جئت الى هذا العالم كي احتج و اعارض (يقرر مكسيم غوركي، رغم انه لم يعارض كما ينبغي) وهو يعيش عقدا من عسف ستالين، ولكننا نعرف ان الفنان وهو يذخّر روحَه بطاقة الجمــال لا ينسى ان يستثمر قوة الجمال في مقاومة القُبحِ، فالضمير المبدع حين يستضيف بـيــن ضِفتيه المحبوبة و الزهرة والنهرَ و الزُرقة، لن يسمح لأدغال العَفن ان تنمو في روحه ان نمو طحالب العَفن، يعني ان هناك خللا فادحا اصاب روح و ضمير و ذائقة مَن يُفتـــــرَض انه مانحٌ للجمال. واذا عدنا الى ما يزيد على عقدين من الزمن العراقي، رأينا الـلل جليا، حين سمح لفيفٌ من الكتاب، والشعراء تحديدا، للطاغية ان يتمشى بمسدسه و اسلحته و حروبه وقضبانه وزنازينه ومشانقه و نزواته و مقابره، في ضمائرهم. وحين ارتفع منسوبُ الدم، دمِ الضحايا، في الضمائر، لم يرتفع اصبع اتهامهم نحو الطاغية، بل وجهوه نحو الضحية. وفي الوقت الذي كان فيه شعراء احرار ومثقفون ديموقراطيون يقاسون اشد انواع التعذيب بربريةً في اقبية الأمن و الزنازين و المعتقلات، كانوا هم يرفلون في نعيم عطايا (القائد) و هباته التي يستقطعها من قوت الشعب، فقد أجروا عملية اخصـــــاء طوعية لضمائرهم و كراماتهم و تلاشوا في نفق روح (القائد) المظلمة، و لنا في عبـد الرزاق عبد الواحد مثالا، في ميميّاته و داليّاته، و كذلك لؤي حقي و رعد البندر و عدنـان الصائغ، الذين قادوا مواسم احتفال (الكون) بميلاد القائد!! واعدوا قوائم السبـي بأسماء من تخلفوا عن الرقص في الميلاد الميمون. ومن هذا النمط من الشعــراء المأسوف على هدر كرامته و محو بعض المواقف المضيئة في مسيرته، شفيق الكمـالي الذي دشّنَ عهد سقوطه بقصيدة مطلعها (حتف العدا صدامها و صدامها) و ينزل فــي سقوطه بئرا لا قعر لها، حين يقول في (قصيدة) اخرى؛ تباركَ وجهكَ القُدسيُّ فينا كوجهِ الله ينبضُ بالجـلالِ وقد كافأه صدام (كعادته في رد الجميل) بسموم الثاليوم قبيل ان يطلق سراحه بتوسط من ماهر عبد الرشيد.. واذا غادرنا عصرنا (غير المبهج) رجوعا بعض قرون، الى العصر العباسي الأول، نجد ان صورة جميلة لشاعر نحبه، وهو الشاعر المبدع ابو نواس، يخدشُها انحطاط الشاعر في صدقه و كبريائه رغم ان المبالغة في المديح، كانت سمة عصور التكسب، ولكننا نخجل من صعود الشاعر: بممدوحه الى مرتبه الهٍ حين يقول له واخفتَ اهلَ الشركِ حتى انه لتخافكَ النُطفُ التي لم تُخلقِ غير اننا حين نعود سنوات قليلة الى الوراء، وتحديدا الى زمن المهدي بن المنصور، الذي قتلَ عددا من المع نجوم الفكر و الإبداع، بينهم ابن المقفع صاحب (كليلة و دمنه) والشاعر بشار بن برد، فإننا سنجد انفسنا امام قامة عزّ نظيرها، شعرا و مواقف و حياةً، رجلا لا يتكرر الا في مفاصل التاريخ النادرة، انه الشاعر الفذ دعبل الخزاعي، صاحب المقولة المقاتـلة....ــ حملتُ صليبي على ظهري خمسين عاما، ولم اجد مَن يصلبني عليه فحين تولى المهدي الخلافة، ارسل شرطته كي تستدعي الشعراء، مع ما دبّجوه مـــن قصائد، احتفاءً بيوم جلوسه الميمون، وفي بلاطه تقدم الشعراء بالتتابع كي يلقوا بمدائحهم ويخرجوا بجزيل عطايا الخليفة الغِر، ولم يتبقّ من الشعراء سوى واحد، سيتضح انه اُحضـِـــر خطأً، لم يبقَ سوى دعبل الخزاعي، الذي تريّث قليلا، ليعلن انه لم يُعدّ قصيدة للمناسبـة السعيدة، غير ان لديه ما يقوله، وحين اشار اليه المهدي بأن يقول، قال بصوت جهوري اني لأفتحُ عيني حين افتحُها على كثيرٍ، ولكنْ لا ارى احَدا وحين فهمَ المهدي مراد الشاعر، بمعاونة المرتزقة من الأدباء حوله، من انه يعني الغاءً له وللحاضرين من الوجود و المعنى، اصدر اوامره بجلد الشاعر ثمانين جلدة، وزجه في الحبس !!انه دِعبل..... انه الشاعر حين ينتصب شهيدا حيا

شاعر عراقي مقيم في النرويج