على خشبة مسرح المدينة ببيروت، نصبت لينا خوري سجنًا صغيرًا، يسع الوطن العربي، من الربيع إلى الخريف، في مسرحية quot;مجنون يحكيquot; عن القمع والاستبداد. في هذا السجن، اجتمعت أسماء لامعة مسرحية لامعة: زياد الرحباني وندى أبو فرحات وغابريلل يمين.


بيروت: يذهب جمهور المسرح الحقيقي إلى مسرح المدينة في بيروت، ليشاهد زياد الرحباني بعد طول غياب، في مسرحية quot;مجنون يحكيquot;، لكنه لا يرى الكثير منه، بل أفضل. يرى لينا خوري تدير زياد الرحباني بحنكة، وبجانبه تجليات مشهدية رائعة من مجنون الموسيقى غبريال يمين، ومن مجنونة الموقف والتحدي ندى أبو فرحات.
العائد!
من أفضال لينا خوري هذه المرة إعادتها زياد الرحباني إلى النضال المسرحي بعد عزوف مديد، إلى خشبة اشتاقت إليه، يأتيها اليوم ممثلًا، مأمورًا لا آمرًا، مساهمًا لا مخرجًا، فيؤدي الدور، يحيي جمهوره، ويختفي بلمح البصر، غير منتظر سؤالًا وغير راغب كعادته في حوار.
يبدو أن لينا خوري عرفت من أين تؤكل كتف هذا المسرحي الفذ، فانصاع لها، بالرغم من أن أحدًا في المسرح لا يصدق أن الرحباني لا يرتجل، تاركًا مخرجة المسرحية quot;على أعصابهاquot;، خصوصًا أنه يواجه ولا يوجه، ويقف قبالته من اكتنز من التقنيات التمثيلية ما ليست فيه.
لكن تبقى فطرته الرحبانية طاغية، لأنه يمثل أمام الجمهور كما يتكلم في quot;الاستوديوquot;، أي كما اعتاده الناس جميعًا منذ quot;سهريةquot; وحتى quot;لولا فسحة الأملquot;.
أتقنت لينا خوري الامساك بخيطان زياد الرحباني، خصوصًا أنها تعرفه من زمان، وتعرفه جيدًا، لدرجة أنه وافق بسهولة كبيرة على تمثيل دور الطبيب المعالج الذي لا يفقه شيئًا عن العلاج. أقنعته بدوره، فأقنع المشاهدين بلا تعب، على أمل أن يفهم العاقل.
تحفيز لا استفزاز
من لا يعرف لينا خوري، لا يعرف نمطًا مستفزًا من المسرح. ترفض هي أن تعترف بأنها مستفزة، خصوصًا في مسرحيتها quot;مجنون يحكيquot;، بل تسعى جهدها لتكون quot;محفّزة أكثر من مستفزةquot;، كما تقول لـ quot;إيلافquot;. تضيف: quot;لا أريد أن أصدم أحدًا، وليس هدفي أن أصدم أحدًا، لكني أعمل لمسرح يحفز أسئلة عندي وعند من يشاهد مسرحي، فتبقى في ذهنه، تغلي في ذاكرته، ولهذا أختار المواضيع التي تحفزني وتحفز المجتمعquot;.
إلا أن أحدًا لا ينسى الصدمة التي أحدثتها لينا خوري في العام 2006 بمسرحيتها quot;حكي نسوانquot;، الحافلة بكل ما يمكن أن يصدم المشاهد من مونولوجات حبلى بجنسانيتها. اليوم، الوضع مختلف. ليست صدمة، بل تحفيز. لربما كلمات قمع واعتقال وتعذيب ما عادت صادمة، بعدما لاكتها الألسن كثيرًا منذ ثورة الياسمين حتى آخر رصاصة في سوريا.
