الحلقة الثالثة والأخيرة من لقاء إيلاف مع وكيل وزارة الثقافة والإعلام السعودية المفكر أبو بكر باقادر:
* الطفرة الاقتصادية أثرت على تحولات المجتمع الخليجي
* المجتمع السعودي من أكثر المجتمعات إثارة وقبولاً للتحليل السوسيولوجي
* معدلات التحضر في بلدان الخليج العربي من أعلى المعدلات في العالم.
* الكتابة الإبداعية واحدة من المفاتيح للتعرف إلى أفكار الناس.
* السيرة الذاتية والرواية وصفحات الرأي سوف تشكل مادة مهمة للباحث الاجتماعي.
* الجدل حول الخطاب الديني بما يشهده من جدل عنيف وملاسنة ومساءلة، من أبرز الطروحات اليوم،

عبدالله السمطي من الرياض: يتواصل الحوار الشائق مع وكيل وزارة الثقافة والإعلام السعودية، المفكر الدكتور أبو بكر أحمد باقادر ، حيث يرى في هذا الجزء الثالث والأخير أن الحراك الاجتماعي أصبح سمة من سمات المجتمع، والصعود الفردي ، والنزعة الفردية، بطبيعة الحال الكل يريد أن يستفيد

الحلقة الأولى

الحلقة الثانية

مما يسميه بـquot;الزبونية الاجتماعيةquot;، فتجد أن كثيرًا يريدون أن يستفيدوا من اسمك أو جاهك أو غناك، ثم تصبح هذه quot; الزبونيةquot; عائقًا ضد الصعود الفردي. هذه ديالكتيكية كبيرة جدًا، لم تحسم في مجتمعاتنا ولكن في طريقها إلى أن تحسم. ويؤكد باقادر في هذا الحوار على أن مجتمع المملكة العربية السعودية، من أكثر المجتمعات إثارة وقبولا للتحليل السوسيولوجي، فكيف يمكن ذلك؟ هذا ما تسعى هذه الهواجس إلى بيانه، وجلاء الكوامن الراسخة لدى المجتمع السعودي والعربي بوجه عام. وإلى نص الحوار:

