حسين السكّاف: أوراق المنفى العراقي التي طالما احتوت الأحلام والأمنيات، ومواقف بملامح شخوصها، ورؤى لمستقبل quot;مريحquot;... كلها سقطت هشَّة، كأوراق الخريف معلنة quot;أوهامهاquot; حين اصطدمت بأرض الواقع... تناثرت لتغطي أرض مخيلةٍ لم تكن سوى صحراء أجمل ما فيها، سرابها!... لكن، ثمة رجل شجاع quot;محبطquot;، قرر كنس صحراء الوهم ليلملم أوراق منفاه!...
إنها رؤية شاعر، ابتسم يوماً لسقوط جلاده، وبكى زمناً وهو يتلمس زيف أحلامه... رؤية الشاعر العراقي صلاح الحمداني التي حملها ديوانه الأخير quot;كنّاس الصحراءquot; الصادر حديثاً باللغة الفرنسية عن دار quot;Bruno Douceyquot; الباريسية، هذا الديوان الذي يعترف فيه الحمداني بخيبته وهو يتلمس تحول قصة الحلم الجميل، إلى مسرحية أبطالها quot;أبطالquot; الأمس الذين تحولوا إلى مقامرين يلعبون بنردٍ صنعوه من عظام الشهداء quot;مِثل أمّةٍ فقدتْ إنسانِيتَها / جَفَّ المَطرُ في المَزاريبِ / والحقلُ هَجرتهُ الغيومُ / لا سَمَكَ في السّاقيَةِ / لا طيرَ في الأعالي / والصّباحاتُ حَملَها القتلةُ مع جثثِ الأطفالِ في العَرباتِ.quot;
ينقسم ديوان quot;كنّاس الصحراءquot; إلى قسمين، الأول جاء بعنوان quot;أوهام الحضورquot; وهو مجموعة قصائد كتبها الشاعر باللغة العربية وتُرجمت إلى الفرنسية، أما الثاني quot;منفى الجحيمquot; فيضم القصائد المكتوبة أصلاً باللغة الفرنسية... قصائد القسم الأول كُتبت بعد احتلال العراق وسقوط الديكتاتور، وفيها يتلمس القارئ مرارة الخيبة التي مُنيت بها أحلام المنفى، حين انكشفت على شكل أوهام حالما احتكت بالواقع... القصائد تحكي ضياع الأمل وتفتت الأمنيات وغياب الشعور بقدسية وطن ظل عامراً في المخيلة طيلة سنوات المنفى، كل هذا تعرّى أمام الأحداث التي عصفت بالعراق، والتي أسقطت ورقة التوت عن الكثير من الشخصيات التي كانت تتشدق بنضالها وصلابة موقفها بوجه الجلاّد... والتي سرعان ما نالت كرسيّها لتتحول إلى جلادٍ صغير وإن اختلفت الأساليب... quot;يَتَأرجَحُ السّرابُ هناكَ، / ثمّ يَبتلِعُ ذاتَهُ / وحدَها روحي تَجلِدُ وَجَعَها، / وتَتَغَرّبُ عن المَكانْ.quot; فالحضور الذي ترسمه قصائد الحمداني، هو الوجود واليوميات التي كانت تُطوى بهالة الأمل في العودة، أملٌ بات سراباً، حين فتت الواقع أيام المنفى وشكّلها حبيبات رملٍ شيدت صحراء متناهية الأطراف داخل الروح الحالمة. quot;حتى رفاقنا السابقين الذين طالما حملوا همنا ومثَّلوا حضورنا في العراق الجديد أصبحوا في الحقيقة، مجرد أوهام...quot; يقول الحمداني.
قصائد الجزء الثاني quot;منفى الجحيمquot; لا تذهب برسائلها وهمومها وحتى quot;أوهامهاquot; بعيداً عن الجزء الأول ولكنها كُتبت في محاولةٍ من الشاعر ليتلمس حدود منفاه، لكنه quot;منفى بحجم السرابquot;... حقيقة تبوح بها قصائد شجاعة تعلن على الملأ أن المنفى العراقي تحول بـ quot;شجاعةquot; حفنة من أبناءه إلى أكذوبة quot;تافهةquot;!!! حنينٌ تَعفّنَ في كِتاباتِ / مَنفيينَ صَدئينَ / وقبائلَ سَماؤها منَ الصّفيحِ / حينما رأت النورَ مُسِخَتْ!...quot; ترى quot;هل هناك مرارة أكبر من هذه؟quot; يسأل الشاعر الذي قرر كنس صحراء الروح بـ quot;مكنسةquot; صنعتها أيام المنفى وسنواته الطوال...
وعلى الغلاف الأخير نقرأ:
قادِماً منْ جزرٍ بلا سماءَ
يُحيطُها الرّملُ
خُطى وآثارَ مُتحاربينَ وقواربَ تَغرقُ
ديوان quot;كنّاس الصحراءquot; يعترف للعلن بمرارة الهزيمة، هزيمة الإنسان الذي عاش أكثر من نصف عمره مهزوماً، بفعل المنفى.