&

1-&
تستبصر الشاعرة جميلة عبدالرضا بالأشياء، إنها تعيد ابتكارها عبر إدماجها في وعي قارىء ينقب عن الآخر، لا ليستحضره ولكن ليسائله ويكتشفه. هذا الوعي يتصدى جماليا لتجربة الوجدان، وقراءة ما هو باطني أو ظاهر من هذه التجربة. وهي تجربة الذات بالأحرى. هذه الذات التي تسرد شعريا، وتقص جماليا، وتستشرف شعريا.
إن الوعي القار هنا سوف يعطي النصوص دفقات متعددة من مكونات الذات ومكنوناتها، واقتسام تشظيها الذي يمكنها من تشظية الآخر بالضرورة، وسوف تعاجلنا دائما بما لا نفكر فيه أو بما نخمنه، وهذا هو ما يفعله " الشعري" حين نقترب منه ومن مكوناته الدالاية.
&&يتشكل ديوان :" سبع مرايا لسماء واحدة" الذي يحوي هذه التجربة من جملة من النصوص المتماهية جماليا، التي تشهق بكلمات وتزفر بمعان، كأنها تتنفس سياقيا وجماليا ودلاليا.
&هذه النصوص تتوجه في تجليها الدلالي لآخر، هو الذي تتساقط عليه أضواء الكلمات ودلالاتها.
&ووفق ذلك سوف نروم استجلاء هذه الكلمات، وسوف نسعى للكشف عن دلالاتها من خلال الاقتراب من منظومة البنى الجمالية التي تؤديها الشاعرة في نصوصها التي تتكون من (75) نصا مكثفا، ومن بنى شعرية قصيرة مجردة من الزوائد والاستطرادات، وحالات الإطناب الشعري.
2-&
إن الشاعرة تقدم تجربة متميزة على صعيد النسق السيميائي الذي يتشكل من جملة من الخطابات المتآلفة والبنى المهيمنة، التي تتجلى فيها الأنا الشاعرة بوصفها المجال المركزي الذي تنطلق منه إفضاءات النصوص بحثا عن مهبطها المعنوي عبر التساؤل حينا، عبر الوصف، عبر السرد، عبر التأمل وبسط الدوال في علاقات سياقية متشابكة، متماهية أحيانا أخرى.&
منذ الوهلة الأولى التي نتحرك فيها لمتابعة هذا الأفق الجمالي الذي تؤدي به الشاعرة وصولا إلى بوحها الشعري، نجد أنها تقوم بتفعيل مكون مهم يشكل طرفا من أطراف الجملة التعبيرية العربية وهو التركيز على الجمل الاسمية وإعادة تسمية الأشياء من جديد. هذه الحالة سوف تقوم بنقل الأسماء إلى دلالات جديدة. لنقل إن التسمية الجديدة تغير الكلمة، وتدخلها في سياق آخر استعاري يحقق لها طاقتها الدلالية داخل النصوص. وهذا ما سنكتفي بالإشارة إليه هنا في هذه القراءة المبدئية.
في تسميات متعددة بدءا من النص الأول المعنون ب:" الحنين" تقول الشاعرة:

الحنينُ مدنٌ ماطرةٌ
هنا يتحول الاسم إلى فضاء آخر مغاير، إلى اكتساب دلالة قيمية استعارية جديدة، ينتقل ( الحنين) من كونه حالة قيمية معنوية إلى حالة مادية متسعة إلى " مدن ماطرة" وهنا ينتقل الاسم إلى مسمى بعيد جديد، كأن الشاعرة تمارس نوعا من الاستقصاء الذي يبحث للاسم عن مدار مختلف، وفضاء سياقي استعاري متميز.
&ثمة نماذج يمكن أن تقلنا لهذه الوضعية الجديدة للاسم يمكن تمثلها هنا :
-&الحنينُ : أنثى
تروض الصهيلَ
وتوردُ شتاءها
للأقدار