*الظاهرة الأدبية في السعودية؟ هل تتمثل التحولات الاجتماعية؟ وهل يمكن اعتمادها كمصادر للباحث الاجتماعي مع كونها تندرج في إطار تخييلي وفني وجمالي؟
- مجتمع المملكة العربية السعودية، من أكثر المجتمعات إثارة وقبولا للتحليل السوسيولوجي، وعادة حينما يكتب باللغة العربية، ربما نحتاج للتمهيد، و لدراسات تحمس الناس، والدراسات التي حدثت أقرب للحديث الصحافي. ولكن هناك بعض الدراسات الجيدة، لكن حين تنظر لهذه القضايا بدهشة الأجنبي، أو بمحاولة التواصل مع الأجنبي فإن ذلك يتطلب قدرًا من القولبة، وقد أخرجنا كتابين مع أحد الزملاء ، يسعيان إلى تقديم المملكة العربية من منظور أنثوبولوجي واجتماعي، ويتحدث عن البيئة، والتاريخ والجغرافيا، ونحن نقدمه للأجانب، وتقديم المملكة بشكل تبسيطي يساعد القارئ الأجنبي في التعرف إلى المملكة بصورة بانورامية. ونحن سنصدره قريبًا.
لدينا خطة تفصيلية أن نعمل كتابًا بما يسمى : العولمة، التغير والمقاومة، وفيها دراسة عن الاستهلاك، وتغير القيم، والفجوة بين الأجيال، وأحداث ما بعد 11 سبتمبر، والطفرة الاقتصادية، ما بعد الحداثة، كيف استلهمت هذه القضايا وأعيد صياغتها محليا.
وسؤالك عن الأدب بوصفه الظاهرة الأبرز... بعد quot;العصفوريةquot; وquot; شقة الحريةquot; لغازي القصيبي فإن من أراد أن يتعرف على النواحي الاجتماعية، ولن أتحدث عن قضايا انتهينا منها مثل المسكوت الاجتماعي، والتابو، فلم يعد لها معنى. إذا أردت أن تعرف كيف يفكر الناس؟ فالكتابة الإبداعية واحدة من المفاتيح في ذلك. صحيح أن بعضهم سطّح، وصحيح أن بعضهم حاول أن يصدم المجتمع، لكن تظل في هذا الإبداع ملامح عامة عن المجتمع.
هناك نوع آخر من الكتابة لا يأخذ شكلا إبداعيًا، ولكنني أعتقد أنه إبداعي واجتماعي، وهو يحظى باهتمام كبير في الأوساط الأدبية، وأعتقد أنه يتوسع، ألا وهو السيرة الذاتية، فنجد الدكتور غازي القصيبي يقدم حياته في الإدارة، والآن نرى سير الأسر التجارية التي تريد أن تعرف بنفسها، أو بباحث مثل د. عبدالله أبو داهش وكتابه:quot; حياة في الحياةquot; وواضح من العنوان أنه يقدم سيرته الذاتية، وتفاصيل حياته بتوثيقاتها اليومية، حيث سعى لتقديم حياته في 1500 صفحة، وأعتقد أن هذه مادة خام ، والدارسون سيجدون في النوعين: السيرة الذاتية والرواية، وسيجدون مادة ثقافية مهمة.
وهناك جنس ثالث نأخذ مسافة منه، وأعتقد أنه واعد، واستخدمه علماء الأنثروبولوجيا في دراساتهم ، وتحديدًا في دراسات عن المرأة، ويمكن أن تتوسع في دراسات أخرى، ألا وهي صفحات quot; الرأيquot; التي بدأت تظهر بشكل قوي من عام 2000 حتى اليوم ، فيها مساحات كبيرة من الجدل، ومن الطرح، ومن الأسئلة، حتى توصلت إلى بعض الأسئلة التي كانت تبدو بديهية، تتعلق بقضايا العمل، والحياة الاجتماعية، ووضع المرأة ، والعمالة الأجنبية، والأوضاع الاقتصادية والأوضاع السياسية، ولا شك فيها الغث والسمين، وفيها بعض الطروحات التي تكون مثالية وتبسيطية، ولكنني أعتقد في الوقت نفسه، بالإمكان أن نموضع هذه المادة، ولعلنا نحتاج إلى مسافة زمنية، فالدارس الاجتماعي يدرس التلاحم، والتحولات، فما تكاد تستيقن بشيء حتى يتغير، وأعتقد أنه هذا الجنس: جنس مقالات الرأي سوف تشكل لاحقًا مادة غاية في الأهمية للباحث الاجتماعي، على الأقل لدراسة هذه الحقبة. وأتصور أننا سنجد في هذه الحقبة كثيرًا من الأمور التي كانت مثار جدل، ولاحقًا سنعرف ما إذا كان لها صدى في حياة الناس، وأتصور أن الجدل حول الخطاب الديني من أبرز الطروحات، بما يشهده من جدل عنيف وملاسنة ومساءلة، بحيث لم نعد نركن لقداسة الموضوع. فطريقة الطرح تشكل بعض المرايا التي تساعد في فهم طبيعة هذا المجتمع وتصوراته. لكنها تحتاج إلى مسافة زمنية حتى يستطيع الباحث دراستها.
لدينا بعض المصادر التي تشكل روافد للدراسين والباحثين، الغريب في الأمر أن الرواية مثلا، نجد جدلين متميزين في هذا الخصوص، وهي كلها مؤدلجة، إما سياق يدعي أنه تنويري ، وينادي بكسر التابوهات، وهذا كلام مؤدلج ينبغي أن نأخذه بحذر، أو من نظروا إلى هذه النصوص الروائية باعتبارها وثائق، أي يصدر عليها فتوى أو حكم. وأحيانًا تصل المسألة إلى حالة من السخرية، فالموضوع ليس بهذه الطريقة، ولكن الجدل الذي صار عن : الحداثة في ميزان الإسلام، يؤطر للردود التي كانت لدى الكتاب ، وأرجو أن يظهر لدينا ما يسمى بدارسي النقد الثقافي، أو الدراسات الثقافية، أو سوسيولوجيا الأدب الذين يسعون إلى دراسة الظاهرة الثقافية الأوسع. لماذا أنتج العقل السجالي هذا النوع من النصوص ومن الأدبيات؟ كيف يستهلك؟ كيف يتم تلقيه؟ كيف يعاد إنتاجه؟
وهذا يقتضي مسألة المبيعات، مسألة النقد، كيف يتم تناول هذه الظاهرة؟ وقد حاول لوكاش أن يفسر كيف ظهرت الرواية كجنس أدبي؟ بينما كان الجنس المسيطر في العصور الوسيطة: الملاحم والشعر الملحمي.
هذه أمور سنخوض فيها، لكن أعتقد أن هناك مخاضًا أدبيًا. أيضًا مسألة السيرة الذاتية التي ستصدر عنها مجموعة من الدراسات، وهي أصبحت موضة، كما أنها أصبحت في مصر موضة، فالكل يريد أن يسجل إسهامه بعد جيل الرواد، ومنهم المهندس، والمحامي، والصحافي، والمعلم، والكاتب، فمثلاً سيرة عبدالرحمن بدوي وتعليقاته، وغيره كثير. السير الذاتية التي تقدم شخصًا يود أن يقول إنه أسهم من خلال علمه أو منصبه في مسيرة المجتمع.
أنا أعتقد وبالذات نحن في الخليج، الأوضح سير الأسر التجارية، وأعرف بعض الأصدقاء الغربيين يتصلون دائما ليعرفوا ماذا صدر من هذه السير، باعتبار أن الركيزة التجارية الاقتصادية في منطقة الخليج مهمة. وبالنسبة لسير الشخصيات العامة دينية أو صحافية في منطقة الخليج مهمة، وأتوقع أن تصدر بشكل كثيف سير ذاتية قادمة، فهي من المصادر المهمة لدارسي الأدب، وأيضا ليس من ناحية أدبية فقط ولكن من خلال الأبعاد الاجتماعية، والسؤال لماذا يفكر شخص ما في المجتمع بهذه الطريقة؟ ويرى نفسه، ويعكس رؤيته الذاتية بوصفها إسهامًا جليًا في المجتمع؟

