بسام صالح مهدي: انشغل كثير من النقاد قديماً وحديثاً بنشأة الأوزان عند العرب، وسبب هذا الانشغال يرجع إلى رغبة الكشف عن أصولها العربية، فالنقاد أرجعوا نشأتها إلى أسباب عددية، منهم من رأى أنها مأخوذة من أوزان أمم أخرى(1)، ومنهم من رأى أصالة نشأتها وذهب إلى أنها جاءت من خلال إيقاعات الحياة اليومية للأوائل وهو أقرب إلى مشية الإبل عند سفرهم(2). وهو رأيٌ يستند إلى أحد معاني كلمة الرجز ((اضطراب مشي الإبل)) وهو لا يتعدى حدود الظن المتولد من مقارنتهم لحركات الإبل بمقاطع الوزن(3) وهكذا عمَّموا رأيهم على الشعر أيضاً.
ومن ذهب لهذا الرأي يواجه بأنه حتى لو كان وزن الرجز مستنبطاً من رجز الإبل، فإنه لم يصنف لديهم على أنه شعر(4)، والرجز دليل مرض يصيب الإبل فيضطرب مشيهاً(5) فكيف يكون الاضطراب في المشي مطابقاً للانتظام في وزن الشعر، فلا تقارب بينهما شبهاً، والمشي المختل المضطرب حالة لا تشمل كل الإبل إنما تصيب المريض منها، أي: أن مشيتها هذه طارئة على بعضها وليست حالتها الدائمة لتكون ظاهرة يومية في حياتهم.
فإذا صح أنهم أطلقوا اسم مشيتها المضطربة على نوع من الكلام (الرجز) أرادوا إذن تثبيت اضطراب هذا النوع من الكلام واختلافه عن (المنظوم/ الشعر) بتشبيه بما يضطرب في مَشيِهِ عندما يمرض. وهذا يدل على أن العرب كانوا على إدراك نوعيٍّ بانتظام الوزن، والتمييز بينه وبين ما يضطرب منه.
إن الرأي القائل بإرجاع الأوزان إلى أصوات الطبيعة يفترض أن العرب لما أحسوا بوجود الإيقاع في الحياة أدخلوه إلى كلامهم، وأطلقوا تسمية هذه الأصوات الطبيعية على ما دخل في كلامهم، وهو رأي يجرَّد اللغة العربية من أي انتظام إيقاعي وينسى أن اللغة هي أيضاً أصوات طبيعية، وما ذكرته كتب النقد القديم تبين أن العرب اعتمدوا التسمية بعد ظهور الوزن أي وجدوا شيئاً فأرادوا له اسماً، في ما يخص الرجز؛ فما هو الحال في أوزانهم الأخرى وهم لم يَمنَحوا تسميةً لها على الرغم من تنوعها وكثرتها؟ إنما اعتمدوا على تسميتين لا غير هما: الرجز لما اضطرب من إيقاع، والشعر لما انتظم إيقاعه.
إذن، القول أن الأوزان استنبطت من حياتهم أمرٌ ضعيف، لأنهم لم يكونوا معنيين بتفاصيل الإيقاع وضبطه إلى هذه الدرجة، واكتفوا بتحسسها وتمييز المضطرب منها، وكان أجدر بهم ــ لو أن الأمر كما شاءه بعض النقاد ــ أن يضعوا أسماءً لبحور الشعر ويستنبطوها من أصوات وحركات وإيقاعات حياتية يومية أخرى(6).
وذهب بعض النقاد إلى أن نشأة الأوزان هي من الغناء لوجود الصلة العضوية بين الشعر والغناء، مثل المرزباني وابن رشيق وغيرهم(7)، وابن رشيق يرى أن العرب احتاجوا ((إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأنجاد، وسمحائها الأجواد، لتهز أنفسها إلى الكرم وتدل أبناءها على حسن الشيم، فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام. فلما تم لهم وزنه سموه شعراً، لأنهم شعروا به، أي فطنوا))(8).
وعدَّ أدونيس ظاهرة الإنشاد دليل ارتباطٍ بين الشعر والغناء فيقول: ((النشيد جسدٌ مفاصله الوزن والإيقاع، والنغم إحكامه الغني، تتوقف استجابة السمع. فالنشيد فن في الصوت يفترض فناً يقابله هو فن الإصغاء. وقد تم الإحكام بالتوصل شيئاً فشيئاً إلى ابتكار بُنىً إيقاعية خاصة))(9).
إن ما يعترض قول أدونيس أن النشيد (إنشاد الشعر) يجيء بعد وجود الشعر وشيوعه ونظمه وإحكام أوزانه، وإنشاد الشعر لا يسبق نظمه فكيف وضعوا ــ على وفق رأي أدونيس ــ وابتكروا بُنى إيقاعية خاصة (أوزان) تلائم الإنشاد الذي لابدَّ أنه وجد بعد وجود النص ا لموزون عند العرب؛ هذا ونحن نجهل تماماً طريقة أدائهم للإنشاد وربما كان أمر القرآن بترتيل سوَّرهِ مُتعلقٌ بمخالفة الإنشاد الشعري في عصره، مما يمهد لأن نقول أن ثمة إنشاداً خاصاً للشعر، لا يشبه الإنشادات الدينية وهو من المؤكد يختلف عن الإنشاد في المعابد والطقوس الدينية الوثنية في الجزيرة العربية إذ أنها تقترب من التنغيم والغناء، وهذا ما توارثته الكنيسة المسيحية عبر العصور.
