لكن عندما وصلت هناك لم أجد سوى بقايا. بقايا قوم كانوا يعيشون هنا ومعهم أميرة اسمها quot;بدرquot;.. كانت تغني لي وتهدهدني.. وأنا مستلقٍ على الرمال كفارسٍ عائدٍ للتو منتصراً من غزوة خرافية..
لم أجد من أسأله عن هؤلاء الذين رحلوا. وامتدت رحلة عودتي للمنزل أكثر من ساعة بعد ان كنت أقطعها في دقائق. حاولت أن أتجاهل جدي الذي كان يجلس مع بعض أصدقائه الشياب، لكنه ناداني. فذهبت إليه عاجزاً عن إخفاء انكساري.
ـ ماذا بك؟
* لا شئ.. متعبٌ قليلاً
ـ طيب روح نام، وعندما تستيقظ تعال أريد ان أتحدث إليك
لم أنم. بل ألقيت جسدي في حضن أمي، ورحت أبكي بحرقة أبكتها، وهي تتلو آيات القرآن الكريم، وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وتحرق أعواد البخور، وتلعن النسوة الحسودات.
كانت هذه هي المرة الأولى ـ لكنها ليست الأخيرة ـ التي بكيت فيها بهذه الحرقة، لم تسألني أمي والحمد لله عن سبب هذا البكاء. لكني فوجئت بجدي يصعد للطابق الثاني، ونادراً ما كان يفعل ذلك، وهو متكئ على عصاه وينهج. أمر أمي بمغادرة الغرفة، وتركنا وحدنا. ففعلت دون أن تنطق، وللمرة الأولى أجد ذلك العجوز الباسم دوماً مهموماً. سألني بصوت عميق: النداهة؟، فلم أجب، إذ لم أفهم ما كان يقصده بالضبط.
يا ولدي هذه هي النداهة. تناديك فترحل خلفها، تجوب الصحاري وتعبر الأنهار وتتسلق الأسوار. ولا تنال في النهاية سوى السراب. نادت جدك قبل أكثر من خمسين عاماً فطاوعها وسار وراءها سنين. وعاد منكسر الروح. لم يعد يصلح بعدها سوى للانتظار. انتظار ما لا يأتي.
ومضى الرجل محدقاً في فضاء نافذة الغرفة، وصوته يزداد تهدجاً، كأنه على وشك البكاء:
quot;هل تعرف أن زملائي في الأزهر أصبحوا قضاة وعلماء كبار لبعضهم عامود في الأزهر، حتى أن أحدهم أصبح وزيراً، وأنا كما تراني، لا أرضاً قطعت، ولا براً أدركتquot;.
بدا الرجل أكبر كثيراً عما كنت أراه من قبل. وعلا وجهه شحوب يشبه الموت. وضمني لصدره لأول ـ وآخر ـ مرة في حياته، ومضى يحكي:
ـ النداهة يا ولدي لا تنادي سوى الفتيان. لا يعنيها أمر الباهتين.
* عن أي شئ تتحدث يا جدي؟
ـ عنها
* وهل تعرفها؟
ـ نعم.. أعرفها، ولو دققت في عيوني لرأيت صورتها
* لكنها صغيرة يا جدي
ـ هي دائماً هكذا يا ولدي
* اسمها بدر؟
ـ لا يهم اسمها يا ولدي
ونسيت quot;العربانquot;، ووقفت مشدوهاً أمام هؤلاء القوم الغرباء. ماذا يعني أنهم quot;غجرquot;؟
quot;يعني أنهم قوم من اللصوص والمحتالين عديمي الكرامة الذين يمارسون كل صنوف الغش والخداع، وترقص نساؤهم في الموالد والأفراح، ويسرق أطفالهم كل شئquot;.. بهذه العبارات القاسية لخص لي جدي الذي كان أزهرياً حصل منه على شهادة quot;العالِميةquot;، لكنه لم يعمل يوماً في الحكومة، وتفرغ لزراعة ما ورثه من أراضٍ. غير أنه ظل يؤم الناس في الجمعة والجماعة، ويتقدم الصفوف في مجالس الصلح، وما أكثرها.
