في العراق كان أسمه سليم عبدالحسين، وكان يعمل في البلدية في أعمال التنظيف ضمن المجموعة التي خصصها مدير بلدية العاصمة لتنظيف مخلفات الأنفجارات. مات في هولندا في عام 2009، بإسم آخر: كارلوس فوينتس.
كان سليم يكنس بملل وقرف، مثل كل يوم أسود، هو وزملاؤه سوق شعبي أنفجرت قربه شاحنة ينزين مفخخة. في السوق إحترق الدجاج والخضروات والفواكه والبشر. كانوا يكنسون السوق بحذر وبطء. كانوا يخشون أن يجرفوا مع الأنقاض ماتبقى من أشلاء البشر. لكنهم كانوا يبحثون دائما على حافظة نقود سالمة أو ربما سلسة ذهبية او خاتم او ساعة لم تتوقف عن حساب الزمن. سليم لم يكن محظوظا مثل زملائه في الحصول على مخلفات ثمينة للموت. كان بحاجة للنقود لشراء فيزا سفر الى هولندا والخلاص من جهنم الموت والنار. اللقية الوحيدة التي عثر عليها كانت أصبع رجل يحمل خاتما فضيا ثمينا وبالغ الجمال. وضع سليم حذائه فوق الأصبع، أنحنى بحذر وسحب بتقزز خاتم الفضة. ثم حمل الأصبع ووضعه في كيس أسود كانوا يجمعون فيه بقايا الأشلاء. الخاتم صار في أصبع سليم. وكان يتأمل شذرة الخاتم بدهشة وأعجاب،وفي الأخير تخلى عن فكرة بيعه. هل يمكن القول انه كان يشعر بعلاقة روحية سرية مع الخاتم؟
*
أثناء تقديمه طلب اللجوء في هولندا تقدم ايضا بطلب تغيير أسمه.:من سليم عبدالحسين الى كارلوس فوينتس. وكان قد برر للمحقق في دائرة الهجرة طلبه بسبب خشيته من الجماعات الأسلامية المتطرفة. فحكاية طلب لجوئه كانت تتعلق بعمله مترجما لدى الجيش الامريكي وخوفه من الأغتيال بسبب تهمة خيانة الوطن. كان سليم قد أستشار أبن خاله الذي يعيش في فرنسا حول تغير أسمه. أتصل به عبر الهاتف الخلوي من دائرة الهجرة، فسليم لم تكن لديه فكرة واضحة عن أسم أجنبي جديد يناسبه. كان أبن الخال، يسحب في شقته، نفسا عميقا من سيجارة الحشيش حين أتصل به سليم. قال أبن الخال وهو يكتم ضحكة: ( أسمع.. أنت محق تماما، ان تكون من السنغال او من الصين افضل مئة مرة من ان تحمل في اوربا اسما عربيا. لكن ليس من المعقول ان يكون اسمك جاك او ستيفن... أقصد اسما أوربيا.. ربما تختار أسما اسمر... من كوبا أو الارجنتين يتناسب مع لون بشرتك الداكن مثل رغيف الشعير المحترق.. ها ها ها ها ). كان ابن الخال يبحث في كومة الصحف في غرفة المطبخ، وهو يواصل حديثه عبر الهاتف، فقد تذكر انه قد قرأ قبل يومين أحد الاسماء، ربما كان أسما اسبانيا في مقال أدبي لم يفهم منه الكثير. شكر سليم ابن خاله بحرارة على الخدمة التي قدمها له وتمنى له حياة سعيدة في فرنسا العظيمة.
كان كارلوس فوينتس سعيد جدا بأسمه الجديد. أسعده جمال مدينة امستردام أيضا. لم يضع فوينتس الوقت. أنخرط في كورس تعلم اللغة الهولندية، وقد قطع على نفسه عهدا بأن لايتحدث بالعربية بعد اليوم وأن لايختلط لا بالعرب ولا بالعراقيين مهما كانت ظروف حياته و(كفى بؤسا وتخلفا وموتا وخراء وبولا وبعرانا). في العام الأول من حياته الجديدة لم يترك فوينتس شيئا لم يقارنه بأحوال بلده الاول او أن يضع أمامه علامة استفهام او تعجب. كان يسير في الشوارع وهو يتمتم مع نفسه بتذمر وحسد ( أنظر الى الشوارع كم هي نظيفة. أنظر الى مقعد المرحاض، يلمع من النظافة. لماذا لانأكل الطعام مثلهم. نأكل نحن بنهم وكأن الطعام سيختفي سريعا. لو كانت هذه الفتاة التي ترتدي تنورة قصيرة وتكشف عن ساقيها ـ تسير الآن في ساحة باب الشرقي،لأختفت عن هذا العالم. يكفي أن تسير عشرة أمتار قبل ان تبتلعها الأرض. لماذا الاشجار خضراء جميلة كانها مغسولة بالماء كل يوم. لماذا لانصبح مسالمين مثلهم. نعيش في بيوت كالزرائب بينما بيوتهم، دافئة، آمنة، ملونة. لم يحترمون الكلاب مثل البشر. لماذا نمارس العادة السرية أربع وعشرين ساعة. من اين نأتي بحكومة محترمة مثلهم (لم يترك كارلوس فوينتس شيئا لم يشعر تجاهه بالدهشة والمهانة في نفس الوقت. من نعومة ورق التواليت في هولندا الى بناية البرلمان التي لاتحرسها سوى كاميرات المراقبة.
