كامل الشيرازي من الجزائر: أجمع أكاديميون ونقاد على أنّ الانفتاح على التراث بات ضرورة لبلورة مسرح جديد في الجزائر، تبعا لاختزان التراث الشعبي المحلي للكثير من الفنون المسرحية والإيحاءات الفنية الغير موظفة بشكل أبقاها كمجرد تراث فلكلوري، وشكّل ملتقى quot;العلمةquot; الدراسي فرصة مميّزة لمرافعات تنادي بفعل تراثي مسرحي تأصيلي مغاير.
في هذه الورقة، تبرز إيلاف على لسان دارسين، ألوانا قابلة للمسرحة وتقديم الإضافة لفن رابع يعاني الركود، مثلما تسلط الضوء على طبوع تراثية جزائرية تسمح في حال الاشتغال عليها بالتمرد على ما هو سائد، وتجاوز كل ما هو معلّب ومألوف.
الجزائر: يتناغم د/نور الدين عمرون مع مواطنه د/ إدريس قرقوى في حساسية العودة إلى التراث الشعبي وتوسيع توظيفاته في المسرح الجزائري، ويتقاطع الوجهان الأكاديميان عند اجبارية العودة الى الأشكال التراثية، كتوليفة تفرض نفسها أكثر مع ما أفرزته إشكالية الحداثة والعولمة، حيث يكون للتراث قيمة في تدعيم الهوية، ويمنح جرعات جديدة للركح الجزائري.
من جانبه، يذهب الناقد المسرحي quot;عبد الحليم بوشراكيquot; إلى أنّه من الطبيعي وكما أثبتت سيرورة التاريخ أنّ الحاضر بكل توجهاته ما هو إلا امتداد طبيعي للماضي بكل اشتقاقاته وتوجهاته، وإذ لا يتصور بوشراكي بقرب التحول إلى ممارسة تنهل من الموروث، لكنه يأمل عبر تكثيف المقاربات والاسقاطات أن يتم دفع المسؤولين والممارسين للتعاطي مع القضية بشكل مناسب، معتبرا أنّ الملتقيات الدراسية كفيلة بتقريب الأقلام المسرحية بعضها ببعض بحيث تصب نتاجاتها في بوتقة تسمى التراث.
يؤيد بوشراكي عرّاب المهرجان الأول للتراث والمسرح الجزائري الأصيل المُختتم الاثنين والذي احتضنته مدينة العلمة (310 كلم شرق العاصمة)، أنّ لثقافة بلاده ثراء وغنى يتعدى بكثير ما يُتعامل معه في الساحة المسرحية اليوم، خصوصا إذا علمنا أنّ هذا الثراء يتعدى الأقاليم الأمازيغية إلى غيرها من عشرات المجموعات الاثنية الأصيلة في الجزائر.
يبدي بوشراكي قناعة أنّ التراث يؤخذ من شقين quot;شكليquot; وquot;مضامينيquot;، وما يدعو إليه رفقة ثلة من المتخصصين لا ينبغي أن يُفهم كــ quot;رجعيةquot; أو أخذ القوالب التراثية بشكلها الشمولي، وإنما التعاطي معها وتوظيفها بما يتناسب مع متطلبات العصر، وهنا قد يتعثر quot;حمار الحكيمquot;، على حد تعبيره، مسجلا على أنّ الأهم والمهم والأكثر أهمية هو فهم الواقع المعاصر وعملية الاستلهام لا تكون إلاّ بعد استيعاب متطلبات الحداثة مما يترتب عنه جدلية الفن بين التراث والانتاج والواقع.
فيما ينعت بوشراكي القائمين على المسرح الجزائري الحالي بــquot; الطباخين الفاشلينquot;، يستهجن الناقد quot;محمد العربي دغدوغquot; استمرار تعامي المؤسسات المسرحية الجزائرية عن تراث الإمزاد الشهير جنوب البلاد وهو شعر ملحمي يمتد رصيده إلى ما يزيد عن القرنين ونيف، ويتجلى في منظومة تحمل في كثير من الأحيان بصمات البيئة المحيطة بقبائل الطوارق.
ويؤكد دغدوغ أنّ هذا التراث الغنائي النادر يوفر الاستعراض والفرجة وهما قوام أي لعبة مسرحية، ويقوم الطوارق أو كما يُشتهرون بكنية quot;الرجال الزرقquot; بتأدية رقصات جماعية ريتمية في قالب حكائي درامي، يرتدي خلالها الممثلون ألبسة حربية وينخرطون في حركات متناسقة وفق قالب كوريغرافي خاص مؤثث بإيقاع شعري موسيقي يستحضر ''شعر العزلة''، ''شعر الشرود ورونق الصحراء''، ''فن الآيايquot; وهي أغان مقدّسة لدى الطوارق، وتحضر فيه نسوة تتشحنّ بأجمل ما لديهنّ من حلي ولباس، تعزفن على إيقاع رقصات ''التيندي''، ''الجاقمي'' و''التاكوبا''.
من جهته، يشكّل تراث quot;أشويقquot; العريق في منطقة القبائل، وما يحمله من حكايات الجزائريين القدامى بمنظور المتخصص quot;عيسى بوذراعquot; مشتلة لتجريب مسرحي ينتصر لعنصر الفرجة، وتراث إشويق يعني الاستخبار، يتوفر في عمقه على عناصر اللعبة الركحية وينتصر طابعه الاستعراضي إلى دراما حية مرنة تحضر فيها الموسيقى والايقاع والطبوع الغير منمطة.