ويذكر أدونيس رأياً آخر يبين أن أوزان الشعر تولَّدت من السجع والرجز وتطورت إلى القصيد و((هو اكتمال التطور الإيقاعي، وهو شطران متوازيان، موزونان، حلا محل سجعتين متوازنتين))(10).
إن أدونيس في طرحة هذا يسعى إلى إثبات أن الأوزان مستنبطات من بيئة قديمة لا تصلح لبيئتنا وعصرنا، وجهدَ في جَمع ولصق الأقوال من النقاد القدماء ليثبت أن الأوزان ((آلة أو قاعدة، وأن البحر حالة وزنية خاصة، أي حالة غنائية بتأليف خاص لعناصر اللحن))(11) والحالة الغنائية حالة شفوية وليست من متطلبات العصر الحديث عصر الكتابة الذي لا مجال للشفوية فيه ــ حسب رأيه ــ .
واستطاع أدونيس أن يستخرج غاية النقاد العرب من معالجتهم لنشأة الوزن المقفى إذ أكّدوا على أن بنية الوزن المقفى في الشعرية الجاهلية ليست احتذاءً لشعر أية أمة أخرى، وعلى أنها للعرب وحدهم، وخاصة بهم وأن نشأتها نابعة من حداء الإبل تطورت إلى كلام يشبه التوقيع في الحرب والسفر وانتهت بالتفاعيل(12).
إذاً فالنقاد القدماء أرادوا أن يثبتوا تميز فنون العرب عن غيرها، فأرجعوا نشأة الأوزان إلى محيطهم الطبيعي (الإبل وال سجع والغناء العربي في الجاهلية) وإن كانت هذه غايتهم فكيف صادق أدونيس عليها وأخذ بآرائهم عندما أراد النيل من الأوزان وسحبها إلى منطقة عدم الملاءمة لمتطلبات عصر الكتابة.
إن هذه الأقوال لا تخلو من أن تكون آراءً ارتآها النقاد، ولم تتسم بالقطعية المتضمنة برهاناً ناصعاً، فهي تذهب في مجال الافتراض عند القدماء لإثبات أصالة الأوزان العربية، وفي مجال الاقتداء بافتراضهم عند المعاصرين بدعوة إلغاء ما لا يلائم العصرنة.
يقول (جْوِيّار) ــ وهو أحد المستشرقين الذين كان لهم رأيٌ في نشأة الأوزان ـ: ((العرب بدؤوا بالتعبير عن أنفسهم بالنثر خاصة، ثم استجابة لدافع طبيعي لهذه الحاجة الفنية الجمالية الفطرية عند البشر (...) في إحداث لون من النظام ونوع من الانتظام فيما يأتونه تصَوَّروا أن يقطعوا حديثهم إلى جمل من نفس الطول، ونزعوا إلى جعل هذه الجمل متشابهة فيما بينها أكبر قدر ممكن من التشابه. والوسيلة الوحيدة التي كانت بإمكانهم، هي أن يحاكوا في الجملة نفس الصوت الذي سمعوه في الجملة قبلها، وهكذا نشأ السجع. لكن نتج عن هذا الأمر نفسه، القائم على محاكاة صيغ الكلمات وترتيبها بين الجمل، نوع من الإيقاع أطرب أسماعهم، وكان عليهم أن يبحثوا عن طريقة لترتيب هذه الكلمات بشكل يحدث لهم التأثير الأكثر إمتاعاً، فتوصلوا إلى ذلك بأحد أمرين، إما باستخدام كلمات من نفس الصيغة من كل شطر، وإما برصف كلمات مختلفة من شأن اجتماعها مع بعضها أن يولد مجموعات إيقاعية متشابهة، وكانت البحور))(13). إن هذه النتيجة التي توصل إليها (جْوِيّار) مرت بمراحل وآراء سبقته، فقام باستخلاصها منها(14).
إن نشأة الأوزان لا تخلو من مصادفة لغوية تركيبية أسلوبية، صادفت ذوات ذكية تمكنت من استغلالها وتوسيعها واستخدامها أفضل استخدام فكانت الأوزان محسوسة وتم التعامل معها على وفق هذا الحس قبل أن تضبط ويجعلها الخليل داخل هيئات التفاعيل.
إن صدور الأوزان في حقيقته حدث من اللغة وتنوع تراكيبها فهي قد اكتشفت ولم تبتكر ولم تضاف بفعل مؤثر خارجي، ولا نستبعد دور السجع في هذا الأمر من جانب أنه أوجد مساحات جُمَليّة متساوية في بعض نصوصه، إلا أن دوره الحقيقي يتمثل في نشأة القافية أكثر من تمثله في نشأة الوزان، فتكرار روي في السجع يقابله تكرار روي في أبيات الشعر، إن القافية بتكرارها لا تسهم مساهمة مختلفةٍ عن الأصوات المتوافرة في داخل البيت الشعري عند ضبط وزنه سوى أنها تعدّ نهاية البيت، ففي التقطيع العروضي لأي بيت من أي بحر من البحور، لا تشكل القافية ميزة مغايرة، بل تنضوي مع باقي الأصوات ولا يظهر تكرارها في وزن البيت ومثال ذلك:
قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ
بسِقطِ اللِوى بَينَ الدَخولِ فحَومَلِ
فَتوضِحَ فَالمِقراةِ لم يَعفُ رَسمُها
لِما نَسَجَتها مِن جَنوبٍ وَشَمالِ
***

