عبد الجبار العتابي من بغداد:وسط الكم ّ الهائل من النصوص الشعرية التي تنهمر يوميا، نتساءل احيانا: اين شعراؤنا المعاصرون من الالهام؟، اترى الصنعة قد غلبت.. فما عادوا ينظرون الى الالهام الا نظرة اللاجدوى وصار المهم عندهم ان يكتبوا، وان كان الرأس فارغا والقريحة مجدبة؟!!، يكتبون متى ما شاؤوا اوكانوا بحاجة الى قصيدة ينشرونها، لا سيما اننا نجد الكثير من القصائد او النصوص وكأن كلماتها تراكبت وتراكمت وسدت فراغا في المكان، وهنا لا اقصد بالتحديد ما ذهب اليه افلاطون في وجهة نظره القائلة من أن الشاعر عندما يبدع شعره يكون في نوبة جنونه، مغيب العقل، فهو يبدع بتدبير إلهي، ولكن دون علم بما يفعل!!، ولا نذهب الى ما ذهب اليه ابو العلاء المعري من ان (الشعر سحر، والشاعرية وحي شيطاني)، بل الى حد ما الى ما يعتقده البعض من ( أن الإلهام لا يصدر عن منابع ما ورائية، بل ينبجس من القلب، أو من عملية ذهنية إبداعية واعية أو لا واعية).

وانا اسعى الى رأس الموضوع تذكرت قولا لكاتب عربي يقول فيه: (انا اؤمن بالالهام ولاسيما في الشعر لانني عرفته عن تجارب ذاتية حين اغمض عيني فأسمع هامسا يهمس لي بالمعنى واحيانا بالمعنى في قالب شعري)، هذا القول حين نقلته الى احد شعرائنا المعاصرين، ضحك وقال (هذا تعبان..!!، الشعر الان هو ان تجلس متى شئت وترتب ما يحلو لك من الكلمات فتصنع قصيدة)، وحين سألته: (والالهام..؟) قال: ذهب مع.. الفرزدق، ذهب مع وادي عبقر) !!، واذ كان بجانبي الصديق الشاعر عماد جبار، فقد نقلت له ما قاله الشاعر فعلق قائلا: (حالة كتابة القصيدة تبدأ بأنفعال وتنتهي في اغلب الاحيان بالبكاء، وفي اعلى مراحلها بالنشيج بسبب رعشة (الخلق) والتعاطف مع الكائنات المعذبة في القصيدة)!!.

وعودة الى ما يكتب الان من نصوص شعرية، كان لا بد ان اعيد قراءة الفكرة من جديد ومناقشة واقع الشعر واحواله في ظل الكم ّ الهائل الذي غثه اكثر من جيده ونطرح تساؤلنا: هل ان الشعر ايحاء ام صنعة.. ام كلاهما؟.

قلت للشاعر ياسين طه حافظ: ماذا تقول في ما ابحث عنه واين اعتراضك في الكلمتين؟، قال: الاعتراض هنا على كلمة (ايحاء) ماذا تعني، وكلمة (صنعة) ماذا تعني؟، بعد ذلك نحن نتعامل بثقافة ومهارة لا بأيحاء وصنعة.
استغربت مما قاله مستفسرا قال موضحا: المهارة يمكن ان تعطي انتاجا مصنوعا (مبتدعا) بشكل جيد، أي بفن متقدم ومتقن، والمسألة الثقافية هي وراء تقدم الموضوع ونوعه، والجانب الشخصي (الذاتي) هو في الاخير صاحب القرار.

نقلت السؤال الى الشاعر ابراهيم الخياط، الذي بعد لحظات من التأمل اخرج ورقة وقلما وراح يكتب: اظن القصد هو الوحي، أي اصل السؤال: هل ان الشعر صنعة ام وحي؟، واقول ان كل اكاديميات الدنيا وكلياتها ليست بقادرة على خلق شاعر واحد، نعم هي قد تصقله وتؤهله وتشجعه وتشذبه، لكن بعد ان ينطق بموهبته التي تنمو مع خلاياه ومع محاولاته، فالشعر ليس بدلة نلبسها ساعة ما نشاء، بل هو الجلد الذي يلبسنا ثم ينميه ويحليه الغذاء، أي ينميه ويحليه ويغذيه الزاد المعرفي، ثم لابد للشاعر من الجدل، فأنه لو كان قاصرا من جلب مفردة جنب اخرى بما يحدث الصعقة، يكون خاويا من الصنعة ومن الصنعة ومن الادعاء حتى.
توقف الخياط عن تفصيل رأيه ولكنه بعد قليل قال: اظن خير من نستشهد به باعتباره اول من وضع اصبعه على الجرح الشعري العريض هو الحاج زاير عندما نطق بلسان جن عبقر: (هزني الهوا بكل حيله / لن شاعر مسويني)!!.

وقال الشاعر نصير فليح في اجابته قائلا: الشعر قبل كل شيء هو موهبة، وخير دليل على ذلك ان هناك من انفقوا اعمارهم في محاولة كونهم شعراء ولم يفقوا، فيما حفظ التاريخ اسماء شعراء ظلت اعمالهم خالدة وما كانوا يملكون اكثر من موهبتهم، وحتى الصنعة في هذا المعنى هي ثمرة للموهبة.
واضاف: فالشاعر الموهوب هو القادر على التمعن واتقان (صناعة) شعره، وهو امر يأتي بالدربة والممارسة، ولكن بدون الموهبة الموجودة اساسا لدى الشاعر ماكان لهذه الدربة والممارسة ان تغني شيئا.

اما الشاعر محمد جبار حسن فقال: الشعر بداية يرتكز بالدرجة الاساس على عوالم الايحاء التي تتطلب من الشاعر ان يكون ذا افق وخيال واسعين لا تحدهما حدود يستلهم منهما كل جديد مطرز بالغرابة والجاذبية، ولكن رغم كل هذا اجد ان الصنعة واجبة في كتابة الشعر لان الايحاء بمفرده لايكفي لكتابة قصيدة تمتلك المواصفات المطلوبة، فبالصنعة يكون الشاعر محترفا في توظيف الايحاء بشكل جمالي يدعو الى الانبهار والشد، لان الشعر اذا كان مجرد صنعة تخلو من الايحاء فأنه يصبح مهنة تشبه مهنة البناء الذي يرصف الطابوق بشكل منظم ولكن يفتقد الى الجمالية والزخرفة.

بقي ان اقول: سواء كان الشعر ايحاء ام صنعة او كلاهما، فالمهم ان يكون مستواه جيدا، ان يستطيع ان يعبر عما في داخل الانسان ويصل اليه بسلاسة وان يثير في نفس السامع او القاريء تصورات ايجابية في خياله وتشرح ما في نفسه وترسم له عالما من المتعة يتجدد معها فكره واحلامه.