يأسف بوذراع لعدم استغلال هذا الإرث الأمازيغي بالشكل اللائق، مع أنّ نفض بعض الغبار عليه سيوفر هامشا نصيا- عرضيا استثنائيا، خصوصا إذا ما جرى جمع القصائد الشعرية التراثية المبثوثة في عمق المجتمع الأمازيغي والتي ظلّت سجينة للتقاليد الشفوية ومحصورة في المناسبات السعيدة كحفلات الزفاف مثلا.
من جهته، يحيل د/نور الدين عمرون إلى quot;إيرادquot; وهي ظاهرة تراثية منتشرة لدى سكان منطقة quot;بني سنوسquot; الجبلية الأمازيغية غرب البلاد، وينبني الشكل الدرامي لإيراد على مزيج من التمثيل والغناء والرقص، في توظيف ينم عن براعة جزائريي الزمن الأول في توظيف الشعر والقصص والأساطير الشعبية.
ويشترك في مسرح إيراد عشرة شبان غالبا، ويقوم هؤلاء بارتداء أقنعة وجلود العجول أو الماعز، ويتجولون تحت ايقاعات الطبول وسط سلسلة من الطقوس الاحتفالية، وتنقل مراجع محلية عن المستشرق الفرنسي quot;إيدي دو ستانغquot; قوله أنّ قدماء الجزائريين كانوا يمارسون مسرح إيراد في يوم نفقة اللحم أو ما يُعرف محليا بـquot;يوم نفقة الكرموسquot;، حيث يجمع عشرة ممثلين وريقات خضراء، وينشدون في توليفة شبيهة بالكورس الإغريقي:
شهد يا الكروية ... ما تموت شي يهودية
كل الشرشم لا تتحشم ... ربي عالم ما دسينا شي
قم تسلف لا تتهورف ... قاع الحله ما فيها شيد
عمروها وثمروها ... ابجاهك يا رسول الله
بجاه مكة ومدينه ... ورجال الله كاملين.
يوقن quot;عباس محمد إسلامquot; أنّ quot;إيرادquot; يمكن أن يقدم الكثير لمسرح اليوم، سيما في ظلّ تنوعه وثراءه وتموقعه كمصدر اجتماعي إيحائي متعدد الأبعاد، وهو من شأنه الإسهام في إلهام رجالات المسرح ودفعهم إلى ابتكار نصوص ركحية مغايرة.
كما يذهب مسرحيون إلى أنّ تجربة إيراد مغرية على صعيد مسرحة التقاليد الشعبية بشكل عام، خصوصا وأنّ إيراد نموذج استعراضي تعبيري يمتلك مقومات الفرجة والإمتاع.
في سياق متصل، تلفت د/جميلة مصطفى الزقاي إلى تراث quot;الحيدوسquot; وكذا طابع quot;الهولquot; وهما قالبان فولكلوريان روحيان يحرص سكان الأرياف بعديد ولايات الجنوب على ممارسته بانتظام، والحيدوس في الأصل محض إبداع ارتجالي تشترك فيه المرأة والرجل على حد سواء، وتقدم فيه قصائد ومواويل باللهجة المحلية وسط نسق حركي لا يقتصر على المؤدين بل يشترك فيه أيضا المتفرجون، ويحق لأي واحد من الحضور أن يستخلف أحد الراقصين، شرط أن يكون على دراية بطريقة التعبير الجسدي واللغوي، وحافظا للقصائد الشعبية المتداولة، ومحترما للإيقاع الريتمي للرقصة.
نحو استحداث مركز متخصص وإطلاق جائزة سنوية
أوصت الأمانة العلمية لملتقى التراث والمسرح الجزائري الأصيل، بضرورة تبني مفهوم واضح ومحدد لماهية التراث والمسرح، مع العمل على بلورة تصور جاد وعملي لمسألة التراث والمسرح من الناحيتين الفكرية والجمالية وكذا من ناحية الممارسة.
كما أبرزت الأمانة في بيان تلقت quot;إيلافquot; نسخة منه، عزمها السعي لدى الجهات الوصية لاستحداث مركز للتوثيق والدراسات المسرحية والبحث في التراث الجزائري والفنون الشعبية، فضلا عن إنشاء جائزة سنوية لأحسن بحث نظري حول موضوع quot;التراث والمسرح الجزائري الأصيلquot; وكذا جائزة أحسن عرض مسرحي ينحو هذا المنحى ويؤكد إمكانية إقامة علاقة تفاعلية بين المسرح والتراث.
وأبدى مسرحيون قناعتهم بأهمية التنسيق وتبادل الخبرات بين المشتغلين في الحركة المسرحية، والباحثين والمهتمين بالدراسات الخاصة بالتراث المادي واللامادي والفنون الشعبية وعلم الاجتماع الثقافي وتاريخ الحضارات، فضلا عن إدراج مقياس تاريخ المسرح العربي القديم والظواهر وأشكال ما قبل المسرح العربي بما فيها الجزائري ضمن برامج المعاهد والأقسام والكليات المتخصصة، واستحداث تخصص يعنى بهذه المواضيع لأجل تخريج مسرحيين على وعي كامل بتراثهم وحاجيات مجتمعاتهم.
وتضمّن البيان إشارة إلى خلق وتشجيع ورشات التجريب المسرحي في الجزائر وجعل التجريب سياسة فنية وجمالية بديلة، مع الابتعاد عما هو مشاع عن التجريب المسرحي كوسيلة كسر وتهديم لكل المعتقدات الفنية السابقة، ومحاولة دفع هذا التجريب إلى خوض مهام أخرى تتطابق مع التصور الحقيقي الواجب، والبحث الجاد والجدي في المجتمع بإشكالياته الراهنة وموروثاته السابقة وتحدياته الآتية، إضافة إلى التفكير في إبرام شراكات حول التراث مع فعاليات مسرحية محلية ودولية بغية تبادل الخبرات والتجارب وتعميق الممارسات وإنضاج الأفكار.
التعليقات