هذا الرجل الثمانيني كان صديقي بكل ما يترتب على هذه الكلمة من نتائج، كنا نتناقش معاً بمنتهى الحرية والحميمية والأريحية، وكنا نختلف كثيراً، وكنا نتخاصم أحياناً، لكنه كان دائماً هو الذي يسعى إلى مصالحتي، وكثيراً ما تدللت عليه. ورفضت رشاواه رغم رغبتي فيها.
عندما حدثني عن الغجر بهذه الأوصاف القاسية، صدمت، وثرت في وجهه:
ـ يا جدي لكنهم بشر مثلنا
* نعم. وهل قلت غير ذلك؟ لكن ربك لم يخلق الناس سواسية
ـ بل هم هكذا. الناس سواسية كأسنان المشط
* ومن قال إن أسنان المشط سواسية؟
دفعني هذا الحوار لمغامرة جديدة كالعادة، قررت أن أكتشفهم بنفسي. وذهبت إليهم وحدي. إنهم مختلفون فعلاً. نساؤهم رائعات.. متبرجات وجريئات، ورجالهم مبتسمون دائماً، أما الأطفال فقد استقبلوني بدهشة. كأنني أنا المختلف وليسو هم، راحوا يمطرونني بالأسئلة الفضولية والجريئة لحد الوقاحة، سألوا عن منزلي. فأشرت إليه فانبهروا، ولم يصدقوا الأمر، وعن هذه الملابس التي أرتديها، وعن عمل أبي. وبعد ساعة أو أكثر. طلبوا مني أن أشاركهم اللعب، فرفضت لأني كنت أتصور نفسي أكبر من التورط في quot;لعب العيالquot;. فازدادت دهشتهم، وعدت لمنزلي لاكتشف أنهم سرقوا حافظة نقودي.
لم أنم ليلتها. أحسست بالإهانة والخديعة. ولم أجرؤ على الإفصاح لأمي أو جدي بسرقة حافظتي، وفي الصباح لم أذهب للمدرسة، بل توجهت مباشرة إليهم. إلى هؤلاء quot;الغجر اللصوصquot;، فلم أجد الفتيان الذين التقيتهم أمس، بل كانت هناك فتيات يانعات في عمر خالاتي. كُنّ في مطلع العشرينات. بيضاوات مشرقات دائمات الضحك، وأخذن يتبادلن الحديث معي بجرأة لم أعهدها من قبل، بل وصل الأمر لأن تمسك إحداهن يدي وتقبلها. والأخرى تمرر أصابعها بين شعري.. ارتبكت.. كنت طفلاً لم أبلغ الحلم بعد، لكن جذوة دفينة كانت تتفجر. وتشتعل.
وما حدث أنني نسيت حافظتي، وقلت لنفسي لدى عودتي من هذه الزيارة quot;الفردوسيةquot;: لم يكن بالحافظة سوى جنيه واحد، وصور شخصية لا يهم أن أفقدها، فلن يسألني أحدُ عنها. وهكذا نسيتها quot;بمزاجيquot;، أو أقنعت نفسي بهذا التبرير، الذي مازلت ألوذ به كلما تعرضت لخديعة.
المهم أنني أدمنت زيارة الغجريات. وتطور الأمر فصرت أحمل لهن البسكويت الناعم الذي كانت أمي تعده خصيصاً لأبي، كنت أسرق بعضه، وألفه في ورق مفضض جميل واشتري quot;كوكا كولاquot; وأحمل كل هذا وأذهب إليهن. لم أتعلق بواحدة محددة منهن في البداية، كان يروق لي quot;المناخ العامquot;، وكنت أشعر كأنني فارسهن جميعا، وأن هؤلاء لاشك يتسابقن للتقرب مني.