11 سبتمبر الوجه الآخر:
* إذا كانت السنوات العشر شهدت تحولات أساسية : الاتجاه إلى مؤسسات المجتمع المدني: مركز الحوار، حقوق الإنسان، توحيد التعليم.. كيف تقرأ هذه التحولات: قضايا الشباب المرأة التحول للفن؟
- بعد 11 سبتمبر تبدت الصورة التي تقدم عنا كمجتمع، أننا شعوب وديعة تحترمها المجتمعات الأخرى، وتبدى ذلك في بعض الروايات التي قرأتها وإن كانت روايات بسيطة، وكنت أتصور أن هذا الحب نابع من أجل quot; سواد عيونناquot; كشخصية جذابة مغناطيسية، ولنا علاقات واسعة مع مختلف الأمم، لكن بعد 11 سبتمبر ظهر الوجه الآخر.
فهل نحن ضيّقو الأفق، هل نحن متطرفون؟ وبدأوا يحاسبوننا على تعبيراتنا وكلماتنا. جزء كبير مما تتساءل عنه موجود في مجتمعاتنا ولكن يأخذ صيغا أخرى، كنا مشغولين أكثر، ولكن اليوم أصبح علينا ndash; بالضرورة- أن نعبر عن أنفسنا، ونقدم أنفسنا بخطاب. أتحدث عن المجتمع الخليجي الذي تأثر بالأحداث أكثر، حيث أثرت الطفرة الاقتصادية على تحولات المجتمع. وجاءت مطالبات من العالم وأصبح لابد من تلمس وسيلة للحديث مع العالم.
أعتقد أننا كمجتمع أننا تغيرنا، ليس بمعنى أن هناك انفصالاً، أو تحولاً عن تراثنا. لا. بل أصبحنا نريد أن نعبر عن أنفسنا ونقدمها عبر لغة حديثة، فأصبح الحديث عن ثقافة الحوار، ثقافة الآخر، الرأي والرأي الآخر، البوح، بصراحة بلا مجاملة. ولم يعد بإمكان الأسرة أن تكون ممتدة، بسبب الظروف الاقتصادية. لاتوجد أسرة وإلا وربما لديها معاق، أو مشكلة صحية، أو لا قدر الله من لديه مشكلة اجتماعية، وظهرت الأمراض النفسية، فطالما دخلنا في مسألة الحداثة، والطفرة فتأثرنا بها واضح، فأصبح الاعتماد على الأسرة قليلاً، والاعتماد على القيم التي تنتقل عبر الأجيال لم تعد قائمة، فكان لابد من وجود مؤسسات ووسائل دعم، وأصبحت هذه تقدم من طرف الحكومات كخدمة، وهي من وظيفة الدولة، ولكن وجدت الحكومات أن معظم خدماتها لحل إشكاليات موقتة، لكن إذا كانت القضية مستديمة، واحد معاق، أو مضطرب نفسيًا. وتكفي تجربة الأسهم التي أثرت نفسيًا في كثير من الناس. الناس محتاجون إلى أن يدافعوا عن أنفسهم، أن يعملوا خدمات يعملون فيها على شكل مؤسسة، تدعمها وتؤازرها الحكومات. فبدأت تظهر المؤسسات.

