عبدالرحمن طهمازي من بغداد: ليس من الصحيح ولا من اليسير تاليف وصف جاهز يدّعي التمام عن فنّ quot;مهدي مطشرquot;؛ فانّ عمله ومنذ سبعينيات القرن الماضي قد قيل بتصنيفه ضمن الفن البصري، وهذا القول لا اختلاف فيه، بل يمكن الاستمرار بوصفه عن حق على انه يمثل تضاعيف واطوار البصريات، وليس لهذا السبب وحده تعود صعوبة والتباس الوصف الجاهز لعمله بل يضاف الى ذلك عدد من الخلفيات الفنية وعدد اخر من اساليب التنفيذوعدد من مستويات البحث التي تتراوح بين تعريف ما واستبعاده واستعادته.
اننا في واقع الحال امام منهج تشكيلي ثقافي متطابق وغير سهل الفصل، مع الابداع الفني وهذا اشبه، كما يقال بالصراع من اجل انسجام العمل الفني، او كالنزاع ndash; اذا انتقلنا الى حقل فني اخر ndash; بين النبرة والوزن في الشعر لصالح صياغة اخيرة.
ان عملنا في وصف اشغال quot;مهدي مطشر quot; يجب ان يعايش هذه الصعوبات واحدة فواحدة وتغليب صفة من صفات انجازه ذات اهمية، تلك هي صفة الاستئناف وتوسيع بؤرة المشكلات الداخلية من خلال ازاحة او تاجيل بعضها.
واذا اردنا اختزال الخلفيات فان ذلك ان يشير ولابدّ الى مشاهد البيئة الزراعية لجزء من وادي شنعار البابلي، حيث ولد quot;مهدي مطشر quot;وترعرع وتلقى تعليمه الاولي وتعرف على كونه رساما، ولذلك علاقة بالاثرالذي تركته المنتوجات الاستعمالية التي كانت تطرز الحياة المنزلية للقرية كالسلال والمفروشات والفخاريات ومنظومات السكن ذات الانسجام البسيط، والمعتمدة كلها على التكرار والتناظر والتي تشاطر الحياة ايقاعها الرتيب والذي قام الرسام فيما بعد تحريكه.
انّ الحقول الواسعة ذات الالوان المتجانسة في مزروعات ذات اطياف مختلفة صباحا ومساءً، صيفا وشتاء. ، مع انتظامها البطئ كانت بمثابة تمهيد لتعويض سياتي في اثناء اللقاء الحتمي بين المنتوجات الاستعمالية - التي لا يتم استهلاكها بسرعة في البيئة الزراعية بل تلبث مطولاً تحت العين - وبين الآثار الزخرفية والتزيينية العربية والبقايا الرافدينية الفخارية والمعمارية التي تنتخب من الطبيعة ما يجعل كل اثرٍ موضوعاً للفن.
لقد اعيدت صياغة هذه الخلفيات اكثر من مرة وبدرجات مختلفة وصار quot;مهدي مطشرquot; ذا خبرة بها حتى انها لم تعد مجرد خلفيات للاختلاط بين حياته الاولى وفنه فقد تمكن من الفصل بينهما ابتداء من كون ذلك الخليط ndash; اول الامر ndash; معاناة شرقية متحولة الى مكتسب. فهذا الراسب في العاطفة الفنية ndash; اذا جاز التعبير ndash; اخذ بالظهور مركبا في اشكاله او محلولا شكليا يتضمن علامات فولكلورية، فالكثير من اشكال نتاجات البيئة العراقية الاستهلاكية والتزويقية عادت وقد اخذت موقعهاالاخر من التحويل: من الشئ المستهلك والتزويقي الى الشكل الابداعي للشئ المستهلك وبقي التزويق متجردا على سطح اللوح او في المجسمات والتصميم.
كان التفاعل اللوني في اول امره بسيطا، فالاشكال الهندسية الزخرفية تتلاعب بالاسود والابيض باعتبارهما شريكين يتلاءمان دون جدوى التفريق بين الشكل والفراغ اي: ان احدهما يكون دليلاعلى الاخر وبالتبديل الاعتباطي لا يجوز ان يؤخذ اي منهما ndash;الا باخذ الاخر- دليلا.