فَعُوْلَنْ مَفَاعِيْلنْ فَعُولُنْ مَفَاعِلُنْ
فَعُوْلُنْ مَفَاعِيْلُنْ فعُولُ مَفَاعِلُنْ
فَعُوْلُ مَفَاعِيْلُنْ فَعُوْلُنْ مَفَاعِلُنْ
فَعُوْلُ مَفَاعِيْلُنْ فَعُوْلُنْ مَفَاعِلُنْ
نلاحظ أن صوت القافية وتكرارها في ميزان العروض، لا تختلف تأشيراته عن غيره من الأصوات الأخرى في داخل الأبيات، وأن إيقاعية القافية بكل ما لها من قوّة عند الإنشاد قد اختفت في التقطيع، فلو جلبنا بيتاً آخر من قصيدة أخرى على البحر نفسه (الطويل) على أن يكون البيت منتهياً بقافية وروي غير اللام لما تغير شيء في شكل التقطيع العروضي، والسبب أن الوزن الشعري يعتمد في تحديد مقاطعه على الحركات والسكون، ولا يعتمد على الأحرف.
إذاً فصوت القافية القوي لا يتمثل في شيء من هيئات التفاعيل؛ ويتمثل في إيقاع ناجم عن تكرارها في الأبيات وهو إيقاع آخر منعزل عن الوزن، والشعراء استغلوا هذا النوع من الإيقاع فمنحوا أبياتهم بعداً صوتياً أعلى من الوزن وأشد بروزاً، ومثال ذلك قول جنوب الهذلية(15):
وَحَيٍّ أبَحتَ وَحَيٍّ صَبَحتَ
غَداةَ الهياجِ مَنايا عِجالا
وحربٌ وردتَ وثغرٌ سددتَ
وعلج شددت عليه الحبالا
ومال حويتَ وخيل حميتَ
وضيف قَرَيتَ يخاف الوكالا
أطلق النقاد القدماء على هذا الأسلوب في التكرار اسم (التسميط) الذي هو ((تصيُر كل بيتٍ أربعة أقسام ثلاثتها على سجع واحد مع مراعاة القافية في الرابع إلى أن تنقضي القصيدة))(16). وغالباً ما تكون أبياته مشطورة تجمعها قافية واحدة، أو هو أبيات مشطورة أو منهوكة مقفاة تجمعها قافية مخالفة لازمة القصيدة(17).
نستنتج مما ذكرناه أن هناك نوعين من الإيقاع في البيت الشعري، الأول ناتج عن ترتيب خاص للألفاظ يتكرر بحسب مقاطع الوزن العروضي، والثاني ناتج عن تكرار القافية أو أي حرف أو حروف يمكن أن تتكرر في البيت أو الأبيات في النص.ومن ظواهر هذا الإيقاع أن قصيدتين من البحر نفسه والقافية نفسها، يُحَسُّ بينهما اختلاف بيّنٌ فهو إيقاع لا يمكن ضبطه بقوانين ثابتة سوى قانون إحصاء تكرار المتشابه الحرفي واللفظي.
وهذا يعني أن القافية إن كانت مأخوذة من السجع لم تمارس أثراً في نشأة الأوزان كما ذهب بعضهم(18)، والملاحظ أن أقدم ما وصلنا من السجع لا يسبق قدمه قدم ما وصلنا من الشعر.
صوت /إيقاع/ شكل الدلالة الشعرية
لابدَّ أن نبيِّن في بحثنا أن الأوزان استنبطت من داخل اللغةِ وتنوع تراكيبها، ونظهر مدى ارتباطها الوثيق بــ (الشعرية)؛ فلغة النثر والحوار تحمل بين تراكيبها كثيراً من الجمل الموزونة، يتبادلها الناس ولا يشعرون بالإيقاع الوزني الذي فيها، فإن ترافق أن تجاورت عبارتان وتكرر تقسيم صوتي فيهما في كلام أحدهم طَفَرَ إلى الأذن نسقٌ صوتي محسوس، وسوف نتناول بالتطبيق أمثلة من النثر ونرصد العبارات التي جاءت موزونة فيها.
ففي القرآن الكريم آيات كثيرة جاءت موزونة، كقوله تعالى: ?لَنْ تَنَالُوا البرّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ..?(19) (وهي من بحر الرمل)، وقوله: ?..زُلزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَها?(20) (من بحر المتقارب)، وقد وظِّفَت هذه الآية نصِّياً في بيت شعرٍ يروى أنه للإمام علي بن أبي طالب u.
إذا قَرُبتْ ساعةٌ يا لَها
وزُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالهَا
وقوله في السورة نفسها: ?وَأَخرَجَتِ الأرضُ أَثقَالَها?(21) وكذلك قوله: ?إذا السّمَاءُ انفَطَرَتْ?(22) وقد ذكر الباقلاني(23) بعضاً من هذه الآيات التي ضُبطَ فيها وزن الشعر ومنها ما كان على هيئة بيت أو شطر، كقوله تعالى: ?هيهاتَ هيهاتَ لِما تُوعَدُون?(24) وقوله: ?وجفَانِ كالجواب وقَدَورِ رَاسِياتِ?(25) (وهو من الرمل) وقوله: ?ومَنْ تَزَكَّى فإنما يَتَزكْى لِنَفْسِهِ?(26). وكقوله عز وجل: ?..وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتسِبُ?(27) (من المتقارب)، وقوله: ?دَانِية عَلَيْهمْ ظِلاَلْهَا وَدُلِلتْ قُطُوفُهَا تَدْلِيلا?(28) (من الرجز) بإشباع حركة الميم، وقوله عز وجل: ?..وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنينَ?(29) (من الوافر) وقوله عز وجل: ?أَرَأَيْتَ الَّذي يُكَذِّبُ بالدِّين فذلِكَ الَّذي يَدُعّ اليَتيمَ?(30) (من الخفيف). وقوله عز وجل: ?وَالعَادِيَاتِ ضَبْحاً. فالمُورِياتِ قَدْحَاً?(31) وقوله: ?وَالدَّارِياتِ ذَرْواً، فَالحَامِلاَتِ وِقراً، فالجَارِيَاتِ يُسْراً?(32) وهو من (بحر البسيط).
