كان أنسي الحاج أكبر مني سناً وتجربةً، حين التقيته في باريس أواخر السبعينات. تعرفت، أولا، على كتاباته في جو الستينات العراقية، وفي ظروف اعتبرها مهمة في حياتي؛ ظروف صراعات بين قصيدة حديثة وقصيدة أسيرة للتقليد. وكان عليك كمبتدئ أن تحدد موقفك، والشعور الحدسي هو الوسيلة الأولى للاختيار. كان هناك، وكانوا كثيرين آنذاك، مَن يعادي أنسي الحاج لأنه يكتب قصائد نثر، أي قصائد تستقي وزنها من إيقاعات الشاعر نفسه، وليس من إيقاعات مرسومة مسبقا يكتب هؤلاء عادة، وفقها. فوجدت نفسي، أنا الذي لم يكتب بعد شعرا، أميل إلى أنسي الحاج أكثر مما إلى شعراء التفعيلة كبارا وصغارا. وهكذا، بات، قبل أن التقيه شخصيا، أحد المكوَّنات الأولى للثقافة النقدية التي ستكون سلاحي الحقيقي في عالم الكتابة: ثقافة التكوّن الفرداني المستقل والحر بكل معنى الكلمة.
تعرفت عليه في مكتب "النهار العربي الدولي" في أحد أزقة الشانزيليزيه، بواسطة الشاعر الراحل عصام محفوظ. وبعدها، بتنا - وكلّ واحد منا كان يشعر الشعور نفسه بأنّ "صداقة حقيقية تشبه ثمرة بدأت تنمو بيننا ببطء" (ارسطو)- نلتقي، تقريبا، كلَّ يوم، أو بالأحرى كلّ ليلة، أي عندما ينتهي من عمله في النهار العربي والدولي. فنتقاسم رغيف الوقت ليلا تحت أضواء المصابيح وتباشير الفجر، نثرثر أفكارا في شتى الأمور، نتبادل الآراء في هذا الشخص أو ذاك الموضوع. وعندما نفترق على أمل ان نلتقي غدا، كان كلّ منّا يشعر بأنه تقدّم خطوةً في أعماق صداقة واضحة الأهداف: "لا تمشِ ورائي، فقد لا أقود؛ لا تمشِ أمامي، فقد لا اتبع. امشِ فقط بجانبي وكنْ صديقا" (البير كامو)!
إنّ الشيء الذي لاحظته في لقاءاتنا هذه أنها كانت مبنية على الندّ للند، وبالتالي كانت تمنحني قوّة وشعورا بفردانيّة متحرٌّرة. لم يُشعرني على الاطلاق بأنه أكبر وأهم، وإنما بالمستوى نفسه. كان يفضّل أن يسمعني أكثر مما أسمعه. وعندما كان يتكلّم، كان كلامه خالياً من نبرة الوصايا الأبوية. لم أصدّق نفسي أني بصحبة شاعر له مكان في الشمس، وأنا لا زلت أنسج أول خيوطها... هذه الصداقة التي أشعر بوهجها إلى اليوم، لم أجدها مع آخرين، فمعهم، رأيت العكس؛ رأيت صداقات ملؤها، في أغلب الأوقات، الغَيْرة والصّغارة... بعضها مجرد مسايرات، والآخر ظَلَّ معلّقا من حبل واه في سرداب الذكريات.
كان كلُّ لقاء معه ينتهي فعلا، لا أقصد بقطيعة أو بحادث، وإنما أقصد: يتمّ، يقطع مداه، ويُنجَز... ذلك لأنه على الصداقة، أن تتجنب التكرار، أن تكون دوما للمرة الأولى... غدا او بعد غد سيكون لقاءا آخر، جديدا وكأننا نلتقي "أوّل مرّة"، حتى المضمون يتغير ويأخذ شكلا جديدا، والصمت يحفر صمتا آخر. هكذا يجري النهر نحو أعاليه. فالصديق الحقيقي لا تختاره، واللقاء به ليس مسألة صدفة أو اعجاب، وإنما مسألة جوهرية تتعلق بمصيرك. إنه مكتوب عليك. لم تكن صداقة أنسي الحاج كتلك التي نتعلمها في المدرسة بوعظ جاف، وإنما كانت الإحساس بتصبب العرَق وكأن يداً تنتشلك من غرقٍ ما! كلّ الطرق التي قررت أن أسلكها في مطلع تجربتي، كانت تؤدي إلى صداقته. لا يمكن لتجربة شعرية أن تكتمل دون أن تعيش صداقة عميقة مع ندٍّ لك أو مع رائد. وكان أنسي الحاج الاثنين معاً.
هناك من يلجأ إلى السحر، والآخر إلى الشعر، لكي يُظهر أفضل ما لديه... أما أنا فكنت ألجأ إلى أصدقائي بصيغة المفرد: أنسي الحاج، آخر المسيحيين العظماء الذين أناروا العربية بتراث صاف وحرّ على أمل أن تصير هذه اللغة إلى معنى محدد، أي أن تقول شيئا جوهريا وبالتالي أن تُحدث سلوكا اجتماعيا متطورا... لا أن تبقى مجرد فقاعة انفجارُها لا يقدّم ولا يؤخّر شيئاً.
أن يكون أنسي الحاج صديقا لك، يعني أن تكون لك حصّة من نُبْل النَّفْس والذكاء الإلهي، أي شيء من طفولة العالم. لقد ساعدتني صداقته (وهي لا تعني بالنسبة إلي على المستوى الشخصي فقط، وإنما خصوصا على المستوى الكتابي) أن أنظر إلى الأشياء بحبّ متسامح. لقد دهشت عندما أخبرني كيف أنه كتب عن شاعر أصدر ديوانا معظمه انتحال من "الرسولة بشعرها الطويل..."، مقالا يمدح فيه هذا الديوان ويبارك مؤلّفه... على عكس أي شاعر آخر. نحن المسلمين، لا نعرف هذا... لأن هذا، بكل بساطة، مبدأ مسيحي عميق، ينمّ عن أخلاق عالية.
أنسي الحاج، لربّما، هو الشاعر العربي الوحيد الذي لم يحاول أن ينتفع – بل لم يفكّر في هذا أبدا – من لقائه مع الكتّاب والشعراء الفرنسيين الذين كان يتعرّف عليهم من خلالي أو من خلال فينوس خوري غاتا، لترجمة أشعاره ونشرها... وإنما كان يكتفي بالتعرف بهم والإصغاء إليهم والنقاش معهم... وأحيانا كان يهرب. نعم! إننا أمام كبرياء العرّافين، وليس أمام جمهرة الشعراء العرب، خصوصا "الكبار" منهم، الذين، في أيّ لقاء كان مع أيّ كان، لا يفكرون سوى: إلى أيّ مدى يمكن الانتفاع من هذا الجالس أمامهم، وليس بشيء آخر قط
.
&