النص المسرحي الذي تبني لينا خوري مشهديته الضاجة بالموسيقى مقتبس عن مسرحية للكاتب البريطاني توم ستوبارد، بعنوان quot;كل ولد طيب يستحق مكافأةquot;. وستوبارد كتب نصه متعكزًا على قصة منشق روسي، تظاهر سلميًا ضد غزو دبابات حلف وارسو لتشيكسلوفاكيا في العام 1968، معلنًا تضامنه مع ما عرف حينها بـquot;ربيع براغquot;. اليوم، مع تطورات quot;الربيع العربيquot;، وجدت لينا خوري أن quot;هلق وقتها تنعرض المسرحيةquot;، لأنها مدركة في قرارة نفسها أن الأنظمة السابقة فشلت وانهارت، quot;لكن الأنظمة القادمة أفشل وأعنف وأظلمquot;.
ظلم ذوي القربى
في النص الأصلي، كان السجين سلميًا في تظاهره، تمامًا كسلمية المعتقلة في هذا السجن ndash; المصح العربي الذي شيدته خوري على مساحة ضيقة من المسرح، ليتسع لوطن عربي مترام الأطراف. سجن ndash; مصح فيه العذاب ألوان، quot;لكن في النص الأصلي العذاب مزاحًا مقارنة بما يتعرض له الفلسطيني في السجون الاسرائيلية، فانا قرأت كتابًا عن الموضوع حرمني النوم شهرًا، وأخبرني فلسطيني أمضى في المعتقل الاسرائيلي 18 عامًا أن السجون الاسرائيلية أرقى من السجون العربية، فهناك يرفع السجين رأسه لأنه يواجه عدوه، بينما يقف في السجن العربي مطأطأ الرأس، وظلم ذوي القربى أشد مرارةَ!quot;
وتعترف لينا خوري بأنها أعادت بناء المسرحية، بعدما عرضتها أكاديميًا تحت اسم quot;مذهبquot; على مسرح غولبنكيان في الجامعة اللبنانية الأميركية. تقول: quot;هناك كان العمل أكاديميًا محضًا، وهنا، ولأن توقيت عرضها مناسب مع الوضع العام، تطورت المسرحية من خلال الاستعانة بممثلين محترفين، مثل ندى أبو فرحات وغبريال يمين وغيرهما، كما تغير بعض الأدوار، فاختفى العسكر وظهر الدين العسكري، فأسقط قناعه عن قمع لا لوجيكي، كما كان دور ندى لرجل، لكني قلبت القصة، وكان أن قررت أن تكون امرأة يجردها القمع من أنوثتها، ويجعلها رجل، ولا ضير في ذلك طالما أن المسرحية عبثيةquot;.
الجمهور يختنق
لم تجد خوري أفضل من ندى أبو فرحات لتؤدي دور سجينة الرأي ناهدة نون، التي يصل بها القمع إلى حدود تجريدها من شخصيتها، من أنوثتها وإنسانيتها، وتحويلها إلى رجل. تقول: quot;ندى تغرق في الشخصية، وتوصل الاحساس إلى آخره، وتجد في المسرح حيزًا أوسع للتعبير لا تجده في التلفزيون، حيث تحدّ الأدوار من طاقاتها الكامنة، وحين حولت الدور من رجل إلى امرأة، كان الدور مرسومًا لصديقتي ندى، فأنا أعرف ما هي حدود عطائهاquot;.
لينا خوري تعرف، ومشاهد المسرحية يعرف... فلا حدود لما يمكن أن تقدمه ندى أبو فرحات لدورها إلا الخيال. فقد دفعها صدقها إلى التخلي طوعًا عن شعرها، (تؤكد لينا خوري أنها لم تطلب ذلك أبدًا)، لتكون السجينة التي يصدقها هذا الجالس أمامها، فيصدق عبرها ما يحصل في عالم الذل.
بالنسبة إلى ندى أبو فرحات، مسرحية quot;مجنون يحكيquot; تسبب للجميع (خنقة)، quot;فالجمهور يغص مخنوقًا مثلنا تمامًا على المسرح، وقد يأتي التأثير متأخرًا قليلًا لأننا نعيش القمع يوميًا في كل تفاصيل حياتنا، وأتمنى أن تكون المسرحية كما أراها بابًا للشعب اللبناني كي يعبر عن ألمه، كي يبدأ ثورة على واقعهquot;.