نحن نعلم أن النص القرآني ما أريد به الشعر ونفى القرآن عن نفسه صفة الشعر وعن النبي صفة الشاعر، بقوله تعالى: ?وما علمناه الشعر وما ينبغي له إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مبينٌ?(33) فلماذا جاءت آيات كثيرة موزونة؟ وكان الرسول r يتجنب الوزن في قوله وقدرة التجنب هذه من ملكات كل عربي في وقته يتقصى الوزن من طبعه وأذنه فإن أراد كلامه موزوناً كان، وإن أراده غير موزون كان أيضاً. وما ذكره الخليل فيه بيان نفي الشعر من قول الرسول r، فقال: ((لو كان نصف البيت شعراً ما جرى لسان النبي [ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً] وجاء بالنصف الثاني على غير تأليف الشعر لأن نصف البيت لا يقال له شعر ولا بيت ولو جاز أن يقال لنصف البيت شعر لقيل لجزء منه شعر))(34).
مع هذا نجد أن في كثير من أحاديث الرسول الصحيحة، جملاً وعبارات موزونة وهذه أمثلة منها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم] وقوله r: [فأما إذ ركبتم كل صعب وذلول فهيهات](35).
1 ـــ يكونُ في آخرِ الزمان ـــ مَفاعِلُن فاعِلُن فَعولْن.
2 ـــ من الأحاديث بما لم تَسمعوا ـــ مُتَفْعِلِنْ مُفْتَعِلِنْ مُسْتَفْعِلِنْ.
3 ـــ أنتم ولا آباؤكم ـــ مُستَفعِلُن مُسْتَفعِِلُن.
4 ـــ فأما إذْ ركبتم كلّ صَعبٍ ـــ مَفاعيلُن مَفاعيلُن فَعولُن.
نجد في هذه الأمثلة أنصاف أبيات وأنصاف أشطر موزونة بأوزان قد تتشابه في حديث وقد تتنوع في آخر. حتى أن عبارات مثل (قال رسول الله /صلى الله العظيم/ صدق الله العظيم) هي عبارات موزونة لذلك فإن ذكاء الخليل وحرصه على إيمانه وإيمان الناس دفعه إلى أن لا يعدّ الشطر الموزون شعراً وهو يرفض الجزء من الشطر أيضاً ويرفض البيت المفرد ولا يعد شعراً.
لقد تنبه الخليل إلى أن أكثر جمل القول في اللغة العربية من النثر والكلام اليومي تكون من أشطر أو أجزاء من أشطر أو أبيات مفردة لها أوزان هي نفسها أوزان الشعر، يقول الجاحظ: ((مثل هذا المقدار من الوزن قد يتهيأ في جميع الكلام))(36).
ولا نريد أن نكثر من الأمثلة على القارئ وسوف نكتفي بهذا المثال النثري من دون تعين مسبق أو قصد:
من الإسكندرية إلى المحلة الكبرى رحلة ابن بطوطة:
((فخرجتُ من مدينةِ الإسكندريّة قاصداً هذا الشيخ نَفعنا الله بهِ ووصَلتُ قرية فروجة وهي على مَسيرةِ نصف يومٍ من مدينة الإسكندرية قَرية كبيرة بها قاض ووالٍ وناظِر ولأهلها مكارمُ أخلاقٍ ومروءة صَحِبتُ قاضيها صَفيِّ الدين وخطيبها فخرُ الدين وفاضلاً من أهلها يسمّى بمبارك وينعتُ بزين الدين ونزلتُ بها على رجلٍ من العباد الفضلاء كبير القدر يسمّى عبد الوهاب وأضافني ناظِرها زين الدين بن الواعظ وسألني عن بلدي وعن مجباه فأخبرتُهُ أن مجباه نحو اثني عشر ألفاً من دينار الذهب فعجبَ وقال لي: رأيتَ هذه القرية فإن مجباها اثنان وسبعون ألف دينار ذهباً وإنما عظُمت مجابي ديار مصر لأن جميع أملاكها لبيت المال ثم خرجتُ من هذه القرية فوصلتُ مدينة دمَنهور وهي مدينةٌ كبيرة جبايتها كثيرة ومحاسنها أثيرة أم مدن البحيرة بأسرها وقطبها الذي عليه مدار أمرها وكان قاضيها في ذلك العهد فخر الدين بن مسكين...))(37).
1 ـــ خَرَجْتُ مِنْ مَدِيْنةِ الـ.. ـــ مُتَفْعِلِنْ مُتَفْعِلِنْ.
2 ـــ وَهْيَ على مَسيرةِ.. ـــ مُفْتَعِلُن فَعولُن.
3 ـــ قاضٍ ووالٍ وَناظِرُ.. ـــ مُسْتَفْعِلُن فَاعِلاتُنْ.
4 ـــ صَحبْتُ قاضيها صَفيَّ الدين.. ـــ مَفاعِلُن مُستفعِلُن مَفْعولُن.
5 ـــ وفاضلاً من أهلِها.. ـــ مُتَفْعِلِنْ مُتَفْعِلِنْ.
6 ـــ نَزَلْتُ بها على رَجُلٍ.. ـــ مُفَاعَلتُنْ مَفَاعِيْلُنْ.
7 ـــ أضافَني ناظِرها.. ـــ مُتَفْعِلِنْ مُفْتَعِلِنْ.
8 ـــ وقُطبها الذي عليه.. ـــ مُتَفْعِلِنْ مُتَفْعِلِنْ.
9 ـــ في ذلك العَهدِ فَخر الدين بن مِسكين ـــ مُستَفعِلُن فاعِلُن مُستَفعِلُن فَعْلُنْ.
هذه جملٌ في كلام منثورٍ قصَدَ به ابن بطوطة قصَّ حكاية رحلته، وهو لم يقصد لعباراته الأوزان، ويمكن للقارئ أن يراجع أيَّ نص نثري حتى ولو كان مقالة في جريدة أو قصة أو خطبة أو أي شيء آخر، وسيجد بنفسه أن جملاً كثيرة تتضمن أوزان وتفاعيل من بحور مختلفة تراكمت في هذه النصوص النثرية ولا أريد المبالغة إن قلت لا يكاد نص نثري يخلو منها قليلاً أو كثيراً، وهذا قول الجاحظ يؤيد ما رأينا: ((اعلم أنك لو اعترضت أحاديث الناس وخطبهم ورسائلهم لوجدت فيها مثل مستفعلن فاعلن كثيراً))(38) ويوصلنا هذا الأمر إلى أن الوزن شيء لم يفرض على اللغة، وهو نابع من صميم تراكيبها وصياغاتها، ومتولد من تجاور ألفاظها وجملها، ومتداول في كلامها، إلا أن ما يميز الوزن في الشعر أنه منتظم، متساوي المقاطع، يبرز شكله عند تكرار التفعيلة، لقد أنتبه العرب لما في كلامهم من إمكانيات إيقاعية وزنية منتظمة ومتساوية في مقاطعها، وما في هذا الانتظام والتساوي من فوائد وجمال وإبعادٍ للمقول عن مستوى السائد وإلى مدى تنشيط الدلالة في الجملة الشعرية عن سواها فالوزن يتولد منها كما رأينا ويتفاعل معها.
إن الوزن يتولد في الجملة الواحدة من بعض صياغاتها؛ لأن تغيير التركيب يغير في نوع الدلالة ويغير في الوزن أو يذهبه، كما في المثال الذي ذكره الخليل وكيف بدل الرسول r بالصياغة والترتيب فذهب الوزن وضعفت الدلالة المشرقة التي كان البيت يحتويها:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