سارت حياة كارلوس فوينتس مثلما خطط لها، وكان يتقدم كل يوم في عملية دفن هويته وماضيه. وكان يسخر طوال الوقت من المهاجرين والاجانب الآخرين الذي لايحترمون قوانين الحياة الهولندية ويتذمرون طوال الوقت. كان يصفهم بالجرابيع المتخلفة. يعملون في المطاعم بطرق غير قانونية، لايدفعون الضرائب ولايحترمون اي قانون. همج من العصر الحجري. يكرهون الهولندين الذين منحوهم خبزهم وبيوتهم. كان يشعر بأنه الوحيد الذي يستحق ان يتبناه هذا البلد الرحيم والمتسامح،وان على الحكومة الهولندية أن تطرد كل من لايتعلم اللغة بشكل جيد وكل شخص يرتكب أبسط مخالفة حتى لو كانت تتعلق بعبور الشارع بصورة مخالفة لنظام المرور. وليذهبوا ويتغوطوا هناك في بلدانهم المراحيض...
كان كارلوس فوينتس يعمل بأستمرار ويدفع الضرائب، ويأبى أن يعيش على المساعدات الأجتماعية، بعد أن اجاد اللغة الهولندية بفترة زمنية قياسية ادهشت كل من يعرفه. وتوجت جهود فوينتس في دمج روحه وعقله بالمجتمع الهولندي بالحصول على صديقة هولندية طيبة القلب أحبت فوينتس وأحترمته. كان وزنها 90 كيلو، ولها ملامح طفولية، تشبه ملامح رسوم الاطفال المتحركة. وكان فوينتس يجهد في معاملتها كرجل متفهم ومتحرر مثل الرجل الغربي بل أكثر بقليل. بالطبع كان يقدم نفسه دوما للآخرين على أنه مكسيكي الأصل هاجر والده وأستقر في العراق للعمل كمهندس في شركات النفط. وكان يحلو لكارلوس أن يصف الشعب العراقي بأنه شعب همجي متخلف لايعرف مامعنى الأنسانية: ( أنهم مجرد عشائر متوحشة ).
و أتاح له زواجه من الهولندية وأجادته اللغة وأنخراطه في دورات عديدة عن الثقافة والتاريخ الهولندي وعمله المتواصل وخلو ملفه من أي مشكلة او مخالفة قانونية،ان يحصل على الجنسية الهولندية بوقت قصير جدا، لم يحلم أي واحد من المهاجرين به. و قرر كارلوس فوينتس ان يحتفل كل عام بيوم حصوله على الجنسية الهولندية. كان فوينتس يشعر ان جلده ودمه قد تبدلا الى الابد، و رئتاه تتنفسان الحياة الحقيقية. ولكي يشد من عزيمته كان يردد دائما: (أجل، أعطني بلدا يحترمني، لأعبده طوال حياتي وأصلي من أجله). هكذا كان الحال الى أن ظهرت مشكلة الأحلام الليلية ولخبطت كل الأمور. اوكما يقال لا تصدأ الأمثلة والحكم القديمة أبدا، ما يصدأ فقط هو الانسان. لهذا جرت الرياح بما لاتشتهيه سفينة فوينتس. كان أول الأحلام قاسيا ومصدما. فأثناء الحلم عجز عن الكلام بالهولندية. كان يقف امام صاحب العمل الهولندي ويتحدث معه بلهجة عراقية مما سبب ضيقا وألما فظيعا في رأسه. وكان يفيق وهو يتصبب عرقا ثم ينفجر بالبكاء. أول الامر ظن انها مجرد أحلام عابرة ستزول حتما. لكن الاحلام كانت تواصل القصف من دون رحمة. شاهد في احلامه مجموعة من الأطفال في الحي الشعبي الذي ولد فيه، وهم يركضون خلفه ويسخرون من أسمه الجديد. كانوا ينادون خلفه ويصفقون: كارلوس الجبان.. كارلوس المنيوك.. كارلوس الزعطوط. وكانت الاحلام المزعجة تتحول ليلة بعد ليلة الى كوابيس مرعبة. حلم ذات ليلة بأنه يفجر سيارة وسط مدينة امستردام. كان واقفا في قاعة المحكمة وهو يشعر بالعار والخجل. كان القضاة صارمين لم يسمحوا له بالتحدث بالهولندية. كان قصدهم إهانته وتحقيره. جلبوا له مترجما عراقيا طلب منه أن لايتكلم بلهجته القروية التي لايفهمها، وكل هذا كان يزيد من عذابه وحرجه.
