عبد الجبار العتابي:للاحتجاج..اشكال من الصرخات، على الموت الذي يتوزع بالمجان على المدن، وموجع ذلك الاحتجاج الذي ينتفض به الجسد ولا يوحي الى الاخرين بغير الهباء والعناء، وان الحزن في داخله غير مرئي وليس له رائحة الغضب، مؤلم.. ذاك الاحتجاج الذي يرى صاحبه الدماء وهي تتدفق من جهات عدة كالنافورات فيما صوته لم يلامس اي قطرة منها، منظرها يقززه ومرآها يحفزه الى ان يقفز بصرخته، فيحاول ان يضخم من حجم صوته ولكن الدموع التي تتهامس داخل المآقي سرعان ما تلجم الكلمات وتجعلها تتقاطر مثل هباء الفحم.

والشاعر العراقي سلمان داود محمد لم يجد الا ان يعلق صوته على شكل قصيدة احتجاجا على التفجيرات التي تضرب بغداد والتي يروح ضحيتها العشرات من المواطنين وخلفت مشاهد عديدة من الرعب والخوف والدخان والدمار، كان يرى الموت يتمشى هنا وهناك مرتديا زيه الغارق في العتمة، ولان الشاعر مثل كل العراقيين لايعرف كيف يبتديء بما يريد قوله في الوقت المتشح بالمرارات، فأنه ترك لوحي الشعر ان يتحرك كما شاء على الورقة، فقال بملء ارادة الوحي المعبر عما يجيش في صدره وهو يخاطب مدينته بغداد التي عنون قصيدته بكلمات هي (أيتها الــ بغداد المصابة بالعراق.. مرحى..) يرددها كلما وجد بغداد تشتعل خوفا وارهابا، ويا له من منظر يمكن للشاعر ان يراه وتحتدم في نفسه المشاعر والانثيالات،يقول سلمان في مطلعها:
(استحلفك بالمكتبة
ان تبتعدي عن ( دش) الأقاويل قليلاً
ثم أكنسي الغبارعن الخارطة بأهدابك
سترينها هكذا:
محض
طحين
ودم
بجوار
تنّور يؤجج الأعماق لإختراع رغيف...).

ثم لا ينفك ان يرى الاشياء وهي تتهادى امام عينيه، ينظر في الفراغ فيرى مدارات كثيرة لها علاقة بما احزنه حين سمع ان الانفجار اتى على المسرات فأحالها رمادا، ويتطلع الى الورقة فيرتسم عليها توهج يتحول الى رماد يطير ليكون خيوط دخان تأن مما في داخلها من انين الموتى وحسرات اهاليهم التي تسارعت للحاق بالدخان وهي تمتد على شكل نحيب لتقطر من فم الشاعر بضع كلمات:
(أستحلفك بـ (نون النسوة) والألم وما ينزفون
أن تطيلي الإبتهال عند دفاتري
كي تقرع الزنبقات أجراسها
في مهج الذاهبين الى المدرسة...
كما أستحلفك أن تدثري الظلام
بما يسطع من حرقة القلب
واقطعي الطريق على التصحر بتلاوة الآس..،
الجراح شبابيك.. ضمديها بالستائر
واطعمي المقصات مما إستطال من لحية الجحيم
ثم اغسلي الهواء من بصمات الدخان
فالـ (هنا) تعويذة للشفاء من التيه
بل زوادة من سوسن في الرحيل إلينا..،
فلا ذهب في الذهاب
ولا خلل في المكوث (مؤقتا) تحت جسر الأمل..).

واذ يبدو ان الشاعر يحاول ان يهدأ قليلا، الا ان ما يسكنه من احتجاج يتأرجح في صدره، كأنه يغمض عينيه ويراود البكاء عن دمعات تشجر في ذاته وجعا مغايرا، يتألم كأنه يقف بين تلك الاشلاء والاشياء المحاطة بالشظايا، يشعر انه لا يقوى على ان ينظر الى نفسه المترعة بالاكتئاب، يشعر ان ما تبقى من كلمات قليلة ليست سوى صوت مبحوح لايمكنه ان يتجاوز تلك المحنة التي يتملكها الصمت، فتحس الشاعر يخطو منكفئا الى حيث لا يدري وسط الركام ومن ثم يستحضر المدينة التي يحبها (بغداد) ويلتو عليها كلماته:
(تذكري معي واحصي
جثث الدموع الطافية على فرات الأحداق
كم طهونا على الحرائق بن التآبين
ولم نكفْ عن البنفسج..
كم على السطوح رفعنا الضمادات بوصلة
للمنكسرين من جهة الخواطر
ولم تنكسْر المزهريات...
كم إكتشفنا البدر كإمضاء خبَازة على سبورة الليل
قبيل صبيحة الإكتشاف لعلم الكواكب
وكم ابتكرنا ألف ديباجة لتفشي الزهور
حتى التهمتْ العبوات أكاليلنا بلا توطئة..،)

