في كلِّ عضلةٍ زئيرٌ محبوس
والضربة القاضية صرخةٌ صاخّة

في داخل الحلبة
الإنسان في أقصى بدائيّتِهِ
يحمل يديْه كهراوتين
هنا في داخل الحلبة
تنتفي كلُّ أشكال الإنسان
يداه كالسابق آلتا صيدٍ جارحتان،
وما من رحمة.
الضربة القاضية صرخة
في أعلى درجات الخوف
في أعلى درجات الضعف

الحَلَبةُ نفسُها كميزان الكيل
لا أهميّةَ للحجم، أو الطول، أو العرض
وفوق بنايات المحاكم عادةً
تمثال أكبرُ من الحجم الطبيعي
يحمل ميزان العدالة
بوقارٍ كلسيٍّ بارد
وسيفاً على الأهبة
أغرب كفّتيْن خادعتيْن
متى تساوى الضرر والعقوبة!
أغرب تلاعبٍ بالألفاظ
كالأدوية المسكّنة
هدنة موقّتة بين الألم والصراخ

العقوبة تنتهي بأجل ولو كان موتاً
والضرر معوِّق حيٌّ
ينمو في الإنسان إلى آخر شوط.

لكن ما علاقةُ هذا بشفيق الكمالي؟
لماذا نسِيتُ نظمَ الشعر،
لا أدخل في صُلب الموضوع إلاّ بمقدّمةٍ خائبة؟
في الديْن فقط لابدّ من تلجلج
وإلاّ أصبح جِدْية. في الحبّ الجديد كذلك
لابدّ من تلعثم وحمّى وانقطاع نَفَس
وإلاّ كان قلّة حياء

لماذا لا أبدأ بصراخ
كشاعرٍ ملسوع: quot;وا حرّ قلباهquot;؟
لماذا لا أيأس
كشاعرٍ بطئ:quot;غير مُجْدٍ في ملّتي واعتقاديquot;
ما علاقة شفيق الكمالي
بالحلَبة وميزانِ الكيل؟
بالمتنبّي أو المعرّي
لم نكنْ في حَلَبةٍ أبداً
ما من أحدٍ يراها في الأقلّ
حقّاً كان أطولَ منّي ببوصات عشر
وصدره المرتفع كصدور الرياضيين
أعرض من صدري بالتأكيد
في الميزان أو داخل الحلبة
لا أهميّة للحجم أو الطول أو العرض

هبْه كان وزيراً
وله خطّ أحمر برئيس الجمهوريّة
هبْه مرشّحاً للقيادة القطريّة لحزب البعث الحاكم
هبْه يتندّر مع وزير الداخليّة ويتبذّأ بلا تحرّج
هبْه رئيس اتحاد الكتّاب العرب
يفتح له السائق بابَ السيّارة ويُغلقه دون شكر
لا لن أكون إلاّ ندّاً له هذا اليوم

في الميزان أو داخل الحلبة
لا أهمّية للحجم أو الطول أو العرض.

بالحقّ، لم نكنْ في حلبةٍ
ونحن في طريقنا من لندن إلى مانتشستر
ما من أحدٍ يراها في الأقلّ

من الشوط الأوّل
صعد قبلي إلى القطار ولم يُجاملْ
متقابليْن جلسْنا كما
في حَلَبةٍ قبل الآشتباك
خدّاه متعضّلان بدكنةِ لحمٍ شائط
يتنفّس بصعوبة
كحَيَوانٍ مائيٍّ على اليابسة
يتلوّى
كمَنْ يُعاني من حصاةٍ في المثانة
(أُخرِجتْ بعمليّةٍ جراحيّةٍ على شكلِ قلب
ثقَبتْها زوجته ولبستْها قلادة)

تحرّك القطار فآنفلتتِ الجهات
وتحرّكتِ البناياتُ كالأنهار
دخل البردُ من أسفل البناطيل
قليلاً..قليلاً..أبعد رأسَه إلى الخلف
كالطغاة الذين يتفادون
مواصلة الآستماع
كأنْ يشمّون بطرف الأنف، جيفة!

أعلى منّي ببوصاتٍ عشر
أعرض منّي بشبر
ما همَّ ؟ سأكون نِدّاً له
ولو نحَتَ على كتِفيْهِ رأسَ أسد

وضعتُ كرامتي في كفة
فلْيضعْ
مناصبَه وشعرَه المقفّى في الكفّة الأُخرى

نظر بكامل وجهه من نافذة القطار
كانت الحقول مقلّمة بالمسطرة والبركال
خضراء على مدِّ البصر،
على مدِّ البصر
منقّطة بالماشية
والمكائن الزراعية
والقبّرات

تأوّه آهة تُطفئ عشر شمعات مرّةً واحدة
..quot;السكوت أفضلquot; قال.
quot;في فمي ماءquot; قال.
quot;الشقّ كبير والرقعة صغيرةquot; قال معرِّضاً بالسلطة

اظلمّ وجهُهُ بدخانِ مؤامرة
سيكون أوّلَ المقتحمين للقصر الجمهوري، خمّنتُ

الكفّتان الآن غير متكافئتيْن
خفّتْ موازيني
-الأسرار أثقلُ من كلِّ المكاييل-

اخترق القطارُ زوابعَ الثلج
يشقُّ الريحَ، ويفتتح المدنَ بلا مقاومة
القطار يُورث اصفرارَ الوجه
وانحصارَ البول ويدبق الجسد
تأوّهَ بإرادةٍ صلبة:quot;في فمي ماء والشقّ كبيرquot;

عضّ الساندويتش ولم يُكْمِلْه
رماه من نافذة القطار بآشمئزاز
طار الساندويتش إلى الوراء مع آثار أسنانه
طلب شاياً أسود كالقار..ولم يقُلْ من فضلك
الأسرار أثقل من كلِّ كيل ولم أستسلم
حصوني تنهار ولم أستسلم بعد
تورّم بيننا الصمت، وصار مُحرِجاً
كعظم سمكةٍ في اللهاة
الصمت ينتفخ مثل زئيرٍ محبوس في عضلةٍ مستوفزة

نظر ثانيةً بكاملِ وجهِهِ
إلى كوخٍ بعيدٍ في الحقل
كوخٍ منفرد
كأنّه نابت بحكم الطبيعة في العراء
قال شفيق الكمالي بصوت شاةٍ تجهض:
quot;ليتني أنعزل عن العالم في كوخٍ هنا إلى الأبدquot;

الضربة القاضية صرخةٌ صاخّة
في أعلى درجات الخوف
في أعلى درجات الضعف

تتجمّع..تتجمّع
دمعته تتجمّع في عينه
وحين نظر إليَّ، سقطتْ ونشج
ضربته القاضية تلك
في أعلى درجات الخوف والضعف
أسقطتْني أرضاً، ولم أُفِقْ، وتوشّلتْ ساقاي.

لم نكنْ في حلبة.. ما من أحدٍ يراها في الأقلّ

بعد سنواتٍ أقلَّ من أصابع يدٍ واحدة
قيل مات بالسكتة القلبيّة كمداً.
لم يُشَيَّعْ على أيّة حال.
وقيل مُزِّق في السجن،
كما يُمزَّق علمُ دولةٍ معادية


نُشِرتْ عام 2001 في مجلة quot;الاغتراب الأدبيquot; اللندنية.