قد يبدو إن الحديث عن الكتابة النسوية أمرا متكررا في الآونة الأخيرة، لحد أننا أصبحنا بين أدب المقموعين من النساء والأقليات التي انبثقت خطاباتها بمباركة ما بعد حداثية تبحث في مالم يقال بعد، ولم يحرر خطيا، ولم يأخذ حقه في تأسيس الوعي اللازم في المؤسسات السياسية والاجتماعية والأسرية ليأخذ حقه بشرعية معلنة بدلا من توزيع حقوق متفرقة هنا وهناك بتفضل وصدقة من مسؤول، بل على الأقليات أن تطالب بأن تكون علامة مختلفة مقبولة وشرعية ضمن الخطاب السائد، و تصبح أحد المحددات لهذه العلامة الكلية. من هنا يهتم الأدب والنقد والمنظرون الاجتماعيون والنفسيون للبحث عن عمق تأصيلي لهذه الحقوق مستفيدين ممن سبقوهم من مفكرين أسسوا للبحث في ماهية الجديد المنبثق مما كان مقموعا ومنسيا وصامتا بالإكراه يختزل في جسده سنينا من القهر والحرمان على أن ينظر لها إنسانا كامل الأهلية مساو لما هو معترف به منذ قرون بخطاب ذكوري مترابط ومتماسك.
قضية المرأة العربية من المحددات الهامة في خطاب المهمشين في الوطن العربي تم تناولها منذ أعوام ولا زال التناول يغوص في أبعاد مختلفة وجغرافيات لم يفتح قمقم سردها إلا قريبا، لذلك بدأت الكتابة عن المرأة معنية في الكتابة عن هذه الجغرافيات المغيبة والتي لم تلق حظها في تحرير خطابتها بشكل جدي ومنهجي متنوع وغير أحادي. لذا أرى أهمية الكتابة عن إبداع المرأة السعودية بشكل متواتر من أجل فهم خصوصيته وتنوعه وتقييمه، والوصول إلى مرحلة الاعتراف به، حتى يتم الاعتراف به عند بقية مؤسسات المجتمع، فالفنون تستبق الميادين الأخرى في تسليط الضوء على الإشكاليات الثقافية والإنسانية، وتعتبر مرجعا هامة في القراءات الاجتماعية والنفسية لتحليل أبعاد القضايا التي يحللها الأدباء بتأملهم وتصويرهم الواسع والعميق لأبعاد القضية التي يعجز القانون عن تداركها. الفن هو باب التعبير عن المآسي الإنسانية وصدمة البشرية بواقعها المضطرب والمثقل بإشكاليات كثيرة.
رواية "الرقص على أسنة الرماح" للكاتبة السعودية رحاب أبو زيد هي رواية وجع المرأة السعودية المعاصرة بثيماته المختزلة منذ قرون بقمقم الثقافة الأبوية المتوارثة حبست فيه المرأة منذ القدم، وقد آن الآوان لتحرير صوره المتعددة، وهذا ما أفلحت الرواية بتصويره بلغة رشيقة تعبيرية عالية التدفق الشعوري بقدر ما يتطلبه السرد، بدلا من الاسترسال في عالم الشعور على حساب تحفيز السرد.
الرواية تصور حالة المرأة السعودية من خلال قصة البتول مع مؤسسة قمعية ذكورية بدأت من الأب فالأزواج، وحتى المحبوب، كلهم مقيدون بسلسلة من الأعراف والتقاليد تحكم علاقتهم مع المرأة، كما تؤثر على مجريات حيا ة المرأة بشكل أساسي و مفصلي.
&اللافت للنظر أيضا إن الكاتبة كانت موضوعية في نقدها للرجل والمرأة فصورة المرأة في الرواية لم تكن بأفضل حالا من الرجل، حيث تنطلق في حياتها من خواء معرفي، كما يتبين من رد البتول على صديقتها سمر:
"- وهل أنا حين أتبادل النقاش مع رجل .. وليس أي رجل ..بل صفته هنا أنه معلمي.. أكون بذلك طامحة للوصول إلى قلبه ؟!! تفكيرك سطحي يا سمر طول عمرك..
- اكتشفتُ أنكن لم تعتدن على مفهوم الطُهر !"
فما سبق يمثل قصور في النظر لأحادية علاقة المرأة والرجل فالمرأة بنظرها لا تجيب على رجل أكاديمي في الجامعة إلا لأنها تحبه. وهذا يعكس إن المجتمع لا ينظر لعلاقة ثنائية بين الرجل والمرأة إلا وصور العلاقة النمطية تشوبها، فإذا كانت المرأة لا تنظر لعلاقتها بالرجل إلا وفق هذا الإطار النمطي، فكيف تتطلب من الآخر أن ينظر لها بنظرة مختلفة.
