عبد الجبار العتابي من بغداد: صدر مؤخرا للكاتب العراقي رفعت مرهون الصفار كتابه الذي يحمل عنوان (محلات بغدادية قديمة في الذاكرة) عن (دار الشؤون الثقافية العامة) التابعة لوزارة الثقافة / بغداد، والكتاب الذي يقع في 259 صفحة من الحجم الكبير، وتزين غلافه الأمامي لوحة لمقطع من محلة بغدادية قديمة، والذي اهداء الى والده الشاعر ( مرهون الصفار).. يرسم صورا مكبرة عن تاريخ المحلات في بغداد القديمة ويبحث في شؤونها وجميع التفاصيل فيها فضلا عن التغيرات التي طرأت عليها بفعل السنوات، كما يتناول بالشرح المفيد بعض ملامح الجانب الاقتصادي لها ثم مجال التحصيل العلمي ويتحدث في مجال الجانب الأدبي: الأدب الشعر- الخطابة، حتى يأتي على عمارة وتشييد وتجديد المساجد كما يتناول مجال السياس وبعض الملامح عن النشاط الاجتماعي، فضلا عن عنوانات أخرى مثل: المقاهي، المختارين، الأمن الداخلي، الإداري والقضائي وغير ذلك، ولا ينسى الاشارة الى ابرز الشخصيات البغدادية التي تسكن هذه المحلات.

والصفار من مواليد بغداد 1929، وهو باحث في التراث الشعبي العراقي وله العديد من المؤلفات، كما انه يعد احد اعمدة المجالس الثقافية البغدادية، وقد حاورناه في كتابه الذي قال انه يشمل نحو 32 محلة ضمن رصافة بغداد فقط، وليس كل الرصافة طبعا.

* كيف اخترت هذه المحلات؟
- اخترتها لاسباب عديدة، بداية انا كتبت عن محلة صبابيغ الآل في الرصافة وما جاورها ووجدت ان الناس استحسنت الفكرة، فذهبت للكتابة عن المحلات القريبة اليّ، اي المحلات التي اذهب واجيء يوميا منها، والتي لي علاقات صداقة.

* ما مصادرك؟
-انا ومعي الذين عاشوا في هذه المحلات من الاشخاص وهناك اشياء لا اعرفها اذهب للبحث عنها فضلا عن البحث في الكتب.

* ما اقدم محلة في مجموعة المحلات هذه؟
- (المأمونية) والتي تضم محلات القشلة وراس القرية وصبابيغ الال والهيتاويين، هذه كانوا يسمونها المأمونية؟

* من اين الى اين تمتد خارطة المحلات في كتابك؟
- الخارطة تبدأ من باب الاغا (التي هي الان سوق الصفارين) الى ساحة حافظ القاضي وتنزل الى محلة الصدرية وتطلع الى الشورجة الى قنبر علي وابو دودو وابو سيفين والطاطران وسوق حنون وتحت التكية، وكل محلة تناولت حدودها وأصل تسميتها والشخصيات المهمة التي سكنتها وزعمائها ومهنييها والاحداث التي جرت فيها، كذلك تطرقت الى العلاقات الاجتماعية فيها، مثلا ذكرت عن المدرسة الجعفرية التي كان سيد كاظم شكارة، وكان رجلا كبير السن، وحدث ان جاء مدير المدرسة حسن النجدي ليلا الى المدرسة، وهو من سكان محلة المهدية،لكون الدراسة مسائية، فشاهد رجلا فوق سطح المدرسة، فخاف منه ثم نادى عليه، فجاء الرد انا سيد كاظم شكارة، فقال له المدير انت رجل عمرك سبعين عاما فكيف استطعت ان تصعد الى السطح؟ فقال له: لقد وجدت ان السماء تكاد تمطر فصعدت لأتفقد (المرازيب) خوفا من ان تكون احداهن مغلقة بالقش الذي تبني به العصافير اعشاشها، فانظر كيف كانت العلاقات انذاك.

* اي المناطق اندثرت تماما؟
- اغلب هذه المحلات اندثرت، لاسيما منها محلة صبابيغ الآل التي تقسمت واصبحت محالا تجارية او تحولت الى شوارع، مثلا باب الاغا، فالخانات التي فيه كلها اندثرت وتغيرت، اما لقدمها او لفتح شوارع او انشاء حدائق او بناء عمارات فيها.

* ما قيمة مثل هذا الكتاب برأيك؟
- اغلب الشباب البغدادي حاليا لايعرف منطقته الاصلية التي سكنها اجداده، بعد ان انتقلوا الى المدن الحديثة في بغداد، فهو لايعرف شيئا عنها ولا عن سكانها ولا اعمالهم ولا عاداتهم ولا تقاليدهم واكلهم وشربهم ولبسهم، فكيف اذا جاء احفاد هؤلاء، ثم ان الذي بلا ماضي لن يكون له مستقبل، والشاعر الشريف الرضي يقول: (فاتني ان ارى الديار بطرفي / لعلي ارى الديار بسمعي).