بعد أيام تعلقت عيني بفتاة منهن تدعى quot;بدرquot;. نعم كان اسمها هكذا. وكانت بالفعل quot;بدراًquot;، عيناها مثل حبتي بندق. فمها يشبه الناي. شعرها هو الشتاء بكل أمطاره منسدلاً على جبين هو الصيف بكل قيظه. كانت تبدو أنثى مكتملة الأركان. لهذا لم أصدقها حين قالت لي إنها لا تكبرني إلا بعامين اثنين فقط، وقلت في نفسي لابد أنها تهون عليّ الأمر. وهذا يعني أنني أهمها على نحو ما.
لم أكن اهتم كثيراً بمعنى لهفتي على لقائها، أو بتعريف محدد لهذا الدفء الذي ينساب من أصابعها حينما تلتقيان بكفي. كنت أهيم بنظراتها وابتساماتها. لكني لم أجتهد في تفسير هذه المشاعر. بل تركت روحي الغضة لها. تسير في دروب اللهفة والبراءة. وترحل كالعربان والسحب والطيور البرية. والأيام...
ترى، أين ذهبت هذه الخرافية المتفردة، وأين انتهى بها التسكع في البراري والحواضر؟
ذات صباح تعللت بمغص مفاجئ وتركت المدرسة لأذهب للقائها الذي اعتدت عليه شهرين كاملين. لكن عندما وصلت هناك لم أجد سوى بقايا. بقايا قوم كانوا يعيشون هنا ومعهم أميرة اسمها quot;بدرquot;.. كانت تغني لي وتهدهدني.. وأنا مستلقٍ على الرمال كفارسٍ عائدٍ للتو منتصراً من غزوة خرافية..
لم أجد من أسأله عن هؤلاء الذين رحلوا. وامتدت رحلة عودتي للمنزل أكثر من ساعة بعد ان كنت أقطعها في دقائق. حاولت أن أتجاهل جدي الذي كان يجلس مع بعض أصدقائه الشياب، لكنه ناداني. فذهبت إليه عاجزاً عن إخفاء انكساري.
ـ ماذا بك؟
* لا شئ.. متعبٌ قليلاً
ـ طيب روح نام، وعندما تستيقظ تعال أريد ان أتحدث إليك
لم أنم. بل ألقيت جسدي في حضن أمي، ورحت أبكي بحرقة أبكتها، وهي تتلو آيات القرآن الكريم، وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وتحرق أعواد البخور، وتلعن النسوة الحسودات.
كانت هذه هي المرة الأولى ـ لكنها ليست الأخيرة ـ التي بكيت فيها بهذه الحرقة، لم تسألني أمي والحمد لله عن سبب هذا البكاء. لكني فوجئت بجدي يصعد للطابق الثاني، ونادراً ما كان يفعل ذلك، وهو متكئ على عصاه وينهج. أمر أمي بمغادرة الغرفة، وتركنا وحدنا. ففعلت دون أن تنطق، وللمرة الأولى أجد ذلك العجوز الباسم دوماً مهموماً. سألني بصوت عميق: النداهة؟، فلم أجب، إذ لم أفهم ما كان يقصده بالضبط.
يا ولدي هذه هي النداهة. تناديك فترحل خلفها، تجوب الصحاري وتعبر الأنهار وتتسلق الأسوار. ولا تنال في النهاية سوى السراب. نادت جدك قبل أكثر من خمسين عاماً فطاوعها وسار وراءها سنين. وعاد منكسر الروح. لم يعد يصلح بعدها سوى للانتظار. انتظار ما لا يأتي.
ومضى الرجل محدقاً في فضاء نافذة الغرفة، وصوته يزداد تهدجاً، كأنه على وشك البكاء:
quot;هل تعرف أن زملائي في الأزهر أصبحوا قضاة وعلماء كبار لبعضهم عامود في الأزهر، حتى أن أحدهم أصبح وزيراً، وأنا كما تراني، لا أرضاً قطعت، ولا براً أدركتquot;.