في هذه القراءة سأولي أهمية للثيمات التالية لأنها تميز خطاب المرأة في الرواية:

الأب والتفكير الطباقي
تبدأ معاناة المرأة بعد ملاحظتها لاختلاف مشاعر والدها تجاهها بعد بلوغها مرحلة المراهقة، وأصبج جسدها رمزا محملا بالخطيئة المفترضة، فبعد "حمْله لها، مداعبته إياها، سيره خلفها بسيارته القانية الحُمرة للتأكد من أنها حفظت طريقها إلى المدرسة !! " يبدأ بعهد جديد من القسوة في فرض قوائم الممنوعات التي تخنق هذا الجسد، فتقول:
"حوارات تدور بينها وبين هذا الوالد المتزمت تنتهي برفع القمع لأعلامه المتهتكة لصالح فكر متضعضع لا أساس له من المرجعية الحكيمة، حوارات تفشل كالحوارات التحضيرية على هوامش القمم العربية قبل أن تبدأ .."
الكاتبة تسلط الضوء على انعدام جدوى أي نقاش بينهما، كون العقل مغلق دائرة التفكير يستند على مخزون لاواعي يسانده بقراراته، من دون حتى تفكير حقيقي.& كما إنها تنقد خطاب الوالد الأبوي المتوارث، بقولها "متهتك، متضعضع"، علامة على قدم هذا الخطاب الذي يضعفه الجدل المنطقي، لذلك هو يرفض النقاش، بسبب افتقاده للحجة المنطقية يقدم بها فكرة نقاشية بناءه، ينهي فيها النقاش بصوت واثق بيقين جاهل، أو متذبذب يتداعى أمام الحجة القوية.
مع اتفاقي مع وصفها المصيب لهذه الحالة الأبوية، والمشاعر الغاضبة لها كإنسان مسلوب الإرادة، إلا إنه يبدو لي إن النسويات في الوطن العربي، ينظرن للرجل على اعتبار إنه صانع قرار، ولكنه هو في واقع الأمر ليس فاعلا بل مفعولا به سالب يمارس أدوار متوارثة فرضها عليه الماضي بأعرافه وتقاليده، وساهم في استمرارها الجهل والتهميش والتغييب، منذ سنين بدأ عصر التنوير الحالي بتبصيره وتنويره بالتدريج، فالأب لا يستمتع بقمع ابنته ولكن لأنه أضعف من مواجهة المجتمع بهذه الحقوق، الذي يسقطه من عضويته رمزيا لأنه لم يحافظ على هذا الخطاب المتهتك. رغم أهمية نقد وتحليل خطاب الرجل، بتعدد أدواره الاجتماعية، إلا إنه لابد من الالتفات للنقاط التالية:
1- تحديد وضع المرأة بوصفها مفعولا به لمفعول به أعلى منها مكانة خاضع لسدة العادات والتقاليد، وللتهميش الاجتماعي للرجل من المؤسسة السياسية، والتهميش السياسي للمؤسسة السياسية من قبل القوى العظمى، فما يقوم به المهمش بأن يمارس التهميش على ما هو أدنى منه والسلسلة متوالية.
2- التعاطف مع الرجل المرتبط بين خطاب متوارث وقديم، وامرأة تنادي بالجديد والحق الأصيل الذي لا يستطيع هو كفرد أن يقر به، ليس خوفا على سلطته في غالب الأحيان بقدر ما هو خوف من السلطة الاجتماعية الكبرى التي تقمع الفرد ولا تحقق هويته الفردية. فبدلا من الكراهية والمشاعر السلبية لابد أن يأتي التقبل والاستيعاب حتى يحدث الحوار البناء وليس التصادم.

بين الزوج والحبيب:
لم تكن البيئة الأسرية الحاضنة لبتول بالفعل حاضنة ومشجعة على البقاء والاستمرارية فيها، مما يجعل من الزواج حلا ملائما ومؤقتا لمشكلة انغلاق الأفق عند الأب، ولكن لا تلبث أن تصطدم المرأة بشكل آخر من العنف الرمزي الواقع عليها من قبل الرجل، ليس لأنه يحافظ عليها، ولكن لأنه يعتقد إنه يمتلكها ملكا يخضعها لرغباته ونزواته الطفولية العابرة، فمثلما كان يلعب بالأشياء وهو طفل يلعب بدميته الجديدة كما يشاء. من المواقف الحاصلة في شهر العسل في دبي عندما أرادت البتول التصوير مع الزوج أمام نافورة، وبعد أن تهيأت للتصوير يرفض ويتراجع ليرمي رغباتها البسيطة والصغيرة في عرض حائط الاعتباطية، فهذا الزوج لأنه فقط لا يريد، يصبح كيان المرأة تابعا له لا يريد مثله تماما بالأمر والإرغام. مثل هذا الموقف الذي أجادت الكاتبة في التقاطه يعكس إن الرجل لا يلغي المرأة من أجل الخوف على السمعة في المجتمع فقط، بل يلغيها لأجل الاعتباطية المرسومة من أجل ترويض الذات المستعمرة، حتى لا تحلم وتتأمل وترغب بأمر، أي أمر، مهما بلغت بساطته، فكأن الرغبة الطبيعية شيء من المحرمات في هذا العالم الذكوري.