وكأنه يمضي وخلفه تهرع ملايين الشظايا التي فتطت بالناس، لا يشعر الا بحرارتها بينما عيناه تلامسان الارض بنظراتهما، يترنح في مشيه وهو لا يعلم ان الطرقات في بغداد باتت متشابهة وانه اينما يمشي لا يقطع سوى الطريق ذاته المؤدي الى صوت بغداد الكئيب وهو يترك خلفه ما تبقى من ركام الانفجار ونتف من لحم الموتى.

(فيا حبلي السرّي ومثواي
هاهي السموات قد سربتْ عريها في رئة الرفيف
واستترتْ في نهاية الأمر بقماش العلم..،
إذن كوني ملقطا يستأصل الأشجان من شؤوني
ومطرا يردع إنفلاتي من (دشداشة) كل الفصول..
أريد التمرّغ في دموعك
كي أتماثل للبلاد..،)

ولا يمكن لاحد ان يصدق ان الشاعر جلس على حافة احد الجسور في بغداد وراح ينظر الى اسفلت الجسر تارة والى الماء في نهر دجلة ومن ثم الى الفضاءات التي تتلبد فيها الغيوم، يجلس وحيدا وفي نفسه شعور بالاحباط، فيحاول ان يحتج على اشيائه التي لم تستطع ان تفعل شيئا الا بقدر الاحتجاج عبر صرخة واهنة:
(دنياي بلا مأوى
والدهر كعادته تناسى التجاعيد على أنفاسي
بالأمس تعشى بما ادخرته قناديلي
من فراشات لـ (حديقة الأمة)
بينما الآن أرى الآخرين بلا آخرين
وأحلامي مغلولة بالسعف..،)

في احتجاجه المتمسك بالحزن كصولجان، يشرع في احالة بقايا آماله الى اشعار اخر، يتأوه مناديا على بغداد باسمها، هكذا (بغدااااااد)، يحاول ان يجعل الحروف تستطيل لكي يتغير الهواء وتدفع حنجرته الزبد عنها، يقوم الشاعر مثل عامل بناء فيتوضأ بندى الصباح البغدادي المشبع بالعاطفة ليصلي على ما يختلج في ذاكرته من نتوءات تنمو فيتفتق عنها كلام عفوي.
(فيا صباح الخيرعلى الحدائق والهاونات
ويا صباح الخيرعلى الطباشير ودرس الرياضة
ويا صباح الخيرعلى قتيل يخالف حظر التجوال
ويا صباح الخيرعلى اللّه أثناء المنائر والنواقيس
ويا صباح الخيرعلى الناس والأذى
وهم يرفرفون بدمعتين
مثل الهابطين من أعلى التراب نحو التراب)
يمضي الشاعر وهو يطلق كلماته تلك، لكن سرعان ما يتوقف، يشعر ان الاحتجاج في نفسه يريد ان يأخذ مديات ابعد مما تعرفه القصيدة او الصوت او ضربات خطواته على الطرقات المتشابهة الاحزان، يتذكر ان الوجع الصادر من اعماقه يلوح في الافق حزنا كثيفا، فيضطر الى ان يرسم بدموعه خواطره:

(ولا صباح الخيركثيرا
على الحقائب
والحقائب
والحقائب
والمصابين (بمحض إرادتهم) بعلة الرحيل
فبشّري مطفأة السكائر بهبات الشتات
وهذبّي العاكفين على إحتطاب الجلنار
بنار جلل..)

ويمضي الشاعر على عكازة احزانه لا يقوى على ادراك ما تمخضت عنه فريحته اللاهبة الملتهبة وهي تتحرق الى ان ترى شاشة عينيه التي تعرض اخر صور الحرائق ومن ثم الركام بعد ان يمتص المكان حرارة الفناء، الشاعر يرفع ورقته البيضاء التي اعلن فيها حزنه على ما جرى وهو يرجو ان يجتمع الناس حوله عسى ان يتردد صدى قصيدته في بغداد الجريحة ليلفت انتباه الاخرين ممن لا يسمعون ولا يقرأون ولا يعرفون !!.