صفحة بائسة على أحرف من دمدمٍ ودمْ


&اختار الشاعر غلوم محنة المهجرين الفارين من بطش الجماعات المسلحة المدعوة "داعش"، من المسيحيين والايزيديين وليكتب أسطرا من ملحمة كبيرة مأساوية ينوء بها الشعر حين يتناولها كصفحة سوداء بوجه الإنسانية، وهي لطخة عار وشنار تتحملها حضارة ألفيتنا الثالثة، حيث لم تستطع دولها وشعوبها من حماية عشرات الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ والرجال العزل الذين هربوا من بيوتهم الآمنة نحو أماكن بعيدة طلبا للنجاة بأرواحهم وإلى الجبال في رحلة حج إلى الله يشكونه من يتسموّن باسمه ويقتلون الناس بتكبيرته .
& الشاعر غلوم في نصه هذا يعاين أماكن السبي من خلال قصيدة الحرب الذي اضطر لكتابتها كشاهد على مأساتها وألمها، وهو حينما يؤرشف أحداثها فإنه من الشعراء القلائل الذين أحسوا بعظيم خطرها فأراد نقلها إلى أجيالنا اللاحقة كي يطلعهم على صفحة قاتمة من صفحات الألم العراقي:
أخطأتهم النار وفروا إلى خطأ الحياة
&حملوا قبورهم معهم بحثا عن برية خاوية
&لم يبق ندامى لديهم
&فسافروا الخرائب والحرائق والرماد
&هكذا يبدأ الشاعر مدخل نصه الشفيف الذي يخلو من الرمزية لأن موضوعة الحرب لا تحتاج إليها بالقدر الذي تحتاج إلى الواقعية في ترسيم حدود مأساتها على خارطة الوطن المكلوم :
نهارات سود يصطبغون بسخامها
&وليال تمطر نجوما حارقة
&باحثين عن بقية عمر انزوى في الخرائب
&احترقت مفكراتهم وألبوماتهم في مدخنة
&أعدت للناجين من الموتى
&الصورة الشعرية هنا يكسر غلوم سجنها يحررها من إطارها المعلق في أفقها الذي تعودنا أن نشاهده على الكثير من النصوص الجامدة فيها، هو يحاول أن يقترب من تجربة بعض الشعراء الغربيين الذين تناولوا موضوعة الحرب بسبب اطلاعه الواسع على تلك التجارب، كالشاعرة الإنكليزية إليانور فيرجون (1881 – 1965) التي عاشت أهوال الحرب العظمى واضطرت هي وعائلتها النزوح إلى خارج العاصمة لندن بسبب القصف النازي الوحشي لها، فيرجون كتبت الكثير من القصائد حول تلك الأيام العصيبة، غلوم يحاول ايضا كتابتها بإسلوب الشاعر الذي يتلظى بنارها أيضا:
انقرضت أمانيهم وصارت لقى أثرية مزيفة
&هم تماثيل في متحف الشمع
&يذوبون في أول لسعة ذكرى
&جاهزون للعرض كموتى أمامك
&تستطيع أن تصافحهم وتربت على أكتافهم
&الحرب المفروضة عليهم قضت على أحلامهم، أصبحوا في ذلك العراء كتماثيل في متحف شمع يذوبون حنينا كلما تذكروا ضيعاتهم، بيوتهم البسيطة، حقولهم، الحرب اللعينة قضت عل كل ذلك، الشاعر هنا وهو يكسر إطار الصورة الشعرية جعل من العالم متفرجا غير مباليا وهي إدانة واضحة لتلك المجتمعات الدولية التي عاملتهم كتماثيل شمع: "تستطيع أن تصافحهم وتربت على أكتافهم":
أوثان يباركها سدنة الحرب
&أبدلوا حرير مفارشهم بالتراب
&ووساداتهم المحشوة بريش النعام أضحت صخورا
&مثل قلوب جنرالات الحرب
&هي ذي أرواحهم البور انبتت دغلا وشوكا
&عيونهم غائرة مثل مومياء مباعة
&لأفاقي السرقات الأثرية
&خطاهم خطى الأشباح الضالة
&يحسب قلبهم أنهم على قيد الحياة
&لكن عزازيل موقن أنه قبض نفوسهم بيديه
&غير أنه لم يلحق بالروح السابعة
&العالقة بذيول القطط
&توصيف رائع لإشكالية الحياة والموت نجد الشاعر غلوم وهو في أوج وصفه لهؤلاء "الحجيج" الذين أخطأهم الموت كأنهم تعلقوا بذيول القطط ليكونوا جزءا من روحهم التي ترفض الموت بهذه السهولة وليعودوا إلى خالقهم في موقف درامي مضحك مبك يصوره لنا الشاعر "ليصدر أمرا إداريا كي يعودوا لسابق عهدهم" وهي الأبيات الأخيرة من نصه الذي بأيدينا حيث يتمثل أمامنا الإصرار على الحياة أمام الظنون الخاطئة بأنهم أحياء وأنهم مجرد حروف لأسماء غائمة، مشوشة، لا تكاد تقرأ في شهادة الحياة ، سحقا لهذا العالم الذي يتفرج هازئا آلام غيره من الشعوب:
لذا عليهم أن ينفكوا من أساره ويثبتوا العكس
&عليهم أن يقدموا استعطافا إلى الله
&ليصدر أمرا إداريا كي يعودوا لسابق عهدهم
&إلى جنتهم الصغيرة
&حيث البيت والنسل والتسوق ومشاهدة التلفزيون
&متى يعي هؤلاء أن حساباتهم ليست على ما يرام ؟!
أخطأت ظنونهم أنهم ما زالوا أحياء
&تتراءى حروف أسمائهم غائمة ، لا تكاد تقرأ
&في شهادة الحياة
&حيث الدم والدمع اختلط في صورة القيد
&