ان الخطوة التالية التي خطاها quot; مهدي مطشر quot;ثم تخطاها بعد الثمانينيات هي في تكوين لوح من الخشب مصبوغ بالابيض تلتصق فوقه نتوءات خشبية باشكال هندسية مكررة وسائبة ولها الصبغ نفسه لكن سرعان ما تظهر هوامش الظلال اذا تعرض اللوح الى النور من زوايا معينة، وكأن هذه الهوامش دليل على تنافس لوني وهميّ، وهو في الواقع تنافس ذاتي للشكل المكرر الذي يبدوكتيار لوني، والظل الحقيقي على اللوح الخشبي استغرق فيما بعد عددا من الاشغال الورقية الطباعية وذلك من خلال الاسود اللامع، عاكس الدكنة، الذي يجاوره الاسود غير اللامع وكأنه ممتص الدكنة، مما يعطي انطباعا ndash; ليس خاليا بالطبع من الحقيقة ndash; عن وجود لونين اسودين يتقاسمان كتلتين احداهما صريحة اذا قيست باخراهما نصف الدفينة حسب تقدير المشاهد. ان المربع او المستطيل او بعض اشباه المنحرفات عناصر تحفيز لوضع العلامة في صورة من صور الاقتران اللوني او في تفسير الطاقة الشكلية او اللونية الدفينة.

عبدالرحمن طهمازيكما خطّهمهدي مطشر عام 1968 ونشر في مجلة quot;الكلمةquot; 1969)

كانت التجربة، اذا اخذناها بمعنى انها برهان على خبرة ما، مرجعا من بين مراجع المبادرات التي صاغها quot;مهدي مطشر quot; سواء على السطح ام في الفضاء، فلقد وضع حدودا ناصعة او مخططة بين المناطق الهندسية (:المنحنيات المغلقة بعد صبغها بلون واحد) لتعيين درجة الرهافة التي لابد من توقعها في اللقاء بين مستطيلين او مربعين وهكذا... بحيث تكون الاشكال المتكافئة مستقلة وغير محتملة التطابق في المكان، كما انه نقل احيانا المستقيم من السطح الى الفضاء بتدليه كخيط متذبذب بين لونين (كانا الاصفر والاسود عل الاغلب) يمسك باهداب مربع امساكا واهياً حين لا يكون سوى التقاء غير محكم. وهذه العلاقة بين المستقيم والمربع قد تتكاثر في مستقيمين متوازيين مع مستطيل، وأحد هذين المستقيمين يكرر الاخر تماما الا اذا اعتبرنا المستقيم داخل المستطيل مغايرا للاخر الذي خرج من المستطيل. لكن احدهما، وهذه هي العلاقة التجريبية المبادرة، شكّل مثلثا داخل المستطيل في حين قام الثاني بتشكيل المثلث (في الواقع هو شبه منحرف) خارج المستطيل. ان مايمنح هذه التجارب صفة المبادرات. (والمبادرات صفة من بين صفات التجارب) هو انهما (المبادرة والتجربة لذاتها) ليستا لحظات من وحي عابر، فالرسام يلتزم بتنفيذهما بصور ليست تلقائية أوّلا، وليست يتيمة ثانيا، بل هما تجربة ومبادرة تعود الممارسة الى اختبارهما والبحث فيهما، ذهابا وايابا عدة مرات.
من التفاوت اللوني والتجانس الشكلي الذي تتردد فيهما البساطة على نحو ميسور ولا فوضوي، ومن التصميم الذي يتيح للاشكال الهندسية ان تتفرغ لكي تعرض امكانيتها في تكرار الحركة، من ذلك كله تنشا الصعوبة الثانية المتعلقة بأساليب التنفيذ، كما اشير الى ذلك في بداية هذه الملاحظات، ومنشأ هذه الصعوبة يقع بينَ بينَ، فمن جهة هناك تصميم الرسام على انشاء منظر بصري متواصل، ومن جهة اخرى يوجد ارتجال المشاهدين الذين ترغب اعينهم في تصنيف الاشكال على انها مراجع معطاة سلفا قبل انجاز الرسام لعمله.
ولكن ماالذي يضمن مثل هذا الاختلاف بين تصميم الرسام وارتجال المشاهِد؟ في الفن البصري لن يكون مثل هذا الاختلاف حاسما كما هو في غيره، اذ ان هناك اتفاقا ما، بدرجة لاغبار عليها حول الاشكال وهويتها ومدى مطابقتها لما هي عليه في اللوحة. ومع ان اسس العلاقة بين طرفي المشاهدة والرسم البصري المعاصر تتغير الا ان الصعوبة مازالت مستمرة في القدرة على تحول عادات المشاهدة الى ثقافيات للمشاهدين، فالفرق ماثل، مهما تطورت اليات التلقي، بين عادة ذات تاريخ ورسم يريد ان يؤسس تاريخا متحررا من تلقائية الاحالة الى مراجع بصرية معهودة ومتفق على قياسيتها. الصعوبة اذا اخترنا الاختصارهي في طلب المشاهد العمومي بعدم الاستغناءعن عادات التعبير التي تتكفل بوضوح التفسير، في حين لا يقدم الرسام البصري مثل هذه المعادلة.