* هل نقول : إن المؤسسة أصبحت بديلاً عن القبيلة؟
- القبيلة هي وحدة سياسية، والقبلية كما تتبدى في الدراسات الاجتماعية لا تظهر إلا في أمرين: إما أن يكون خطر خارجي، وأيضا تغير أساليب الإنتاج والحياة التي كانت في منطقتنا على وجه الخصوص تتعايش عبر الزراعة، ولكن أعطيك نموذجًا أوروبيًا، في ألمانيا مثلا: الفرق بين وسائل الحياة في المدينة وقرية صغيرة ليس كبيرا. الآن البون أصبح شاسعا، والألمان بدأوا ينتبهون لذلك مع بدايات الثورة الصناعية، فقدموا لنا المجتمع الصناعي، والمجتمع المحلي.
أما دول الخليج فكانت مجتمعات رعوية بسيطة، يتوزعون على رقعة جغرافية متقاربة، وما يسمى بالديرة أو مكان انتشار القبيلة أو الجماعة الرعوية، وحتى تحصل على الكلأ والماء تتنقل في الشتاء والصيف، وفي الصيف يجتمع الناس، وفي الشتاء يتفرقون إلى وحدات صغيرة. ولكن اليوم إذا أخذنا معدلات التحضر في بلدان الخليج العربي نجد أنها من أعلى المعدلات في العالم.

مدن معولمة:
* يعني ممكن القول إن مدينة مثل الرياض مدينة معولمة تبعًا للمعدل الحضاري؟
-لا. الرياض ربما تكون أقل، بالمقارنة بالكويت، أو دبي 98% من السكان من بلاد أخرى في مركز حضري، والحياة في المدينة وأسلوبها في التعامل مع القضايا يؤثر بلا شك في بنية المجتمع.
القبلية تكون في الوشائج والقيم، والترابط الاجتماعي، في الحروب تظهر العشائرية والقبلية، وفي السلام تظهر المسائل الاجتماعية في الزواج مثلا، وفي بحبوحة العيش أحيانا، فالمجتمعات التي بها قبائل فقيرة مثلا يبدأ الفرز الاجتماعي في المجتمعات التي بها بحبوحة من العيش، أيضا تظهر منها مخاطر في وقت السلم، يتمثل في التضامن المالي، وهذه يسميها الفقهاء:quot; العاقلةquot; الأقارب الذين يترابطون مع بعضهم وهم يسمونها في العاميةquot; القطquot; أو التكافل، مثلا شخص ما يصير له حادث فتقوم جماعته بالتضامن معه ماديا واجتماعيا، أو يوفرون له دعما ماليا في نوائب الدهر أو الزواج. ومن يشعر بهذا هم الناجحون من أبناء هذه الوحدات الاجتماعية.
الحراك الاجتماعي وهو أصبح سمة من سمات المجتمع، والصعود الفردي ، والنزعة الفردية، بطبيعة الحال الكل يريد أن يستفيد من الزبونية الاجتماعية، فتجد أن كثيرا يريدون أن يستفيدوا من اسمك أو جاهك أو غناك، ثم تصبح هذه quot; الزبونيةquot; عائقًا ضد الصعود الفردي. هذه ديالكتيكية كبيرة جدًا، لم تحسم في مجتمعاتنا ولكن في طريقها إلى أن تحسم.
اليوم ndash; أخي الكريم- غالبيتنا إذا كان جاء من قرية أو بلدة وأصبح جزءًا من المدينة، لم يعد أسلوب الإنتاج الذي يمضي ضمن الظروف الاقتصادية التي يعيشها المجتمع. وتتساءل: ماذا كان أبوك يعمل؟ أو ماذا ستعمل ابنتك أو ابنك؟ تجد أن الظروف تغيرت، والسبب الانتقال إلى المدينة، لأن الانتقال إلى المدينة يقتضي تصرفات ومسؤوليات كبيرة جدًا. ويظهر ذلك فيما يشكل قيمنا التقليدية، فأكبر الإشكاليات سؤال: كيف سنتعامل مع بقية أفراد الأسرة؟ خاصة إذا كان في الأسرة من هو ثري وناجح، وفيها من هو فقير ومعدم، وهامشي؟ أو كيف نتعامل مع كبار السن إذا كانوا في داخل العائلة؟ هل سيكون هذا على حساب الأجيال الناشئة ودورها في الحراك الاجتماعي؟ وهي أسئلة ليست أخلاقية فحسب، بل هي عملية ويومية. فأحيانا كثيرة في داخل المدينة الواحدة: الإخوة لا يرون بعضهم إلا في الأعياد والمناسبات، ويبدو هذا أمرًا طبيعيًا في المدينة، لكن زملاءهم في العمل أو في النادي أو الحي الذي يقطنونه يرونهم أكثر من أهلهم. وهنا ستنشأ ما نسميه العلاقات القائمة على الاختيار، وليس على النسب أو الإجبار، وتبقى هذه العلاقات العائلية تنحسر وتنحسر إلى أن تصبح علاقات تظهر في المناسبات الرسمية فقط كالأعراس أو الاحتفالات أو الأعياد.