* ما اهم المحلات في السابق ولماذا؟
- كانت محلة صبابيغ الال هي اهم المحلات هذه، لان سكانها اغلبهم من التجار والضباط، سميت صبابيغ الال اي (آل بوية جولار): ال: اللون الاحمر، بوية: صبغ / بويجي: صباغ، لارج: جمع، فتكون (صبابيغ اللون الاحمر)، ويبدو ان الاسم مستمد من عملهم هذا القديم جدا حيث كانت لديهم (ازر) يصبغونها باللون الاحمر.

* ما الصعوبة التي واجهتها في كتابة تاريخ هذه المحلات؟
- الصعوبة كانت في ان اغلب سكان هذه المحلات القدامي ماتوا، او سافروا، لذلك اعتمدت على ذاكرتي وجعلت في العنوان كلمة (في الذاكرة).

* ما اجمل قوله سمعته عنك؟
- كلمة فقالها الشيخ جلال الحنفي عندما قال في مداخلة له على محاضرة القيتها: عيب على وزارة الثقافة وعيب على امانة بغداد ان لا تؤرخان لهذه الاشياء، مثنيا على ما جاء في المحاضرة.

* هل هنالك محلات لها سمعة سيئة؟
- ليست هناك محلة لها هذه السمعة، فيما بعد اصبحت سيئة، مثل (الكلجية) وغيرها، ولكن المحلات التي تحدثت عنها ليس فيها محلة ذات سمعة سيئة.

* ما الذي دفعك الى التوثيق التراثي؟
- كنت اسمع من الاخرين وكل واحد يتحدث عن محلته فقلت لماذا لا اتحدث عن محلتي التي هي صبابيغ الال فعندما كتبت عندها وجدت اقبالا ورغبة في القراءة عن المحلات البغدادية، انا محلتي صبابيغ الال / دربونة الصفافير، التي ولدت فيها، فكانت مكان طفولتي ومرابع الشباب واصدقاءنا.

* ما الذي كان يميز المحلات البغدادية القديمة عن سواها؟
- ما يميز هذه المحلات هو الاخوة والصداقة والبساطة، يعني لا تعرف جارك من اية طائفة او اي قومية او دين، هل هو يهودي او مسيحي او كردي او شيعي او سني، لا احد يمكنه ان يكتشف (يفرق) بين هؤلاء الناس.

* اكثر المناطق التي سكنها اليهود من هذه المحلات؟
- محلة ابو سيفين، والطارطران وابو دودو، وكذلك محلة تحت التكية والتوراة، وبمرور الازمنة اصبحت خربة ومنها ما تهم وما تم بيعه.

* الى اين وصلت في توثيقك وما الجديد لديك؟
- وصلت الى جسر المأمون (الاحرار/ حاليا)، وحاليا اعمل على كتابة تاريخ محلات الفضل والمهدية وكهوة شكر، لكنني سأترك محلة باب الشيخ الى وقت اخر لانها لوحدها تحتاج الى كتاب.

وفي عرض للكتاب:
قسم الصفار كتابه على ثمانية فصول، حيث خصص الفصل الأول لمحلات (صبابيغ الآل والقشل والهيتاويين) ويشرح معاني اسمائها: فصبابيغ الآل تعني( صبابيغ اللون الأحمر القرمزي)، ومحلة القشلة تعني ( ثكنة يبيت فيها الجند) ومحلةالهيتاويين: (نزلها من أهل هيت)، أما الفصل الثاني فخصصه لثلاث محلات متجاورة وهي: العمار سبع أبكار، رأس القرية و سوق الغزل)، فيما خصص الفصل الثالث لمنطقة باب الأغا التي يقول عنها ( المنطقة الواقعة بين شوارع:الرشيد والمأمون والسموأل ونهر دجلة) والفصل الرابع تناول فيه محلات الشورجة والدهانة، والفصل الخامس خصصه لذكر الجانب الشرقي من بغداد الذي يقول عنه: انه كان أرضاً زراعية خالية من العمران (الى أن شيد المهدي بن المنصور قصره، وبنيت حوله بيوت جنده وموظفيه حتى يتسع هذا الجانب الحيوي فيتسع لمدن جديدة ( سراج الدين والصدرية والعوينة الدوكجية، والفصل السادس ذكر فيه محلة بني سعيد وماجاورها ( الكولات- وفرج الله)، والفصل السابع خصصه لمحلات ( قنبر علي والتوراة وتحت التكية)، اما الفصل الثامن فخصصه لمحلة البوشبل وماجاورها وهي المنطقة الشمالية من بغداد التي حدودها: أبوسيفين- شارع غازي- الكبيسات- الشيخ عمر، فيأتي على ذكر محلات: الطاطران والست هدية وأبو سيفين وساحة السباع وغيرها.

