عبد الجبار العتابي من بغداد: أحزن المشهد كل العابرين من المكان الذين يعرفون قيمة السينما ودور العرض السينمائي، وقفوا وتطلعوا ومن ثم تأملوا الجديد الذي أصبحت عليه واجهة البناية التي يعرفونها جيدا، اختنقت نظراتهم وسالت منها خيالات من الاستغراب، كانت الخطوات تتباطأ وهي تتهادى على عتبات الشارع الموحش، فيما النظرات تحلق في فضاء الشكل الجديد وكأنه لم يعد ذا دلالة، ولسان حالهم يقول: هنا.. كانت سينما النجوم، هنا كنا نلتقي، هنا شاهدنا الفيلم الفلاني في عام كذا، فيما كانت الواجهة العليا تثيرهم وتدهشهم بشكلها المميز الذي ليس له مثيل والذي راعى مبتكره كونها دار عرض سينمائية،لتكون حاضرة في المشهد الثقافي العراقي كونها من (الدرجة الاولى) التي يعير لها الناس اهتماما ويشاهدون أفلامها بحرص، لكنها الان انتهت الى غياب، أفلت (النجوم) التي يحملها اسمها وأصبح مكانا عاديا تمارس فيه الأعمال التجارية وراح معدن (الكيبوند) يغلف شكلها (السينمائي) ليرسم لها واقعا جامدا.
هذا يعني أن (سينما النجوم) التي تحتل موقعا مميزا في شارع السعدون في بغداد، قد ماتت بعد احتضار لسنوات،اذ لم ينتبه اليها احد مثلما لم ينتبه الى سواها، واعلن عن دفنها.. وان كانت انفاسها ترجو ان تعاد الحياة اليها وتعود الى شاشتها البيضاء الانظار لتلاحق ما تنتجه الكاميرات السينمائية، وتعيش طقوس حفلاتها النهارية والليلية، ماتت هذه الدار السينمائية بعد خراب مستمر عاشته طوال تسع سنوات وتعرضت الى غيبوبة أفقدتها القدرة على النطق، لكنها كانت تتأسى وهي تنظر الى الشارع الجميل العريق وهو يلفظ رواده بعد الظهيرة وتستذكر على مضض ايامًا كانت تسهر مع عشاق أفلامها الى وقت متأخر من الليل.
هذا ليس خبرا استثنائيا، نعم.. غياب دار عرض سينمائية ليس استثنائيا، ولكن الاستثنائي والمثير أن ثقافة البلد تتآكل، تخبو، تضمحل، تغيب، وان علامات هذه الثقافة تضمحل وتنحط وتتحول الى أمكنة غير مميزة جامدة ولا يراها العابر منها الا بعين النسيان، دور السينما التي تمتلك قدرتها على تكوّن واحات ومحطات للثقافة،غياب دار سينما هو غياب لمحطة ثقافية مهمة، لاسيما أن هذه الدور ضاربة في عمق المجتمع العراقي، ضاربة في تاريخ البلد وتمتد الى عصور فيها الفقراء عامة، لقد غابت من شارع السعدون دوره السينمائية: بابل أصبحت خربة، النصر أغلقت ابوابها وهي الان في غيبوبة/ سمير اميس تحاول ان تتنفس ولكنه تنفس بلا حياة، السندباد اختفت وتحولت فيما بعد الى محال تجارية، اطلس اختفت ايضا وقبل ايام خلعت الكراسي وبالتأكيد ستغيب عن المشهد تماما، ليس هناك الان سوى سينما السعدون التي لا احد يراها وان كان جرسها المنادي بثلاثة افلام في الساعة ما زال رنينه مستمرا، السنوات باتت تحن الى خمسين عاما خلت يقال انها تعود الى عهد مباد، لكن دور السينما تتكاثر فيها،
هناك.. بالقرب من هذه السينما، وعلى اصداء غيابها، من الممكن ان تسمع تعليقات تعبر عن وجهة نظر مشبعة بالاسى:
- بالامس رأيت صورة لأول سينما في الجبايش عام 1944 واليوم بغداد بلا سينما عام 2012، باي باي دكتاتورية مرحى مرحى احزاب الاسلام السياسي.
- غرناطة،الرشيد،الوطني، الزوراء، الفردوس الشتوي والصيفي،و.....، حتى (علاوي الحلة)، غابت كل النجوم في سماء هذا البلد منذ سنة 80 19وهي تغيب ولحد الان.
- من 1958 والى الان... عندما أتيت الى بغداد شاهدت فيلما في سينما روكسي اسمه kiss befor dying، اخر دور كان الساعة ال12ليلا، طلعت كان الشارع نهارا، وكان يبقى الى الصباح، يعني مفتوحا 24 ساعة , بعد 58 19مباشرة بدأت نصف المحال تعزل..، وظليت اتابع الشارع الى الان ساعة 3 العصر اسمع دجلة ينوح!!.
- انا لله وانا اليه راجعون..مات اهم مصدر ثقافي للناس..بلاد بلا سينما..لعنة الله على الزمن الاغبر..ليذهب هؤلاء الذين يكفرون بالسينما الى لندن هنا ويشاهدوا قيمة السينما انها طقوس السينما نفسها عندنا في الخمسينات والستينات..اسفا على هذا الجهل.
- في سبعينات القرن الماضي عرض في هذه السينما (النجوم) فيلم بابيلون (الفراشة) تمثيل داستن هوفمان،ستيف ماكوين إخراج Franklin J. Schaffner ولمدة أشهر على ما أتذكر.
- يا للحسرة، البناء الحضاري يتهدم جزءا بعد جزء ليحل محلّه التخلف والجهل.
- ثمة.. ملاك للموت...سيخطف الامكنة...واحدا تلو واحد....هكذا.
- لا نجوم.. هنا، فقد غابت. فانتفت الحاجة، غاصت في بحر الظلمات....وكأن المارد أخفاها بقواه العجيبة...وهذا المارد اللعين يأتي على كل شيء جميل شيئا فشيئا!!.
ملاحظة: أول عرض سينمائي في بغداد ليلة 26 تموز 1909، ثم أنشئت سينما بلوكي 1911، ثم سينما سنترال 1920، ثم الوطني 1927 رويال 1929، ثم الزوراء والرشيد والحمراء، ثم الهلال 1932 مع جناح خاص للعائلات، روكسي 1932، غازي 1937، ثم تاج الصيفي وديانا، النجوم 1947، ثم مترو والفردوس وهوليوود، ثم الخيام، فيصل، ريجنت في الخمسينات، ثم النصر، السندباد، سميراميس، أطلس، بابل في الستينيات، حاليا لم تبق سوى بعض الدور المهترئة في بغداد، فيما أغلقت جميع الدور في البصرة والموصل.
التعليقات