ثورجية!
بالرغم من أن دور ندى أبو فرحات يشكل تجليًا ملموسًا لقمع المرأة العربية، ترى هي أن القمع لا يقف عند حدودها هي، بل يطال الانسان، quot;فالرجل متى أرادوا إذلاله قالوا إنه امرأة، وهكذا، الانسان مستهدف في قرارة إنسانيته بهذا القمع، والرجل نفسه يتعرض الويم للاغتصاب الفكري والنفسي، وأرى أن الاغتصاب الفكري أصعب من الاغتصاب الجسديquot;. لكن المرأة مستهدفة اليوم، لأنها تشكل بشخصيتها وعاطفتها وإنسانستها بصيص أمل بالتغيير، وهي مؤمنة بأن الشعوب ستتجاوز القمع وتصل إلى مبتغاها، ولو كان العنف لا يولد إلا العنف.
ذابت ندى ابو فرحات في دور ناهدة نون، التي سلبوها إنسانيتها وسموها نهاد نون واعتبرها سجانها، أو طبيبها زياد الرحباني، رجلًا بصدر بارز، والتي تضحي بابنتها على مذبح حرية رأيها. لكنها في الحقيقة ترفض أن تضحي بحياتها، أو بعائلتها. تقول لـquot;إيلافquot;: quot;تذكرني هذه الشخصية بمراهقتي حين كنت ثورجية، وهي تشبهني بثورتها وتمسكها بالحق والرأي الحر، بالعناد، وما زلت إلى اليوم أحمل لواء حقوق الانسان، لكني لا أصل إلى حدود التضحية بالنفس أو بالعائلة من أجل ذلك، فأذا كان النظام قمعي هنا أتركه وأرحل إلى مكان آخر، فأنا أريد أن أموت مسرورة، وهذا هو خياريquot;.
لا يشبه أحدًا
تقول لينا خوري إن الممثل غبريال يمين كان أول من وقع الاختيار عليه، quot;فهو قادر على أن يوصل ما أريد أن أقول على الخشبة، من إحساس داخلي إلى انعكاس خارجي، في آن واحدquot;. فيرد أنه اتى إلى مسرح لينا خوري quot;لأنها بتشغل مسرح حقيقي ورأسها مشرقط!quot;.
بالنسبة إلى غبريال يمين، هذا الذل الذي يقاسيه نهاد نون، الذي يتخيل أوركسترا برأسه، موجود في كل جنبات حياتنا، quot;ولهذا فضل المسرحية أنها تتحدث لغة الانسان، بلسان الانسان، لكل إنسانquot;. فلا يريد غبريال يمين أن يحمل المسرحية، ودوره فيها، أكثر مما تحمله من المعاني والتأويلات، quot;لأن الناس تلتقط أنفاس الكاتب والفنان على الخشبة، من أي مكان أتوا، حتى لو كان المشاهد من أميركا الجنوبية، فقد يشعر بأنها تمت له ولمجتمعه بصلة وطيدة، لأن الذل لغة واحدة، وطلب الحرية لغة توحد الجميعquot;.
نهاد نون المعتقل أو المجنون الذي تتراقص في رأسه الألحان بعيد قليلًا عن غبريال يمين، لكنه يرتديه على المسرح، فيكون كليهما لائقًا بالآخر، quot;فأظهر الشخصية للناس بكل ما أوتيت من شغف، لأن الشغف هذا يرسخ في ذهن المتلقيquot;. يضيف غابرييل يمين لـquot;إيلافquot;: quot;لم يتعبني دوري في المسرحية كأداء، لكني تعبت وأنا أفتش عنه، عن تفاصيله الدقيقة، حتى وجدتها ولملمتها في بوتقة واحدة، فالمرضى النفسيين لا يتشابهون، وهذا المجنون الذي أرتديه على الخشبة لا يشبه أحدًاquot;.