ويأتيك من لم تزود بالأخبار
فقْدَ الشطر الثاني شعريته بهذا التقديم والتأخير الذي أجري على أصل البيت، وفقد الوزن أيضاً.
فما مدى العلاقة بين الوزن ونوع الدلالة في أصل البيت؟ (ويأتيك بالأخبار من لم تزود) فأي تغير في نوع دلالة البيت يرافقه تغيير في وزن البيت، فليس اعتباطاً أن نقول عن الوزن هو صوت /إيقاع/ شكل الدلالة الشعرية. وليس فرضاً خارجياً أبداً.
فلأية جملة عربية إمكانية أن تصاغ صياغات عديدة من ألفاظٍ بعينها أو قد يضاف إليها بعض الأحرف أو تحذف منها بعض الأحرف فيكون الوزن في بعضها ويختفي في بعضها الأخر أو يتبدل نوع الوزن. وهذا مثال على قولنا:
لميَّة موحشاً طللُ
يلوح كأنه خللُ
إن هذا المثال وزنهُ من مجزوء الوافر.
فلنا أن نقول هذا الشطر من الشعر بصياغات أخرى مع المحافظة على توخي معاني النحو وتوخي المعنى المراد في الأصل:
1 ـــ طَللٌ مُوحِشٌ لميّة ـــ تبدّل الوزن. فَعِلاتُنْ مُتَفْعِلُنْ (من تفاعيل الخفيف).
2 ـــ طَلَلٌ لميّة مُوحِشٌ ـــ تبدّل الوزن. مُتَفاعِلُن مُتَفاعِلُن (مجزوء الكامل).
3 ـــ لميّة طللٌ موحشْ ـــ اختفى الوزن من العبارة.
4 ـــ طللُ ميّة موحشْ ـــ اختفى الوزن من العبارة.
5 ـــ طللُ ميّة موحشٌ ـــ اختفى الوزن من العبارة.
6 ـــ موحشٌ طللُ ميّة ـــ اختفى الوزن من العبارة.
عند تغيير مواقع الألفاظ في الشطر يتبدل الوزن أو يختفي(39). إن التبدلات التي أجريناها على البيت السابق تظهر إن الإعراب ونوع الدلالة واللفظ والوزن كلّها تتبدَّل عند تبدُّل أحدها أو بعضها، فاشتغال كل واحد منها لا ينفصل عن الآخر في الشعر، وجَودة القول وجماله نتيجة حُسن اختيار المُتَوَخي لصياغةٍ من دون أخرى، ففي المثال توخَّينا معظم صياغات معاني النحو في هذه الجملة على وفق ما أرشدنا إليه عبد القاهر الجرجاني في (دلائل الإعجاز) في نظرية النظم.
المثال يبّين أن ثمة ثلاثة اختيارات صياغية موزونة متاحة هي: (لمَّية موحشاً طللُ ـــ طللٌ موحشٌ لميّة ـــ طلَلٌ لمَيّة مُوحِشٌ) إلا أن الاختيار الأول يمتلك شعرية أكثر من غيره.
إن عامل التأخير والتقديم، هو عامل لغوي دلالي يمكن أن يحدث في النثر من دون الوزن وقد يُكسب القول جمالاً، إلا أن هذا الاشتغال إذا ترافق مع وجود الوزن يأخذ بعداً تعبيرياً آخر يراد به تغييب الحقيقة عن القول الشعري وهذا هو موضع المشغل التخيلي للشعر، فالشعر يعتمد على تداولية الدال ولا يعتمد مجمل تداولية المدلول، ليبعد المدلول عن الحقيقة فتحدث مقارنة بين القول الشعري وبين الحقيقة.
وهذا ما توصل إليه عبد القاهر الجرجاني إلا أنه لم يعنَ بأمر الوزن ونفاه من تحليله ولم يجعل له أيّ سبب اشتغالي في الدلالة وهذا ليس تقليلاً من شأن الوزن، بل نفاه لأن مجرى بحثه كان في إثبات أن اللفظ ليس هو صاحب الفضل في إنتاج الدلالة الأدبية، وبحثه كان يشمل تحليل نصوص من متونٍ مختلفة (النثر والشعر والقرآن) فلا تكون معالجة الوزن وتعلقه بالدلالة من مهام بحثه لتنوع المتون التي طبق عليها نظريته وبعضها من النثر والقرآن، وإن كلمة (النظم التي استخدمها تشير ـــ لديه ـــ لكل المتون ولا تنفرد بأحدها فالنظم: ((هو توخي معاني النحو في معاني الكلم وأن توخيها في متون الألفاظ محال))(40).
ولقد ذكرنا سابقاً أن الوزن يراد به تغيب الحقيقة عن القول الشعري عبر ممارسة التكرار والإعادة والتقديم والتأخير والحذف والإضمار والتعريف والتنكير وقد يتولد من بعض تغيراتها وهي مواطن يسهم الوزن في ممارستها إسهاماً بيناً ويشارك الدلالة هذا العمل الذي يدفع إلى توخي الجملة وجهاً من الوجوه التي يقتضيها علم النحو فيكون ((حسن التمثيل والاستعارة وإلى التلويح والإشارة وإلى صنعة تعمد إلى المعنى الخسيس فتشرفه وإلى الضئيل فتفخمه وإلى النازل فترفعه وإلى الخامل فتنوه به وإلى العاطل فتحليه وإلى المشكل فتجليه))(41) وهي منتجات يشترك الوزن في توليدها كما بينا ذلك سابقاً، فالاستعارة والتلويح والإشارة، والصنعة التي تشرف المعنى وترفع النازل وتنوه بالخامل وتحلي العاطل وتجلي المشكل، لو تأملتها جيداً وتمثلت لها أمثلة لتوصلت إلى أنها تسعى إلى فعل التغييب الذي تسعى إليه الدلالة الشعرية والوزن معاً.
فإن كان الكلام نثراً كان له أن تنطبق قاعدة الجرجاني عليه فعلى الناثر أن يتوخى من دون أن يُعنى في أن تكون العبارة المختارة موزونة؛ أما الشاعر فيكون توخيه لمعاني النحو مصحوباً بالوزن. أي أن الشعر يحظى بدرجة أعلى من تغييب الحقيقة عن القول الشعري لاشتغال عاملين فيه على هذا التغييب هما (الوزن والتوخي الدلالي).
يسعف رأينا هذا ما تنبه له عبد القاهر الجرجاني من وجود التغييب في القول الشعري عند ما أورد هذا المثال:
بلونا ضَرائب من قد نرى فما إن رأينا لفتح ضريبا
هو المرء أبدت له الحادثات عزماً وشيكاً ورأياً صليبا
تنقل في خلقي سؤدد سماحاً مُرجّى وبأساً مهيبا
فكالسيف إن جئته صارخاً وكالبحر إن جئته مستثيبا
فإذا رأيتها قد راقتك وكثرت عندك ووجدت لها اهتزاز في نفسك فعد فانظر في السبب واستقص في النظر فإنك تعلم ضرورة أن ليس إلا أنه قدم وأخر وعرف ونكر وحذف وأضمر وأعاد وكرر وتوخى على الجملة وجها من الوجوه التي يقتضيها علم النحو فأصاب في ذلك كله ثم لطف موضع صوابه وأتى مأتى يوجبُ الفضيلة أفلا ترى أن أول شيء يروقك منها قوله: هو المرء أبدت له الحادثات. ثم قوله: تنقل في خلقي سؤدد. بتنكير السؤدد وإضافة الخلقين إليه، ثم قوله: فكالسيف. وعطفه بالفاء مع حذفه المبتدأ لأن المعنى لا محالة فهو كالسيف، ثم تكريره الكاف في قوله: وكالبحر ثم أن قرن إلى كل واحد من الشبيهين شرطاً جوابه فيه ثم أن أخرج من كل واحد من الشرطين حالاً على مثال ما أخرج من الآخر وذلك قوله: صارخاً هناك ومستثيباً ها هنا. لا ترى حسناً تنسبه إلى النظم ليس سببه ما عددت أو ما هو في حكم ما عددت فأعرف ذلك(42).
بين الجرجاني أن النص خرج عن القول الحقيقي عبر إجراءات توخاها القائل مثل (تنكير السؤدد وإضافة الخلقين إليه) فقد خرج القول عن الحقيقي بأن أضاف إلى السؤدد خُلقين هما (سماحاً مُرجّى ـــ وبأساً مهيبا)، لم يكونا فيه، والسؤدد من ساد، سيادة الرجل لقومه(43).
إن ما جاءَ في قول الجرجاني يؤكد أن قاعدة (النظم) يراد بها تغييب الحقيقة عن القول الشعري وهو مسعى تسعى له الدلالة الشعرية عبر اشتغالتها، وقول الجرجاني: ((قدم وأخر وعرف ونكر وحذف وأضمر وأعاد وكرر وتوخى على الجملة وجهاً من الوجوه التي يقتضيها علم النحو)) ينطبق على الوزن أيضاً فهو يتولد من مزاولة هذه الآليات أو يسهم في تكوينها، مثله مثل الدلالة الشعرية كما بينا ذلك في المثال السابق (لميَّة موحشاً طللُ).
والمُتَوَخي قد يستخدم جميع هذه الآليات في نصٍّ ما وقد يكتفي ببعض منها في آخر، ولا تزول منه صفة (النظم الجرجاني) كما نرى في تعليقه على قوله تعالى: ?واشتعل الرأس شيبا?: ((إنها في أعلى المرتبة من الفصاحة لم نوجب تلك الفصاحة لها وحدها ولكن موصولاً بها الرأس معرفاً بالألف واللام ومروناً إليها الشيب منكراً منصوباً))(44) اشتغلت هذه الآية على آليتين من آليات (النظم الجرجاني) هما (التعريف والتنكير) ولم تُستخدم الآليات الأخرى في الآية.
ويذكر الجرجاني أمثلة أخرى يقتصر الاشتغال فيها على آلية الحذف والإضمار وغيرها من الأمثلة التي يمكن للقارئ أن يراجعها في كتاب دلائل الإعجاز. والوزن يفعل الفعل نفسه في هذه الآليات فقد يأخذ ببعضها أو يأخذ بكلها.
الدلالة والمساحة الصّوتية للفظ:
لا يمكن للدلالة اللغوية أن تكون ظاهرة للحواس إلا بتجسدها في أصوات هي الأحرف والكلمات والعبارات، فالصوت وما يتولد منه كالإيقاع هو حاجة الدلالة لوجود كينونتها وتمظهرها المادي وليس فرضاً خارجياً سُلِّطَ عليها. ولإثبات ذلك نبدأ بالمصدر الأول الذي تترابط فيه الأصوات المجردة (اللفظ) لنلحظ مدى العلاقة بين الصوت والدلالة في اللفظ.
إن الدلالة اللغوية في أصغر بنيتها لابدَّ لها أن تتخذ هيئة صوتية (لفظاً) ومكوّناته الأساسية أصوات فونيمات مجردة(45) لا تحمل دلالة بنفسها مثل (ب، ج، ح..) لهذه الفونيمات هيئات صوتية تميزت عن بعضها بملفوظها وأشكالها فهي شكل الدلالة المنطوق، ونقصد به الشكل الصوتي المنطوق رُمِزَ له برسوم الفونيمات المعروفة وهي تختلف عن بعضها رسماً وشكلاً صوتياً منطوقاً ولا يمكن النطق بها إلا بارتباطها بصوت مدٍّ طويل أو قصير (بَ بِ بُ) أو بارتباطها بعدد من الفونيمات الأخرى التي ارتبطت بأصوات مدٍّ في (اللفظ)، والسبب في اختلافها عن بعضها يكمن في أنَّ استهلاك الهواء الخارج من الرئتين يختلفُ من فونيم إلى آخر، وهذا الاختلاف هو الذي يرسم حدود التباين بينها(46). إذاً فاللفظ أمرٌ يعود إلى طبيعة الاحتياجات الفعلية للنطق بالفونيمات.
إن زيادة المساحة الصوتية في اللفظ يرافقها زيادة في الدلالة أو تحولها وتبدلها، فإضافة (الـ) التعريف ينقل كلمة (باب) من النكرة للمعرفة (الباب) وكذلك إضافة التنوين والضمائر وحركات الإعراب كلها أصوات تسبب زيادة في الدلالة أو تغييراً يسعى نحو التوضيح والإبانة، وضيق المساحة الصوتية للفظ يُذهِبُ الدلالة، فقد تمكن دُرَّاس (حروف المعاني) من أن يضعوا معاني للحروف التي تتكون من ثلاثة أصوات (فونيمات) ولم يضعوا معاني للحروف التي تتكون من صوتين (فونيمين).
فاغلب الحروف ليست لها دلالات بنفسها، إلاّ إذا ارتبطَتْ معَ كلمة أخرى، وتوجد إشارات متفرِّقةٌ في كتب اللغة والنحو تحدّد دلالاتٍ لبعض الحروف، إلاَّ أنّ أغلبَها كانت عن دلالة الحرف مع غيرهِ لا دلالته بمفردِه.