بعد طلاقها من وليد، تستعيد بذاكرتها فؤاد المحب من جنسية عربية لتثير مشكلة أنظمة الزواج في الخليج التي لا تسمح بالارتباط بالجنسيات الأخرى، إلا بعد مشقة مثلما حدث مع صديقتها سمر التي تزوجت من أجنبي بعد سفرها للخارج. كما تثير في قصتها مع تركي الفوارق الاجتماعية الطبقية بين أبناء الدولة الواحدة، أهل تركي وأهلها، لذلك تفشل علاقة الحب فيما بينهما. بين هذه التنقلات العاطفية وعجرفة الأب مع ابنته المطلقة، فإن البتول تتزوج عماد الليبرالي المتحرر الذي اعتقدت إنه خلاصها ومطهرها من عالم الأحزان، لتصدم بتصرفاته معها وليبراليته المعوجة الداعية إلى الانفلات، فهو يأخذها إلى سهرات ويطالبها بالرقص أمام الحضور نساء ورجال من أجل مصالح اجتماعية، لتفقد احترامها لذاتها وله، وتعلن موقفها تجاه أمام هذا النسق المنحل، المتطرف بتحرره، كاشفة إن الرجل، بهذا النسق الاجتماعي الحالي، ذو عقلية واحدة لا تتغير سواء تزيا التطرف المحافظ أم الليبرالية المنحلة. كما تعلن عن رؤيتها الضمنية للموضوع إن المرأة ليست بحاجة للمتطرف ولا المنحرف الذي يقودها للإنحراف بل تريد رجلا معتدلا في رؤيته للمرأة ينظر لها ككيان مستقل، ولهويتها الفردية الخاصة بدلا أن تكون في قمقم محاصرة بهذه الرغبات المختلفة، المحافظة، والتملك، وسلما للوصول للمناصب الاجتماعية، فيكون العنوان: "الرقص على أسنة الرماح" رماح الرغبات المتوحشة ضد المرأة& التي يسوقها قدرها إليها، تحاول الإذعان له، ولكنها لا تلبث أن تثور عليه وترفضه مما كانت النتيجة، كما فعلت البتول في نهاية الرواية.
وبعد، لو أردنا الالتفات إلى خصائص سرد الرواية الموضوعية والشكلية، أرى أن أستعين بدراسة معنونة بسيرة المرأة وتقاليد الرجل ل Jelinek حددت الكاتبة ما يميز كتابة المرأة لسيرتها الذاتية عن كتابة الرجل بما يلي:
&ما يميز كتابة المرأة لسيرتها:
1- إنها تركز على حياتها الشخصية ومحيطها الضيق من أهل وصديقات مركزة على تأثير الحياة الاجتماعية العامة عليها كشخص.& فبخلاف الرجل الذي يكون محتفيا بأثره على المجتمع المرأة تكتب عن أثر المجتمع عليها.
2_تكون كتابة المرأة عاكسة لصورة ذاتية وتعبيرية عن واقع المرأة في محيطها ومجتمعها تبحث عن تعرف وفهم لما يجري بدلا من كونها صورة معظمة لها.
3- من ناحية الشكل الفني بدلا من أن تكون وفق بنية أفقية بالعكس بنيتها الزمنية متشظية وغير مترابطة ..
هذه السمات رغم إنها وضعت في سياق سرد السيرة الذاتية إلا إن ساردة الحكاية التخيلية تقدم قصة شبيهة بما يحدث للواقع، لذلك لا أجد تعارض في استعارة هذه السمات للنص المنظور بهذه المقاربة وعلى وجه الخصوص الأولى والثانية، بينما كان أسلوب السرد على شكل التتابع الزمني، وبنية السرد التقليدية من حيث تصاعد الحبكة من ثم الحل.
يحسب للنص تحليقه اللغوي مكثف الشعرية، ولغته المجازية التصويرية المستخدمة من دون استرسال شعري يعطل السرد في كل الرواية، ما عدا الثلاثين صفحة الأولى من الرواية لأنها بدأت بصدمة القارئ في مشكلة العلاقة الأبوية، سطحية نظرة المرأة، استذكاراتها لزواجها، وعلاقتها بفؤاد، التي أخذت طابع البوح الممتد على عشرة صفحات، مما أحدث مللا سرديا، قد يجد القارئ تفسيره في الصدمة الحادثة لها التي تستخدم أسلوب البوح الذاتي بعد الطلاق، فهذا شكل تعبيري يتلاءم والصدمة من الواقع والتجربة المعاشة.
&رواية "الرقص على أسنة الرماح"، دار أثر الطبعة الأولى، 2012م.
ناقدة وكاتبة كويتية
&