ميونيخ: كثيرون لايعرفون نكهة الشعر الافريقي فهو شعر يرتبط بهموم الوطن، ويعبر عن احلامه وطموحاته خاصة في حقبة التحرر والتخلص من ظلم الانسان لاخيه الانسان، وهو شعر مستمر في رصد معاناة القارة السمراء.
بدأ تاريخ الشعر والكتابة الإبداعية في جنوب أفريقيا على سبيل المقال لشعراء القارة في منتصف القرن التاسع عشر مع ظهور البعثات التبشيرية وكان يغلب عليها طابع اللغة الشفاهية الدارجة ومع اتساع دائرة الإبداع نشأ الحلم بوجود دار للنشر تقوم بالطبع،لكن ثمة عقوبات وصعوبات حالت دون نشر الشعر الأفريقي الأسود، فحكومة جنوب أفريقيا العنصرية حالت دون تحقيق هذا الحلم ولم تتوقف عن مصادرة كثير من الأعمال والزج بأصحابها في السجون مما جعل كثيرا من المبدعين يتجهون إلى الكتابة باللغة الإنجليزية أو ترجمة أعمالهم المكتوبة بلغة الزولو أو اللغات الأفريقية الأصلية إلى الإنجليزية حتى يتسنى لهم نشرها في الخارج،وفي هذا الاطار غادر بعضهم الي أمريكا وأوروبا تجنبا للمضايقة والمصادرة بل والاعتقال الي حيث آفاق رحبة من الحرية التي أتاحت لهم مواصلة التنفيس عن الكبت بمواصلة الابداع.
من اهم الشعراء الذين غادروا البلاد وانتشرت أعمالهم في الداخل والخارج حتى أصبحوا من العلامات البارزة وسط أدباء وشعراء جنوب أفريقيا هو quot;مازيسي كونينquot; وذلك وفق الدراسة التي اعدها الاستاذ سمير عبده ربه والتي قال فيها عن مازيسي كونين انه ولد في عام 1930وبدأ كتابة الشعر بلغة الزولو ومثل كثير من الشعراء تعرضت أعماله للمصادرة من قبل حكومة جنوب أفريقيا العنصرية فغادر وطنه عام 1950الي بريطانيا حيث درس هناك بمعهد الدراسات الأفريقية والشرقية التابع لجامعة لندن ولم يتوقف عن الاستمرار في أبحاثه ودراساته المتعلقة بشعر الزولو الذي حصل فيه على درجة الأستاذية ثم اشتغل بالعمل السياسي وأصبح الممثل الرسمي في المؤتمر الإفريقي الدولي التابع للأمم للأدب المتحدة وهو يعمل الآن أستاذ الأدب الإفريقي واللغة الأفريقية في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس. له مجموعة شعرية شهيرة كتبها بلغة الزولو ثم قام بترجمتها إلى الإنجليزية كي تتسع دائرة قراءتها لأن ولاءه كشاعر كان يتمثل في رؤية العالم الأفريقي أكثر من ولائه للغة الأفريقية كما أنه ndash;كما يبدو من قصائد الديوانndash; كان يهدف إلى تشجيع العودة إلى النقل الشفاهي في الأدب المتمثل في تراث قبيلته وفي هذا الصدد قال quot;كونينquot; في مؤتمر عن الأدب المعاصر في جنوب افريقيا بجامعة تكساس عام 1975: ( إنني أقوم بتحليل الماضي والحاضر كي أخلق رؤية مستقبلية فالدين الأفريقي لا يرى انفصالاً بين الأجيال السابقة والحاضرة والمستقبلية وأنا أحاول تعميق هذه الرؤية بخلق معادلة أدبية تؤكد هذا المعني وفي قصيدة من الديوان بعنوان quot;أوروباquot; ينبذ quot;كونينquot; الثقافة والقيم الأوروبية:
ويقول:كنت أعتقد في الحكايات
كنت أعتقد أن أثداءك
طافحة باللبن
حين رأيتك محملة بالكتب) وهنا أدرك quot;كونينquot; صعوبة التكيف مع الرؤية الأوروبية فازداد تمسكاً بالثقافة الأفريقية واعتنق مثاليات الأجداد)ثم قال:
إنهم نائمون تحت الأرض
التي نعانقها بأقدامنا
عندما نرقص في المهرجان
إننا نقف في نفس المكان
حيث كانوا يقفون بأحلامهم
لقد حلموا حتى أصابهم التعب
ثم تركوا لنا الحكاية التي نرقص عليها
سنواصل طريقهم
ونقف فوق نفس التراب.