راح فوينتس يجلس ساعات في المكتبة يبحث في الكتب التي تتحدث عن الأحلام. عثر في زيارته الاولى على كتاب بعنوان اللغة المنسية لكاتب اسمه أريك فروم. لم يفهم الكثير منه، كما لم تعجبه آراء الكاتب التي كانت غير مفهومة تماما. فهو لم يكمل حتى دراسته الاعدادية. هذا محض هراء. قال فوينتس وهو يقرأ كتاب فروم: نحن نكون احرارا خلال النوم، بل أكثر حرية مما نكون عليه خلال اليقظة... بل قد نشبه الملائكة من حيث عدم خضوعنا لقوانين الواقع. خلال النوم يتراجع ملكوت الضرورة ويخلي مكانه لملكوت الحرية وتغدو كينونة ال ـ أنا ـ مرجعية الافكار والمشاعر الوحيدة.
اعاد فوينتس الكتاب وهو يشعر بالصداع. كيف نكون احرارا ونحن لانتحكم باحلامنا ؟ ماهذا الكلام الفارغ! سأل فوينتس موظفة المكتبة إذا كانت هناك كتب بسيطة تتحدث عن الأحلام. لم تفهم الموظفة سؤاله بالتحديد، أو أنها ارادت ان تعبر له عن مدى ثقافتها واطلاعها على هذا الموضوع. أخبرته عن كتاب يتحدث عن علاقة الطعام وطرق النوم بالاحلام، وراحت تفيده ببعض المعلومات وتسدي له بضع نصائح، كما دلته على مكتبة لديها مجلات مختصة بعالم الاحلام واسراره.
كانت زوجة فوينتس قد أنتبهت الى سلوك زوجها الغريب وعاداته في الطعام والنوم، كما تغيرت أوقات دخوله الى الحمام وخروجه. مثلا لم يعد فوينتس يأكل البطاطا التي كان يفضل كل أنواع طهيها. وكان يشتري بأستمرار لحوم الطيور، والتي كانت أسعارها في الغالب مرتفعة. بالطبع لم تكن زوجة فوينتس تعلم بانه قرأ أن تناول أي من الخضروات الذي تنمو داخل الأرض تكون في الغالب مصدر الاحلام التي تتعلق بماضي الأنسان وجذوره. فتناول جذور النباتات له مفعول يختلف عن تناول السمك الذي يعيش في الماء او فواكه الأشجار. كان فونيتس يجلس الى المائدة وهو يلوك لقمته مثل البعير. فقد قرأ أن مضغ الطعام بشكل جيد يساعد على التخلص من الكوابيس. لكنه لم يقرأ مثلا عن لحوم الطيور اي معلومة، إلا أنه خمن بأن أكل طيور السماء قد يجلب احلاما أكثر سعادة وتحررا. كان يزاوج بين مخيلته وخبرة الكتب في جميع محاولاته ل (دمج الاحلام ). في الأخير توصل الى هذه الفكرة. فقد صار طموحه أكبر من التخلص من الأحلام المزعجة. يجب التحكم بالأحلام لتشذيبها وتنقيتها من كل الهواء الفاسد ودمجها بقوانين الحياة الهولندية النقية. على الأحلام ان تتعلم اللغة الجديدة للبلد كي تتمكن من تخيل صور وأفكار جديدة. يجب أن تختفي كل الوجوه الكالحة والبائسة القديمة. وهكذا ضاعف فوينتس قراءة الكثير من الكتب والمجلات التي تتحدث عن خبايا النوم والأحلام بأكثر من اسلوب وفلسفة. كف فوينتس ايضا عن النوم عاريا والأحتكاك بعري زوجته. وكان يرتدي اثناء النوم معطفا سميكا من الصوف كان سبب الشجار مع زوجته وذهابه الى الصالة والنوم على الكنبة. العري يسحب النائم الى منطقة الطفولة، هذا ماقرأه ايضا. وكان يذهب للأستحمام كل يوم في تمام الساعة الثانية عشرة وخمس دقائق، وحين يخرج من الحمام يجلس الى الطاولة في المطبخ ليتناول بضع قطرات من زيت زهور الياسمين. وقبل ان يخلد الى النوم كان يدون في ورقة، أهم الاغذية المهدئة التي سيشتريها في الغد. دامت الحال أكثر من شهر لكن فوينتس لم يصل الى نتيجة طيبة. لكنه كان صبورا وذا ارادة لاتقهر، الى أن أتت أيام راح يقوم فيها بطقوس سرية غامضة. كان يصبغ شعره وأظافر أصابع قدميه بالاخضر وينام على بطنه وهو يردد كلمات مبهمة. وفي احدى الليالي صبغ وجهه مثل الهنود الحمر ونام وهو يرتدي بيجامة شفافة لونها برتقالي ويضع تحت وسادته ثلاث ريشات منزوعة من طيور مختلفة.