-&العطرُ : مدّ مفتوح
الموجُ : قارة تميل
نحو أصابعي
كلما حركت لحيرتي
ذراعك& / ص 25
-&اللونُ : هندسة الكون
قصيدةُ خوخ في جموح الفكرة
سجدة ليلي وليلك
ريفُ نهارات
اللون : مهرجان القلب
مرورك لون الأشياء / ص 72
-&السؤال : زورق مبحوح
-&الليل: عناق مكسور / ص 75
لنلحظ في النماذج السابقة دوال:" الحنين/ الموج/ العطر/ اللون/ السؤال/ الليل" كلها أسماء مبتدأ بها في صياغات تعبيرية للجملة الاسمية. لنلحظ أن هذه الدوال مألوفة شعريا، ربما إن الفضاء الشعري باتساعه ورحابته تتكرر فيه هذه الدوال بشكل أو بآخر، بيد أن ما لا يتكرر هو ما تصطفيه الشاعرة من أخبار أو صفات، هو ما تضيفه لهذا الدال أو ذاك كي تتسع استعاريته ويتسع مجاله التصويري، وكلما كان الاختيار أبعد كلما كان أعمق وأكثر دهشة.
&حيث تستوفي القصيدة منظومتها الجمالية عبر جملة من الطرز والأنساق أولها الانتظام الهارموني ضمن بنية لغوية صلدة متماسكة، هذه البنية تقلنا إلى آفاق من المعنى وآفاق من التشكيل، حيث تبقى لغة القصيدة هي العنوان الأمثل الذي يجذبنا إلى أحراشه ومكامنه، فيما تأتي الصور القادمة من المسافات البعيدة في علاقات الكلمات وسياقاتها لتقلنا إلى سحابات وراء الكلمات، وكلما كانت هذه المسافات أكثر بعدا، كانت القصيدة أكثر عمقا ومخايلة ومراودة للخيال.

3-&
في التسميات السابقة أداء جلي للشعرية في بساطتها، فالتركيب يسير من حيث إنه يقتطف اسما ما ويقوم بإضفاء اسم آخر عليه، إن الشاعرة تحدث هذا القران، لكن تبقى القراءة الكلية للنص هي المعول الجوهري الذي نتيقن منه للوصول إلى الرسالة النصية الكلية.
والشاعرة في مزجها الاسمي – إذا صح التعبير- تقرن بين دال صغير وكبير أو تعكس هذا القران لتحقق قدرا من التجانس بينهما بحيث يصبح هذا القران رائقا، ومهمينا على الوعي النصي بما تصطفيه الشاعرة من دلالات.
&ولعل في قراءة نص يستثمر آلية التسمية بشكل مركز ما يمكن أن يضيء لنا هذا المسألة ـ ففي نص بعنوان:" البيوت" تقول الشاعرة:

البيوتُ : حدواتُ الصهيل
سماء غربتنا
عناقيد الآلهة على الأرض
البيوت:& برية الأجساد
قلادتنا في الزمن السري
البيوتُ : أولنا
والبيوتُ:& قميصك
على صحراء جفني
....
أنت .. لو
يردك السنون إليّ . / ص 92

تتكرر دالة " البيوت" كتسمية أثيرة، كعنوان مكبر لهوية النص الدلالية بشكل جلي، ربما لا نجد قصائد كثيرة تستقصي هذا الأفق المكاني المصغير :" البيوت" كما استقصته الشاعرة جميلة عبدالرضا. إنها تقل هذا المكان الحسي بأركانه وتفاصيله إلى معاني معقولة، متخيلة، أكثر إيغالا في بعدها. هي توصيفات تقل المادي إلى جوهري إلى قيمي بحثا عن دلالات أخرى غير متوقعة.
تنهمر الدلالات على دال واحد:" البيوت" التي تتكرر أربع مرات هنا ف النص. لم تحدثنا الشاعرة عن مألوف بيتي عن نوافذ، أو جدران، أو غرف، أو أسطح، أو أثاث. لكنها أثثت لدلالات قيمية وذهبت هناك أبعد:

البيوت&&&&&&&&&&&&&&& حدوات الصهيل
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& سماء غربتنا
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& عناقيد الآلهة على الأرض