إنّ أكثر الحروف التي مُنِحَتْ دلالاتٍ هي الحروف الثلاثيَّةُ والرباعيَّةُ المتكونَّة من ثلاثة أصوات أو أكثر(47)، نحو: (على) المتكونة من: (عَ، لَ، ى) وهي حرف جرٍّ للأسماء: ((معناها العلوُّ حقيقةً))(48). وما زادت أصواتُه عن ثلاثة نحو: (كلاّ) المتكونة من: (كَ، لْ، ا) ومعناها: (الزجرُ والردعُ))(49). أما الحروف المتكوِّنَةُ من صوتينِ فلم تحدّد دلالة لها حتَّى على سبيل الافتراض، إلاَّ إذا كانت مرتبطة مع كلمةٍ أو جملة أخرى. فحرفُ (لا) عندما يتعرَّضُ له العلماء لا يذكرون له معنى في نفسها، ويكتفون بتحديدِ مسمَّياتٍ لعلاقة الارتباط مثل دخول (لا) على الاسم النكرة يسمُّونَهُ نفي الجنس.
إنّ سببَ ذلكَ يكمنُ في انحسارِ مساحتِهِ الصوتيَّةِ على حرفَينِ، على الرغم من أنَّ حرفَ الألفِ/ المدِّ في آخر (لا) له تأثيرٌ بائن في النطق. فالدلالة تحتاج للفظ ما، له مساحة صوتية تحتويها وهذه المساحة متكونة من عدد من الأحرف المجردة، لم تكن لها دلالة قبل ترابط الفونيمات.
نتوصل من كلامنا السابق إلى:
1 ـــ لا يمكن لفظ (حرف/ فونيم) مجرد من دون ارتباطه بحركة مد قصير أو طيلة، فهي تكون الأصول الصوتية للغة وهي (فونيمات/ أصوات المد القصيرة والطويلة).
2 ـــ في اللفظ تتسع الدلالة أو تتبدل كلما اتسعت المساحة الصوتية.
إن هذه المدود القصيرة والطويلة هي حركات الصرف والإعراب للألفاظ والجمل فهي عناصرٌ ترتبط ببعضها لتكون للدلالة وهي نفسها عناصرٌ يعتمد الوزن في تكوينه عليها من انتظامها وتوقفاتها عند السكون، إلا أن الوزن يَهمِل نوع هذه الأصوات/ الحركات فلا يُفرِقُ بين الكسرة والضمّة والفتحة ويقيم تفريقه بينها ـــ كواحد ـــ وبين السكون، ليحصل على إيقاع مجرد من صفات الحروف والحركات.
إن علم الأصوات يؤكد أن حروف المد (ى، ي، و) هي الفونيمات الطويلة والحركات هي الفونيمات القصيرة وهي: (الفتحة، والضمة، والكسرة) والوزن بُني على أصوات المدود القصيرة. وما التفاعيل العروضية سوى مددٍ متساوية بين عدد المدود القصيرة والسكون. وهذه المدود هي أصل التشكيل اللغوي والصرفي فالوزن ليس عنصراً مضافاً من الخارج إنما هو فعل متولد من الأصول التي تولد الدلالة في الوقت نفسه.
الدلالة والمساحة الصوتية للجملة
البلاغة إيجاز(50) لأنك كلما أوصلت المعنى بعدد ألفاظ أقل كلما كنت بليغاً؛ فالعلاقة عكس حالة اللفظ، ففي اللفظ زيادة المساحة الصوتية تولد زيادةً أو تبدلاً في الدلالة. أما في الجملة إيجاز وتقليل الألفاظ أي (المساحة الصوتية للجملة) يؤديان إلى البلاغة. والوزن يدفع إلى الإيجاز، بحكم مساحته المستوعبة للدلالة، لذا فهو عامل بلاغي أيضاً.
ولو عدنا إلى مثالنا السابق (لميّة موحشاً طللُ) نرى أن الوزن يتولد من توخي معاني النحو، ويتولد من أفضل وأجمل الاختيارات وهو الاختيار الشعري. إن حقيقة الوزن تكمن في أنه منتج من اللغة يرافق دلالتها، والدلالة الشعرية ترتبط به ولا تنفصل عنه ليغدو إيقاعها وشكلها.
وإن تولد الوزن مع دلالة غير شعرية لا يسيء إلى قدراته الشعرية لأن نقل القول إلى الشعرية، اختيارٌ يختاره الشاعر، لذلك تعمل الموهبة الكبيرة على نقل صياغة المعنى الذي يترافق مع وزن ما إلى مساحة شعرية مدهشة، وتعمل موهبة ضعيفة على نقل صياغة أخرى للمعنى والوزن نفسه ولا تفلح في توليد مساحة شعرية مدهشة.
الهوامش:
1 ـــ ينظر منهاج البلغاء، لحازم القرطاجي: ص 231، وتاريخ آداب اللغة العربية، جرجي زيدان: 1/ 599، وتاريخ الشعر العربي، الدكتور نجيب محمد البهبيتي: ص 85 ـــ 90، واللغة الشاعرة، العقاد: ص 30.
2 ـــ ينظر تاريخ آداب اللغة العربية: جرجي زيدان: 1/ 599.
3 ـــ يقول د. جواد علي عن هذا الرأي: ((أما إن هذه البحور، قد نشأت من سير الإبل، فكلام لا يقوم على علم، وهو من باب حدس الحداس، فلدى الشعوب الأخرى شعر، له ترانيم وبحور، ومع ذلك، فإنها لم تكن تركب الإبل، ولا تعرف إيقاع أرجلها عند المشي)). المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 9/ 416.
4 ـــ راجع هوية القصيدة: نوع الوظيفة الأدبية في الكتاب.
5 ـــ ينظر لسان العرب: 5/ 352. والتعارف: 1/ 357.
6 ـــ الخليل هو من وضع أسماء بحور الشعر.
7 ـــ ينظر أدونيس: الشعرية العربية: ص 7 ـــ 8 ـــ 9.
8 ـــ العمدة: 1/ 20.
9 ـــ الشعرية العربية: ص 10.
10 ـــ الشعرية العربية: ص 22.
11 ـــ العمدة: ص 28.
12 ـــ الشعرية العربية: ص 22.
13 ـــ نظرية جديدة في العروض العربي: ستانِسْلاس جويار (Stanislas Guvard) مستشرق فرنسي ترجمة منجي الكعبي: ص 89، وطبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 1996م.
14 ـــ ينظر العمدة: 2/ 25.
15 ـــ جنوب بنت العجلان بن عامر بن برد بن منيه الكاهلية. هي أخت عمرو ذي الكلب، ويروى هذا الشعر بصيغة أخرى:
وَحَيَّا أبَحتَ وَحَيّاً منعَتَ