حاول quot; مهدي مطشرquot; في البداية ان يستبعد اللون من حيث كونه شريكا في الشكل الهندسي، ثم جعل اللون عازلا بين شكلين متناظرين او متكررين، على ان تكون المنطقة اللونية مستقلة، وبعد ذلك ادخل اللون والتلوين باساليب متفاوتة كثيرا، فقد يكون اللون شبيها برد الفعل على الشكل، واحيانا تظهر تبادلات لونية بين الاشكال، او تبديلات لونية، قريبة من الهدهدات الشاعرية، لينطفئ اللون بالشكل على قدرالحركة المأمولة من تنويع تصويري تموّجي، وعلى هذا النول تحاك الادلة المتبادلة بين لون متفاوت الدرجة ومختلف وشكل نظامي مكوّن بالتكرار، بعبارة اخرى : لون نثري يتكاثر ويتبادل اطيافه مع شكل شعري ذي قالب مكتف. وهذا مايمكن اعتباره خاصية تحرير المتلقي من عادات تاريخ المشاهدة وخاصية اجباره على عدم الاحالة على تاويل بل على حيرة مؤقتة. ان ماهو ثابت ndash;ثباتا نسبيا- متعلق بالشكل اما ماهو تتابعي فيتعلق باللون والتلوين، وبما ان الامرين يجريان على سطح واحد، فان الصعوبة تختفي او تتأجّل، فاللون يصير انطباعا عن مرونة شكلية قريبة من التتابع، وهذه المرونة المزدوجة تؤدي خفقة الحركة في مجال مغلق يتجاور فيه دليلان :اللون الذي ليس له وظيفة تعبيرية بل هي تكميلية والشكل الذي يرمز الى هويته. والان يمكننا وصف مصدر الصعوبتين السابقتين التي كانت اولاهما : الخلفيات الفنية وثانيتهما عددا من اساليب التنفيذ، وان مصيرهما في الحقيقة هو منشا الصعوبة الثالثة في عمل quot; مهدي مطشرquot; لانه حصيلة انجازه، وقد راينا وصف الصعوبة الاخيرة كما ياتي : بكونها مجموعة من مستويات البحث التي تتراوح بين تعريف ما واستبعاده واستعادته. ان درجة التداخل بين هذه المستويات من الطرائق والاستعمالات نجعل السياق الذي يجري فيه عمل من اعمال الرسام في غاية الدقة ويعبر عن لحظات من التواطؤ (: وحدة المعنى وتعدد الدلالات)، فالخلفيات الفنية تتعدل في لوحة ما او في مجسم من المجسمات او في التصميم الميداني للحدائق البروتوكولية بالتوزيع الذي لا تتزاحم خلاله الاشكال والالوان ولا تحاول الاشتراك فيما بينها لاغراض التمويه او اللعب وانما من اجل انشاء مشهد موحد وفي تجانس دقيق، وان الحركة التي تستند على التفاوت اللوني وتغيير اوضاع الفـﮔرات (= الجمع العربي ل figure) التي قد تكون منتزعة من اشكال حروفية عربية؛ هذه الحركة هي شئ من المنوعات السطحية للمنظور، لكن هذا السياق قد يتغير حين تتوزع المجسمات في اغشية لونية تقتحم الاشكال والديكور والظلال، ان المنظور هنا حقيقي ومقلوب والقيمة الاستعمالية منتقلة الى مستوى غير استعمالي (كما في تاثيث غرفة تجريدية بالمجسمات الدسمة بالظل الملون المجانس للالوان المبثوثة مع بعض الطرائف الرقيقة).
ان الثقافة الاسلوبية والمرونة في التنفيذ انتهت الى قدرة على ارتجال الاليات وبمواد مختلفة لعل اقربها هو تحريك الاشياء الشكلية، بنوع من التسلية البصرية والاقتراب من شغف اللغز الى الحل بواسطة التحليل والتماع الذكاء في مباغتات الشك والاثارة.
لم يعد quot;مهدي مطشرquot; يتذكر فحسب، بل اخذ بالعمل مع ذاكرته، يتشاور معها، ياخذ ويحذف ويتخيل من غير شطحات ثانوية. كانت الزخرفة عنده نشاطا من نشاطات الذكرى، او هي صلة بعالم ابتعد عنه، عالم من المراجع التي لا تصمت، لكنه لم يتهاون في السماح بتحويل صلته بالأنساب الفنية الوطنية الى علاقة ركيكة بالاشواق التي من السهل ان تثرثر وتفسر رسالة الخطاب. انه يتذكر كل شئ غير انه لايذكر كل شئ فوق السطح التصويري، ومن ثم في الكتلة وزوايا الفراغ، فهو يعيد التعريف بمعنى انه يتصل بما في الموروث من تلك الطريق التي توصل الموروث بالفن البصري المعاصر، ويحقق نقدا فنيا باطنيا للموضوعات.
لابد من وجود تاويلات متباينة اضطرارية، لان المشاهد سيعمد الى تغيير زوايا النظر وافتراض زوايا نظر، حتى ينفرد بكتلة او هيئة او لون او تصميم ليتمكن من الاتصال بالفراغ او المساحة او الفضاء.