فيما تبدي هذه الترسيمة البسيطة فإن الشاعرة نقلت الخبر إلى مناطق بعيدة، إلى حددوات الخيل، كأن البيوت تسرع حين تتشبه بالخيل، كأنها انتقلت من جمادها ودبت فيها الحياة بشكل أسطوري، ولم تقل الشاعرة :" حدوات الخيول" لكنها استعارت دالا يشير للخيل:" الصهيل" وهي إذ تفعل ذلك إنما تستثمر البعد الثاني للدال على اعتبار أن الخيل تشكل البعد الأول فيما تشكل كلمة :" الصهيل" البعد الثاني.
&البيوت تصير أيضا سماء للغربة. ليست سماء للوطن، ولكنها سماء للغربة. كأن سكناها نوع من الاغتراب، ونوع من المفارقة، أو نوع من الحنين. هي سماء لغربة حقيقية أو معنوية متخيلة. لكنها ليست بيوتا على الأرض إنما هي بيوت في الإحساس.
&وهذا أيضا ما تنقلنا إليه الشاعرة في شكل أسطوري آخر حين نشعر بأن هذه البيوت هي:" عناقيد الآلهة على الأرض" تبدو البيوت كالعناقيد، تترابط معا لتشكل سلسلة عنقودية كأنها تنبت متشابكة وتتقطع بعد ذلك، بيد أن الآلهة الأسطورية تجمعها في عناقيد موحدة. الشاعرة ذهبت أبعد. هي نقلت دال:" البيوت" إلى أبعد مسافة متخيلة كأنها هجرت الدلالة الأصلية للبيوت وهي السكنى، وهاجرت هناك إلى حيث المخيلة الطليقة تكتب وترى وتستقصي.
&وإذا جردت الشاعرة :" البيوت" من دلالتها المكانية، فإن الدال هنا يتحرر من سطوة الماضي المنطقي، كما يتجرد بالضرورة من سلطة الجمالي المعهود التي قد تصف البيوت بالجمال، أو تعدد توصيفاتها بشكل مألوف. هنا نحن حيال بيوت أخرى أكثر وثاقة بالمخيلة الشعرية .
&وهنا تتوارد الدلالات الخبرية بشكل طليق لتحقق حلم الشاعرية في تلاقي سياقات مختلفة لم تتلاق من قبل:

البيوت&&&&&&&&&&&&&&&& برية الأجساد
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& قلادتنا في الزمن السريّ
من البرية إلى القلادة؟
من الكبير الشاسع إلى الصغير المتناهي في الصغر.

4-&
الشاعرة تضع دلالات حرية بالتأمل الكثيف، لأنها تجذب مخيلة القارىء وتتنقل به بشكل حركي إلى فضاءات أبعد. كأنها – وهي قد جردت البيوت كاسم من دلالتها المعهودة- تصبو إلى أن تفجر هذه الدلالة في سياقات غير متصورة. فالبيوت تتحول إلى برية، ولكنها برية من نمط حسي كثيف تتجسد فيها الأجساد، لتأخذ هذا البعد الإنساني الحسي. هنا البيوت مكان للقيا لكنها مكان مفتوح على بريته الطليقة.
&وتستمر الشاعر في التحليق بعيدا بحثا عن هذه الهاجس الجمالي الذي لا يتوقف عن الاستقصاء لتصبح البيوت قلادة. وهنا تنقل الشاعرة الإحساس بالبيوت بذكراها في زمن سري، ربما هو زمن العشق أو زمن البحث عن الذكرى أو زمن الحنين. الشاعرة هنا تشعرنا بتجلي البيوت حتى أنها لتصبح :" قلادة" على الصدر. كأننا نستدعي حنينها والإحساس بها لا نستدعي البيوت كجدران أو حتى كأطلال بالضرورة.
&وفي نهايات النص تعود الشاعرة إلى ذاتها، لتجرح هذه العلاقة بين الأنا والآخر، وتعطي موجزها الجمالي المكثف ، لتذكر الآخر بمهاد البيوت:" البيوت أولنا" و" البيوت : قميصك على صحراء جفني" والتعبير الأخير أكثر دهشة وشاعرية، حين تتلاقى دلالات : القميص والصحراء والجفن لتتواتر بين الصغير والكبير، بين الحسي والعضوي بين الفضاء المفتوح والضيق، البيوت تلاشت تماما لتسكن في فضاءات دلالية أكثر استقصاء وأكثر بزوغا عبر المخيلة.
ومع نهاية النص تصدمنا الشاعرة صدمة دلالية مؤثرة لتهجر ذلك كله، إلى تذكر:" السنونو" الذي يرف في الذكرى، ويستعيد الآخر : الحبيب المتذكر أو المتخيل، في لقطة نهائية:" أنت.. لو يردك السنونو إليّ" . كأن كل هذه البيوت كانت تمهد لهذه الصدمة/ الذكرى. كأنها أمكنة- أزمنة لتداعيات المخيلة الطليقة واستقصاءاتها.
&