وهنا نقدم قراءة لبعض هذه المحلات:
* صبابيغ الآل: من المحلات العراقية العريقة التي اتسمت بالوداعة والهدوء واتصف ناسها بالتواضع والصدق ودماثة الاخلاق، وكان شعارهم في الحياة المساعدة والتعاون والمحبة وحب الخير والعمل والعلم، وان اسم المحلة باللغة التركية (آل بويجلر) ومعناها صبابيغ اللون الاحمر القرمزي، سكانها من العرب امثال خزاعة وربيعة وتميم، اعمال ابنائها كانت في التجارة والصناعة والزراعة، ومن تجارها الحاج مصطفى كبة والحاج عباس التميمي، ومن الشخصيات البارزة فيها: جعفر ابو التمن وعلي البازركان ومهدي الخياط، ومن جوامعها جامع الحاج داود ابو التمن، وجامع المصلوب حيث صلب على خشباته عالم فاضل اسمه السيد محمد تقي الحسني، وفي ثورة العشرين ساهم الاهالي بشكل او بآخر وبمختلف الاساليب المتاحة، وان اهل محلة صبابيغ الآل يتصفون بالود والتآزر الاسري والتزاور فيما بينهم والمشاركة في الاحزان والافراح، ولهم مجالس اجتماعية وثقافية تعقد في عدد من البيوتات محورها الادب والسياسة والاجتماع والسمر، ومن ابنائها الفنان المبدع جواد الشكرجي.

* * سوق الغزل: تنسب هذه المحلة بحسب الاستاذ الدكتور عماد عبد السلام الى سوقها الشهيرة بتجارة الغزول في العصر العثماني وفيها يقع(جامع الخلفاء) الذي هو الجامع الرسمي للخلفاء العباسيين، والسوق تقع من بداية الدهانة حتى نهاية الشورجة وعند افتتاح شارع الجمهورية دخل معظم السوق وقسم من جامع الخلفاء ضمن الشارع الجديد، كان اصحاب الحوانيت يتعاطون بيع القطن والزناجيل والفؤوس والمساحي ومرابط الخيل وأقفال ابواب الدور، فضلاً عن الذين يتعاطون بيع وشراء الطيور والصقور والثعابين والغزلان والقردة والارانب والماعز والقطط والكلاب والخنازير، والسوق تغص بروادها من الصباح حتى الغروب، ومرة شوهد رئيس الوزراء نوري السعيد يشتري من احسن انواع الطيور وانه من اصحاب هذه الهواية.

* * * البو شبل: عبارة عن ارض مرتفعة وغير مستوية تتفرع منها درابين تؤدي الى ابي سيفين والخالدية والست هدية والكبيسات وطاطران وحنون الصغير، من اشهر الدرابين (دربونة المجادي) وهي دربونة طويلة وضيقة غير نافذة متعرجة لايتجاوز عرضها المتر الواحد، كان يسكنها فقراء اليهود (المكادي) ودربونة (الشباولة القدماء) ودربونة بيت ريشان ودربونة مبارك والتي دخلت ضمن شارع غازي ودربونة زين العابدين ودربونة العبيد، عرفت هذه المحلة في النصف الاول من القرن التاسع عشر وذلك لنزول عشيرة البوشبل فيها آنذاك وهي من عشائر سنبس الطائية، أما ماجاء في المعجم الجغرافي لمدينة بغداد لمؤلفه محمد رؤوف طه الشيخلي المطبوع في العام 7791 البو شبل محلة ببغداد وهي حديثة العهد واهلها عشائر نزحوا اليها بعد الطاعون والذي حدث 1246 وهم جماعة تسكن اراضي الجبل من قضاء الفلوجة وفدت الى بغداد وسكنت في هذه المحلة وانها تقع بين الكبيسات وحنون الصغير وحنون الكبير.

* * * * الطاطران: تتوسط الطاطران محلات فرج الله والقشل وحنون وقرة شعبان، وهي منسوبة الى قبيلة الطاطران والتي هي اصلاً من قبائل التتر، وقد سكنت في منطقة جبل حمرين وانحدرت الى بغداد فاستوطنتها ولايعلم تاريخ موطنها ولكن المحلة عرفت باسمها هذا في منتصف القرن التاسع عشر، وفي العصر العباسي تعد جزءاً من محلتي اللوزية وقراح أبي الشحم وجاء في كتاب تركي قديم، ان طاطران نسبة الى الطنطراني الذي ربما سكن في المحلة المذكورة وهم جماعة ينتسبون الى عشيرة بهذا الاسم ومركزهم كان في قضاء الخالص، وحرفت الكلمة من الطنطراني الى الطاطران، وبرز منها معن الدين ابو النصر الطنطراني وهو شاعر معروف ومدرس في المدرسة النظامية ايام الانظمة الملكية.