د.عزيز التميمي:مرة أخرى نحاول الكشف عن خبايا هذا المصطلح الذي بدا عائماً ضمن جملة تعريفات ومسميات، ويساور الشك الكثير من ممتهني حرفة الكتابة أو الذين يمارسون الثقافة كإتجاه طبيعي لنمو بذرة الإبداع، يساورهم الشك حول ماهية هذا المصطلح ويتساءلون دوماً في أي منطقة أو مساحة معرفية ممكنة يمكن الإمساك بملامح تقود إلى تعليلات مقنعة من شأنها أن تضئ جوانب من تكوينات مفردة الحداثة.
تارة يعتقد الباحث في هذا الحقل أن الحداثة تكمن في أقانيم النص دون سواه، وتارة يتجاوز هذا الإعتقاد إلى مايمكنه من توسعة هذا الإستدلال، فيذكر العملية الإبداعية، العملية المركبة من ثالوت (النص- القراءة- آلية التوصل)، وفي دراسة سابقة تناولت موضوعة القراءة ضمن سلطة احتكمها القارئ، وكانت تعرّف لفعل القراءة. وإذا ما سلّمنا جدلاً بأن التوصّل هو إستنتاج منطقي لما بين المساحتين (مساحة النص ومساحة القراءة) فثمة معادلة مقترحة دوماً لإيجاد حالة الإتزان وانتاج الرؤيا، فحينما يتم التوافق في الأدوات المعرفية لكل من المؤلف والقارئ يستطيع الباحث أن يدرك شيئاً إسمه الحداثة، وبالتالي نقول أن ثمة ما يُكتب قد وجد جدواه، وهذا النص فيه من الحداثة ما جعل القارئ يطرح وجهة نظره.
فالنص هو الآخر له سلطة معرفية غاية في الأهمية إذا ما قورنت بسلطة القارئ، وأستطيع القول أن ما يملكه النص من أدوات فنية يُعد العلامة الأكثر إثارة في قصدية الإكتشاف. فالنص حقل تحرثه رؤيا المؤلف في بيئة من خيال وواقع، وهو إنعكاس لجملة عوامل سلوكية وإجتماعية منها ماهو مرتبط بالذات المبدعة وأقصد دائرة المؤلف حيث هي البؤرة والذات معاً، ومنها ما هو مرتبط بالمحيط الذي يؤثر في الذات المبدعة ويدفعها لرسم إنطباعات تثري عوالم النص الداخلية، وهنا أشير إلى رؤيا الكاتب أو المولف الذي يقف عند حافة إنهيار العالم في لحظة تأمّله وانسياقه وراء تحدّيه للهم المفرز في ذاته من جرّاء الإستفزاز الذي تمارسه الأشياء المؤثثة لعالمه، هنا تنشب بواكير الإيحاء، الإيحاء المؤدي إلى الحركة التحريضية التي تتمخض عن تدوين طقوس الواقع من خلال رؤيا ذاتية فيها الكثير من النرجسية المغايرة، أي مغايرة لنرجسية العذوبة في طبيعة الأشياء.
ومن خلال هذا التدوين يبذر المؤلف في حقله بذرات المستقبل الآتي بعد توقع مفردة الختام أو النهاية، وكلما كان المؤلف حذراً من تجاوزات الذات المبدعة التي تتسيّد في أحيان كثيرة على فوّهات النص وتفرض آليات تحليلية أكثر إنحيازاً لعالم المؤلف على حساب موضوعية الطرح يكون قد أسس لمعادلة توصل منطقية بين عالمي النص والقارئ وانحاز بنصه بعيداً عن التهويمات الحسية أو الإسقاطات الحكمية الجاهزة التي تحدث تشويشاً في إنتاج رؤيا القراءة.
فلسفة بناء النص تكمن في آلية تشكله في ذهن القارئ ومن ثم في إعادة صياغته وإنتاجه، حتى يتمكن الآخر من فهمه والتغلغل في ثناياه، ومن ثم يستطيع أن يبحث عن تلك المفردة التي تسمي تفسها وتهرب في أدغال النص، ولايدري من يتابعها هل يتوقع رؤية أو تدوين ثمة معرفة أو رسم كآبة في مرآة سراب البحث.
نعود لطرح إستفهامية أخرى حول مفهوم الحداثة والنص فنقول هل الحداثة هي مايرتبط بتقنية تكوين النص؟ وإذا افترضنا صحة ذلك فهل نسهم في قتل العملية الإبداعية لأننا أهملنا الأطراف الأخرى؟ ومن يستطيع أن يقول أن هذا نصاً حداثياً؟ وبالعودة إلى منطقة النص التي تعتبر الحقل الأكثر إغراءاً لمواصلة البحث عن ماهية مصطلح الحداثة، نستطيع أن نجس شرايين المنتج المكتوب، ونعمل على تغيير هذه السلطة التي لابد أنها ساكنة في شعاب النص الأدبي، ونتجاوز حلقات وتعقيدات الشكل الخارجي ونسيجه اللغوي وبنية حواره وأنساقه الزمانية والمكانية ونتأمل النص كما تأمل القاص محمد خضير المكان في رؤية مغايرة لتأويلات الواقع فأدرك أن العالم هو المكان الآخر لمدينته وهو يقف حتماً في مكانه حيث التصيير يتغلّب على تداعيات الوهم الواقعي، فيرى العالم يدور حول ذاته التي هي العالم والمكان في آن، لنتأمل النص من داخله ونعتبر العالم هو الشيء المتحول ضمن بنية النص، ونستقرئ حذاقة النص والمؤلف معاً في طرح السؤال الفلسفي أو ما يسمى وجهة النظر أزاء الموجودات أو الأشياء المشيّئة والغير مشيّئة ومن خلال هذه الرؤية يمكننا أن ندرك سلطة النص أو قواه الخفيّة التي تجعل من حقله خصباً على الدوام ونقطة ساخنة مثيرة للقلق في ذاكرة القارئ والباحث معاً، وجهة تصدر الإستفزاز دوماً للمخيلة والذاكرة البشرية، من هنا أستطيع التساؤل : هل من حق المؤلف أن يدّعي أنه أنتج نصاً إبداعياً تكمن في روحه حرارة الحداثة إذا استطاع أن يؤسس لحالة تداعي وتأويل تتجذّر في بؤرة النص وتشع خارجياً لتنعكس في ذات القارئ أو الباحث؟ أنا من وجهة نظري أتفق مع الفكرة التي تسمي ذلك تصويباً منطقياً في تأكيد هذا الإدعاء،.... ترى ماذا يقول القارئ إذا مارس سلطته أزاء النص؟