بدا الرجل أكبر كثيراً عما كنت أراه من قبل. وعلا وجهه شحوب يشبه الموت. وضمني لصدره لأول ـ وآخر ـ مرة في حياته، ومضى يحكي:
ـ النداهة يا ولدي لا تنادي سوى الفتيان. لا يعنيها أمر الباهتين.
* عن أي شئ تتحدث يا جدي؟
ـ عنها
* وهل تعرفها؟
ـ نعم.. أعرفها، ولو دققت في عيوني لرأيت صورتها
* لكنها صغيرة يا جدي
ـ هي دائماً هكذا يا ولدي
* اسمها بدر؟
ـ لا يهم اسمها يا ولدي
..........
قرأت بعد سنوات quot;نداهةquot; يوسف إدريس، وهيمني الطيب صالح في quot;موسم الهجرة إلى الشمالquot;، وأبهرني quot;قنديل أم هاشمquot; ليحيى حقي، وأشعل صلاح جاهين براكين الحكمة في قلبي برباعياته، وأخذني أمل دنقل إلى عوالم حارة، وهزني مظفر النواب بلغته الصادمة، لكن بقي ذلك التفرد لنداهتي الأسطورية القديمة.. لا تبرح مضارب العربان وموالد الغجر.. رغم موت جدي، الذي لحق به أبي فجأة دون مقدمات..
وبعدهما ماتت أشياءٌ كثيرة، واعتدت تلقي أنباء الموت بقسوة.. ومن دون دمعة واحدة
أفسدتني المرارات.. والأسوأ منها هو اعتيادها
لكنني مازلت أحلم بالنداهة التي غابت.. ولن تعود
يوجعني اليوم أنني مضطر للاعتياد على غيابهم جميعاً، وحينما أزور ذلك البيت العتيد ولا أجد أحداً ممن أحببتهم فيه، رغم أن جميع أشيائهم حولي، وكل ما في البيت يحمل بصماتهم وصورهم ورائحتهم، أبكي في صمت، واجتهد ألا يكتشف أحد ما يجول بخاطري، فلم يعد هناك من خلاص سوى التسليم بأنهم أصبحوا الآن تحت التراب.. هناك بعيداً عن منزلي القاهري، لمسافة أقطعها كل عام مرة أو اثنتين على الأكثر، هي مسافتي إليهم.. إلى ملاعب الصبا حيث يرقدون في سلام،
جدي،
وأبي،
والنداهة،
وبضعة أحلام تتبعثر من يدي.
[email protected]
وبعدهما ماتت أشياءٌ كثيرة، واعتدت تلقي أنباء الموت بقسوة.. ومن دون دمعة واحدة
أفسدتني المرارات.. والأسوأ منها هو اعتيادها
لكنني مازلت أحلم بالنداهة التي غابت.. ولن تعود
يوجعني اليوم أنني مضطر للاعتياد على غيابهم جميعاً، وحينما أزور ذلك البيت العتيد ولا أجد أحداً ممن أحببتهم فيه، رغم أن جميع أشيائهم حولي، وكل ما في البيت يحمل بصماتهم وصورهم ورائحتهم، أبكي في صمت، واجتهد ألا يكتشف أحد ما يجول بخاطري، فلم يعد هناك من خلاص سوى التسليم بأنهم أصبحوا الآن تحت التراب.. هناك بعيداً عن منزلي القاهري، لمسافة أقطعها كل عام مرة أو اثنتين على الأكثر، هي مسافتي إليهم.. إلى ملاعب الصبا حيث يرقدون في سلام،
جدي،
وأبي،
والنداهة،
وبضعة أحلام تتبعثر من يدي.
[email protected]
التعليقات