في قصيدة quot;إنتصار الإنسانquot; يتباهى quot;مازيسى كونينquot; بتصورات الحياة وبالإنسان الذي وحده يخلق الخلود ويشير إلى أن الميت يستيقظ متجسداً في أولئك الذين يتبعونه) ويقول:
dصحو الميت ويمرح في الرقصة
يدفع أوراق الشجر المتناثرة
فوجوهم لها جسد
وعيون وشفاه في تعاقب الأجيال
من جهة اخرى يؤكد quot;كونينquot; في قصيدة quot;قوة الإنسان فوق الأشياءquot; على أهمية الإنسان والتي تصبح كل الأشياء بدونها فارغة، ويرفض quot;كونينquot; أن يكون الأدب مجرد أداة للتسلية وقتل الفراغ لدى القاريء أو حالة من التفريغ النفسي لدى المبدع ذاته وإنما يرى أهمية دور الأدب في ترسيخ القيم الإجتماعية الأصيلة والتصورات الفلسفية الجادة كما كان يفعل الشاعر الشعبي في عصور ما قبل الإستعمار ثم يبرز لنا في ( قصائد المقاومة الأفريقية ) حق الشاعر في الاحتجاج، تلك السمة الغالبة على أدباء جنوب أفريقيا السود مع الاستعانة بالمعتقدات الأفريقية التي غالباً ما تخلق تصادماً مع الأوروبيين والمناداة بأن الأرض ملك للجميع ولا يستطيع أحد أن يملكها أو يقوم بتقسيمها.
يتساءل quot;كونينquot; في قصيدة (الأرض الأم) عما أسماه بحماقة الحدود القومية:
أولئك الذين في نهاية الأرض
لماذا لا يشربون من
نفس الزجاجة
ويشيدون بيوتهم
في الوادي
ويكبرون مع أطفالنا؟
من جنوب أفريقيا ايضا برزت أهمية الشاعر أزوالد مشالي. الذي كتب معظم أشعاره داخل بلده غير أنه لم يتمكن من نشرها إلا في المنفى أما ديوانه (ألسنة اللهب Fire Flames) فقد كتبه أثناء سنوات غربته،ومن الغريب أنه لم ينشر إلا في جنوب أفريقيا.
يقول quot;مشاليquot; في مقدمة الديوان: ( بعد رؤيتي للإنتفاضة في سويتو وبعض الأماكن الأخرى حدث تغير ملحوظ في رؤيتي المستقبلية فتوقفت عن الكتابة فترة طويلة كانت بالنسبة لي فترة الحمل التي جعلتني أتخلّى عن دوري كشاعر متحضر من جنوب أفريقيا وعن نظرتي للخلف فقدمت الديوان إلى كل الأبطال وبخاصة إلى أطفال المدارس الشجعان في سويتو الذين ماتوا أو تم اعتقالهم وتعذيبهم أثناء النضال المرير من أجل الحرية). في سنوات المنفى تذكر quot;مشالي كلمات quot;إبسنquot;: (إن المرء لا يرى وطنه بوضوح كما يحدث وهو بعيد عنه. وهكذا أصبح إنتاجه وفيراً في تلك السنوات حيث كتب كثيراً من القصائد والمجموعات الشعرية نذكر منها: (روح البائس المتعبة)، (فجر عصر جديد)، (16 يونيو 1979) وهو تاريخ إحياء ذكرى إنتفاضة سويتو في هارلم، ثم (كن مستعداً يا أخي)، (كوني مستعدة يا أختي) التي يقول فيها:
quot;أماندلا! أماندلا! أماندلا!
القوة! القوة! القوة!quot;
ويحذر الناس في قصيدة أخرى قائلاً:
quot;طوّق مئزر!
واطلق خواراً قوياً كالثور المنتصب
انفخ فتحة أنفك كي تلّطخ الشمس
دع الأرض تهتز حتى جذورها المتعفنة
إلعق البارود من المدافع الصدئة
دع الترس يصطدم بالرمح
دع الرصاصة تنفجر
دع الرمح الصغير يغنى أغنية حلوة عن إنتصارنا
دع الموت ييأس ويتهالك داخل السجنquot;
في قصيدة (أغنية من أجل جنوب أفريقيا A song For South Africa) يمجد quot;مشاليquot; المسجونين والممنوعين من العمل في جنوب أفريقيا بتعبيرات شعرية تغلب عليها الوطنية متأثراً بالشعراء الأفارقة الذين قابلهم في الولايات المتحدة من أمثال quot;مازيسى كونينquot; لكنه فيما تلا هذه القصيدة نجده قد تخلّى عن المباشرة وراح يتمثل الطفل والحب والله ويتحدث عن العمق والوفرة وغموض الروح كما في قصيدة (ثراء الروح) وقصيدة (العودة إلى الدغل) والتي يقول فيها:
قلت لي ألا أذبح
الثور الأسود لآجل أسلافي
وألا أرتدي جلده
وبدلاً من أن تعلمني كيف أتغيّر
وأعرف كيفية تناول الديك الرومي في الكريسماس
كما يفعل المتحضرون
قلت لي أن أولئك الناس
برابرة
وأن الذين يلّطخون وجوههم بالنقود
سفاحون
إنتبهت لنصيحتك الأبوية
فغيرت جلدي
وارتديت البدلة
ومن أجل تجميل وجه زوجتي
قدمت لها مراهم هيلينا
وعندما ذهبنا إلى حيث يذهب الآخرون
كانوا يطردوننا.