غَداةَ اللقاء مَنايا عِجالا


شرح أشعار الهندليين: أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري: 3/ 1444 ـــ 2/ 586، تحقيق عبد الستار أحمد، مكتبة دار العروبة، القاهرة ((من دون تاريخ)).
16 ـــ التعريفات: علي بن محمد بن علي الجرجاني: تحقق إبراهيم الأبياري: 1/ 80، ط1، دار الكتاب العربي، بيروت، 1405هـ.
17 ـــ ينظر فصول في الشعر: الدكتور أحمد مطلوب،: ص 103، منشورات المجمع العلمي، بغداد 1999م.
18 ـــ على سبيل المثال لا الحصر أدونيس، ينظر الشعرية العربية: ص 10 ـــ 11 ـــ 12.
19 ـــ آل عمران: 92.
20 ـــ سورة الزلزلة: 1.
21 ـــ سورة الزلزلة: 2.
22 ـــ سورة الانفطار: 1.
23 ـــ إعجاز القرآن الباقلاني: ص 34.
24 ـــ سورة المؤمنون: 36.
25 ـــ سورة سبأ: 13.
26 ـــ سورة فاطر: 18.
27 ـــ سورة الطلاق: 2 ـــ 3.
28 ـــ سورة القيامة: آية 13.
29 ـــ سورة التوبة: آية 14.
30 ـــ سورة الماعون: الآيتان 1 ـــ 2.
31 ـــ سورة العاديات: الآيتان 1 ـــ 2.
32 ـــ سورة الذاريات: الآيات 1 ـــ 2 ـــ 3 ـــ 4.
33 ـــ سورة يس: آية 69.
34 ـــ لسان العرب: 5/ 351 ـــ 350.
35 ـــ صحيح مسلم: 1/ 8، ط2، دار الكتب بيروت ((من دون تاريخ)).
36 ـــ البيان والتبيين: 1/ 154.
37 ـــ تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار: محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي أبو عبد الله، تحقيق د. علي المنتصر الكتاني: 1/ 44، ط4، ط3، مؤسسة الرسالة، بيروت، سنة 1405هـ.
38 ـــ البيان والتبيين: 1/ 154.
39 ـــ يمكن أن تتولد أوزان أكثر من أمثلة أخرى إذا أجرينا عليها الإجراء نفسه.
40 ـــ دلائل الإعجاز: أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد: تحقيق د. محمد التنجي: 1/ 273، ط1، دار الكتاب العربي، بيروت، سنة 1995م.
41 ـــ المصدر نفسه: 1/ 39.
42 ـــ دلائل الإعجاز: 1/ 80، نرى أن جمالية الإيقاع الداخلي جمَّلت هذه الأبيات، فقد تناغمت الألفاظ بتراكيبها وحروفها نحو (عزماً وشيكاً ـــ ورأياً صليبا ـــ سماحاً مُرجّى ـــ وبأساً مهيباً) وهذا يضاف إلى ما ذكره الجرجاني. وقد أهمل الجرجاني البيت الأول الذي ذكره في تضمينه للنص فلماذا وضعه ولم يتناوله في تحليله؟ يبدو أنه أراد أن لا يفقد القارئ الإحساس بجمال القافية والوزن، فلو أنه لم يضع البيت الأول لكان إيقاع القافية والوزن لا يظهر حسياً إلا في البيت الثالث. أليس هذا التصرف يبين أن الجرجاني يدرك جيداً ما للوزن والقافية من دورٍ في تلقي النص الشعري؟
43 ـــ لسان العرب: 3/ 228.
44 ـــ دلائل الإعجاز: 1/ 299.
45 ـــ ((إنَّ الصوت بمعناه الأوَّل، أي بمعناه العام التجريدي، لا بمعناه الجزئي، هو ما اتُّفِقَ على تسميتهِ بالفونيم Phoneme أو الوحدة الصوتية الصغرى)) إشارة اللغة ودلالة الكلام: موريس أبو ناظر: ص: 138، ط1، بيروت، ((من دون تاريخ)).
46 ـــ يقول ابن جني: ((أحوال هذه الحروف في مخارجها ومدارجها، وانقسام أصنافها، وأحكام مجهورها ومهموسها، وشديدها ورخوها، وصحيحها ومعتلها، ومطبقها ومنفتحها ومتحركها)) سر صناعة الإعراب: تحقيق حسن هنداوي: 1/ 7 ـــ 8، دار القلم، دمشق ط1، 1985م.
47 ـــ إن حركات الموضوعة على الحروف تعدُّ أصواتاً منطوقة وَ (على) مكونة من (عَ، ل، ى) وحركة الفتحة مدّ قصير وهي واضحة في النطق مع العين ومختفية مع اللام؛ لتأثر صوت اللام بالمد الطويل (الألف).
48 ــ


مواضيع ذات صلة

elaphمسلسلات الأتراك تحرج المنتِج العربي
  • الثلاثاء 10 يونيو 2008 - 18:00 GMT

مسلسلات الأتراك تحرج المنتِج العربي

elaphعندما يحتفي حاضر الكلام بماضي الزمان
  • الإثنين 16 يونيو 2008 - 20:00 GMT

عندما يحتفي حاضر الكلام بماضي الزمان

elaphحوار مع الغرب بالكاريكاتير
  • السبت 14 يونيو 2008 - 08:45 GMT

حوار مع الغرب بالكاريكاتير

elaphالتجربة الشعرية الجديدة بالمغرب
  • الخميس 26 يونيو 2008 - 21:00 GMT

التجربة الشعرية الجديدة بالمغرب

elaphHome made
  • الجمعة 04 يوليو 2008 - 17:30 GMT

Home made

elaphعن موت الشاعر
  • الخميس 26 يونيو 2008 - 18:00 GMT

عن موت الشاعر

elaphاعادة نصب تمثال أبو جعفر المنصور
  • الخميس 26 يونيو 2008 - 21:30 GMT

اعادة نصب تمثال أبو جعفر المنصور

elaphشعر الاطفال يزهر في اتحاد الادباء
  • الثلاثاء 01 يوليو 2008 - 06:00 GMT

شعر الاطفال يزهر في اتحاد الادباء

elaphالشعر العربي والصمت
  • الإثنين 30 يونيو 2008 - 18:15 GMT

الشعر العربي والصمت

elaphفارغاس يوسا ممثلاً للمرة الثالثة
  • الخميس 03 يوليو 2008 - 10:30 GMT

فارغاس يوسا ممثلاً للمرة الثالثة

elaphالعتيبي: نؤسس للمونودراما بمنهجية
  • الجمعة 04 يوليو 2008 - 13:15 GMT

العتيبي: نؤسس للمونودراما بمنهجية

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف

أضف تعليقك

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.