صالح كاظم من برلين: يمكن إعتبار quot;ليلة المتاحف الطويلةquot; التي انطلقت في برلين في العام 1997 وانتقلت عدواها الى العديد من المدن الألمانية والأوروبية (باريس وأمستردام وغيرها) من ضمن المؤشرات الثقافية الجديرة بالإهتمام، كونها تشكل تظاهرة ثقافية ذات طابع شامل، توحد في إطارها مختلف الفعاليات الثقافية والفنية، تحت إشراف المتاحف التاريخية في المدن المعنية. ورغم أن هذا التقليد جاء في الأصل وليدا لاعتبارات إقتصادية، حيث رأى العديد من المشرفين على المتاحف الكبيرة في برلين تراجعا كبيرا في عدد روادها، ما أثر بشكل سلبيفي مواردها، ما دفعه للتفكير بطرق جديدة لجلب الجمهور الى الإقبال على المتاحف، ومن هنا ولدت هذه الفكرة التي تشمل كذلك العديد من الحوافز الإقتصادية (بطاقة واحدة بسعر واحد لزيارة كافة الفعاليات التي تقام خلال هذا اليوم، تشمل كذلك استخدام وسائل النقل المختلفة). وفي المستوى ذاته تمت إقامة العديد من الفعاليات الفنية والثقافية في داخل المتاحف اولا، لتنتقل فيما بعد الى المكتبات وورش العمل الثقافية العديدة داخل المدينة، ومن ثم الى المعارض الخاصة وأتيليرات الفنانين داخل المدينة. وقد بلغ عدد المؤسسات الثقافية المشاركة في هذا النشاط الثقافي ما يزيد على 125 مؤسسة، بعد أن أقتصرت بداياته على 12 مؤسسة. ولم تقتصر عدوى هذا التقليد على المجالات المتحفية والفنية، بل انتقل الى مجالات أخرى، فنشأت على أثره quot;ليلة العلوم الطويلةquot; و quot;ليلة المكتبات الطويلةquot; وquot;ليلة الكنائس الطويلةquot;..الخ
في هذا العام جرت هذه الفعالية في برلين تحت عنوان: quot;قصور وحدائق وجنيناتquot;، وتم إفتتاحها في تمام الساعة السادسة مساء في حديقة Lustgarten، لتشمل فيما بعد المتاحف المجاورة للإنتقال لاحقا الى المراكز الأخرى في أطراف هذه المدينة التي لاتنام.
نقلتني جولتي هذه الليلة الى منطقة ويدينغ التي تعتبر على العموم من المناطق الأقل حيوية في برلين، رغم أنها تحتوي على منطقة أطلقت عليها تسمية quot;مستعمرة الفنانينquot;، فوجدت نفسي وسط مجموعة من البنايات الضخمة التي كانت تضم بين جدرانها في القرن التاسع عشر مؤسسات ومصانع تابعة لشركة ريدل للأدوية والمنتجات الكيمياوية، تحولت لاحقا الى ورش عمل وأستديوهات يقيم ويعمل فيها 70 فنانا وفنانة يعملون في مجال الفن التشكيلي. ولضخامة المكان جرى تخصيص موقع مركزي للزوار، يمكنهم فيه تناول المرطبات والمشروبات، ليتم فيما بعد، حسب الرغبة، توزيعهم في مجاميع صغيرة يقودها عاملون في المركز للتجوال في ورشات عمل الفنانات والفنانين، حيث يمكن في أغلب الأحوال طرح الأسئلة على الفنانين بصدد أعمالهم المعروضة، وفي بعض ورشات العمل يتم تقديم وصلات فنية (بيرفورمانس)، لها علاقة بالأعمال المعروضة، تتميز باستخدام التقنيات الحديثة (فيديو، مؤثرات صوتية، صور متحركة، أفلام تجريبية قصيرة..الخ).
ومع تنوع الأعمال المعروضة من ناحية ارتباطها بالتيارات الفنية السائدة، إلا أنها بدت في الأغلب خاضعة لما عرف بتيار ما بعد الحداثة، رغم وجود محاولات جادة هنا وهناك للبحث عن أساليب تعبير جديدة، إلا أنها غالبا ما تدفع المشاهد الى استرجاع أعمال الرسام السبعيني الألماني آ. أر. بنك مؤسس حركة (المتوحشون الجدد) التي هيمنت في حينها على مسيرة الفن التشكيلي في ألمانيا، حتى أن تأثيرها على الأقل في ألمانيا تجاوز هيمنة الـ quot;بوب آرتquot; في هذا المجال. ورغم ما يمكن أن يقال عن المستوى الفني للأعمال المعروضة وعدم رقيه الى مستوى أعمال المراحل الفنية الماضية، إلا أن مواصلة هذه الفعالية بحد ذاتها هي خطوة جديرة بالإهتمام لرفع الحاجز بين الفنان والمتلقي وجعل الجمهور أكثر تفهما لمحفزات الإبداع الفني بكل أشكاله.