لم تكن كرامة فوينتس تسمح له بأن يطلع زوجته عما كان يحدث له. فقد وجد أنها مشكلته و قادر على تجاوزها، فهو من تجاوز من قبل أصعب الظروف وأتعسها. بالمقابل كانت زوجته أكثر صبرا على سلوكه الغرائبي. فهي لم تنس طيبته وكرمه. قررت أن تمنحه فرصة أخرى قبل أن تتدخل وتضع حدا لما يجري.في ليلة من ليالي الصيف الجميلة كان كارلوس فوينتس نائما وهو يرتدي بدلة عسكرية ويضع الى جانبه بندقية من البلاستيك من تلك التي يلعب بها الأطفال. وما أن تحول نومه الى حلم، حتى تحققت للمرة الاولى أحدى امنياته التي طالما أنتظرها. لقد أدرك في الحلم أنه يحلم. هذا ماكان يبحث عنه بالضبط. أن يعمل وعيه داخل الحلم لكنس كل زبالة اللاوعي. وقف في الحلم أمام باب بناية قديمة تبدو وكأنها قد تعرضت في حياتها السابقة لحريق مدمر. وكانت البناية تقع وسط بغداد. وما كان يزعجه رؤيته الأشياء من خلال منظار البندقية التي يحملها بين يديه. أقتحم فوينتس باب البناية وراح يدخل شقة تلو أخرى ويجهز على كل من فيها من دون رحمة. لم ينج من زخات رصاصه حتى الأطفال. كان هناك صراخ وهلع وفوضى. لكنه كان بارد الأعصاب و حصد ضحاياه بكل براعة ودقة. خشي أن يفيق قبل أن ينهي مهمته. وفكر: لو كانت عندي رمانات يدوية لأنهيت العمل بأقصى السرعة في هذه البناية والتوجه الى مكان آخر. لكن حدثت مفاجأة صاعقة في الطابق السادس حين اقتحم أولى شققه ووجد نفسه أمام سليم عبدالحسين! كان سليم يقف قرب النافذة عاريا وهو يحمل مكنسة ملطخة بالدم. وبيد مرتجفة صوب فوينتس بأتجاه رأس سليم الذي أخذ يبتسم و يردد هازئا: سليم الهولندي، سليم المكسيكي، سليم العراقي، سليم الفرنسي، سليم الهندي، سليم الباكستاني، سليم النيجيري.
إنهارت أعصاب فوينتس وتضاعف ذعره. أطلق صرخة مدوية وبدأ يزخ بالرصاص سليم عبدالحسين،إلا أن هذا قفز من النافذة ولم تنله رصاصة واحدة.
حين أفاقت زوجة فوينتس على أثر الصرخة وأطلت برأسها من النافذة، كان كارلوس فوينتس ميتا على الرصيف وبركة دم تكبر ببطء تحت رأسه. ربما سيغفر فوينتس للصحف الهولندية التي كتبت: انتحار رجل عراقي ليلا من الطابق السادس، بدل ان تكتبت انتحار مواطن هولندي. لكن فوينتس لن يغفر مطلقا لأخوته الذين أعادوه الى العراق ودفنوه في مقبرة النجف.غير أن أجمل مافي حكاية فوينتس صورته التي التقطها له أحد هواة التصوير الذي كان يعيش قريبا من مكان الحادث. ألتقط الشاب الصورة من زواية منخفضة. كانت الجثة قد غطتها الشرطة، ولم يكن يبرز من أسفل الغطاء الأزرق سوى كف يده اليمنى. كانت الصورة بالأسود والأبيض الا أن فص الخاتم في أصبع كارلوس فوينتس كان يشع باللون الاحمر في مقدمة كادر الصورة، وكأنه شمس في جهنم.

من مجموعة (مجنون ساحة الحرية) التي ترجمت الى اللغة الانكليزية ونشرت في عام 2009 عن دار كومابريس