بغداد: صدر للشاعر العراقي ابراهيم البهرزي كتاب شعري يحمل عنوان (شرفة نيتشه) عن دار ميزوبوتاميا، يقع في 700 صفحة من الحجم الكبير، ويحتوي على المنجز الشعري للشاعر& بدءاً من نهاية السبعينيات وحتى لحظة اعداد الكتاب.
&بعد عزوف عن إصدار مجموعة شعرية منذ سبعينيات القرن الماضي إصدر مجموعة اولى له عام 2003، تحمل عنوان (صفير الجوال آخر الليل)، لكنه قرر ان يجمع كل ما كتب في كتاب واحد،منذ عام 1977& حتى 2014، لكنه لم يقسمها الى مجموعات بل نشرها دفعة واحدة،يضم الكتاب اكثر من 200 قصيدة ..اغلبها قصائد نثر، واهم ما يهيمن عليها هو موضوعة& فقدان الاشياء الجميلة والمراثي، فيما يعلق على الغلاف الاخير للكتاب قصيدته المعنونة او المهداة (الى شاعر....)، فهو ربما يحادث نفسه او عبر شاعرا او يحادث شاعر ما عبر نفسه،او ربما هوينتقد ما يتعرض له الشعر الان من خراب، لكنه يبسط كلماته بيسر ولطافة فيعلن رأيه بالشعر واضحا :
(وانت& تسعى الى الشعر& عليك& الا تاخذ& معك& دليلا
فهو ما تتلمّسه& لا ما يدلّك& عليه& أحد
ولا تنتظر منه& هِبة ولا احتفاءا
لانّك ستفسده& بالجَلَبة والجدال
هو صوتك
او موتك& الذي ينفرد& بك
في المتاهة& والسؤال& , وهو نجمة& الحيرة التي تتحوّل& في الآفاق
لا سعيا& الى طريق , ولكن
مؤآنسة& لوحشة& الوقت
أثَر& في الرمل لا يدوم
تُنخّله& رياح& تترى وتعتّقه& ظلال
فأن توشّل& منه& طَلل
ففي ضمير& مستوحش& مثلك
خانته الجهشة فلاذ وحيدا
يستر& شرفه الاكيد : دمعته& الكريمة).
&&&& كتب الشاعر لمجموعته مقدمة بسيطة عنوانها (اقل من مقدمة) قال فيها : صدرت مجموعتي الشعرية البكر (صفير الجوال آخر الليل)عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2003 ولم تحظ بتوزيع في السوق العراقية للظروف العروفى آنذاك اضافة لكوني تكاسلت عن متابعة توزيعها لظروف تخصني.
&واضاف: وحين لم تتح لي بعد ذلك فرصة لطبع مجموعة اخرى ولاحساسي بضياع الكثير من مسودات النصوص خاصة وانني نادرا ما انشر في صحف ومجلات فقد رأيت ان انشر ما تراكم لدي في مجموعة واحدة دون مراعاة للتصنيف حسب السياقات الزمنية للكتابة في مجاميع متوالية مفترضا نفسي اجمع تراث شاعر اخر غيري وهو ما حصل.
&&& وتابع : ولا انكر انني وخلال عملية الجمع كنت انوي استبعاد بعص النصوص التي كتبت في فترات زمنية سابقة اتغير رؤيتي الفنية ازاءها،غير اني عدلت عن ذلك لدواعي التوثيق.
&&& في الكتاب يشعر القاريء انه ازاء تجربة شعرية فريدة ومميزة، تستحق القراءة بتأمل اكثر من مرة لانها تتوافر على امكانية صناعة الدهشة بالصور الشعرية التي يرسمها بجمل وكلمات تمتلك قدرتها على التحليق في فضاء العقل بجزالة وسلاسة وقوة،فنصوصه متماسكة ومكثفة ومتناغمة بايقاعات تنطلق من عمق مكتنز بالمفردات غير المستهلكة وبالتفاصيل التي لها وقع مفعم بالوضوح من خلال الصور الشعرية التي تقدم لقطات مؤثرة، فلا يدخلك في متاهات ولا يخرجك الى غموضات بقدر ما يمنحك فرصة للتأمل والنظر الى الفكرة من جهاتها لانه لا يريد ان يصرف ذهن القاريء الى الهوامش، بل انه يملأ كؤوس الفكرة لديه بكلام ينبض بلقطات تشاهدها متجسدة بشخوصها على الورق وتنظرها بفكر واع.
&& ففي قصيدة (شرفة نيشتة)،التي حملها الكتاب عنوانا له،مثلا، يرسم مقطعا اوليا يوضح فيه ما يرى مما يختلج في ذاكرته واما عينيه اللتين تسكبان نظراتهما لتبصران خرائط واسماء وموجز حكايات فيما قلبه ينزوي باحثا في غمامات نفسه عن بيته الذي لا يراه :
&(أرى قلق الضوء لا خلقة النائمين على الرصيف,
ممّا ارى
لا يصدّقني أحد غير دمعة بتول وامرأة عليلة
ممّا أرى
شبح الأنثى العليل وهو يقدّم لي وردة الرضا
أرى
غير هذا الطريق الذي دلّني ذات يوم& لبيتي).
&&& لكنه بلغة شعرية يتحول الى فيلسوف يقرأ في ضمير الشاعر ما يولد فيه عبر صور شعرية ترسم نفسها لتشعر القاريء بالدهشة والمتعة لان الايقاعات تتناغم على هدوء الفحوى التي يمتلكها النص وتشرحها الفكرة،فالشاعر يتفاعل مع ما يرى وينضح مداخلاته الصغيرة المضيئة التي تشعر انها تحمل دمعا في مآقيها لكنه يستره.
(لست أرنو لأفسّر حركة الوقت في تقاطعات الدروب
لا اعرف من مشيته غير الظل المشبوح على الجدار المقابل
قوس كتف& منحن&
يقطع& في ذهابه وأيابه& لعبة& الطفل الذي أحب&
وهو يقودني من شرفتي الى باب& بيتي
تنحرف& الشرفة كل أصبوحة عن طريق
يصبح الذاهبون& كالمقبلين& الي&
وعبر الظلال التي تتداخل&
يومي ء& لي طائر& كنت& صوّبت& في صدره& أوّل& اللؤم
ثم& يظل& يرفرف فرحان في باب& بيتي
أرى راحلين& أرى راكضين& ارى زاحفين
أرى في أعالي البحيرة& وشما من البرق&
يرسم خطوة أمّي
تخب وتستلني من مفازة& ليل&
لتودعني في حديقة بيتي
مُلاعبة الريح& للشمعة& لن يُفسدها الظلام&
تذوب الريح في اللّهب ساعة أطوي ظُلفة الشرفة&
أطوي شبح المرأة العليلة وهي تقدّم وردة الرضا في الظلام&
أطوي الشوارع&
كل& الشوارع التي تتذكّر& بيتي...)
&اغلب نصوصه تتغلف بالعاطفة لكنها ليست تلك العاطفة الساذجة، بل انها العاطفة المغموسة بالكبرياء الرافعة رأسها والتي تحتج على ما تراه من هدر بالعواطف، خاصة في الرثاءات العديدة التي كتبها، فتجده ينحى منحنى لا دمع فيه ولا بكاء ولا عويل بل انه يفتح نوافذ الرثاء على تراكمات من الوجع يخلقها بنفسه من خلال ما اكتسبته معرفته وما وجدته نفسه فيرسم ما يشاء من ذلك البوح على قدر من الوجع الذي في داخله والذي يصوغه بتقنيات يبرع فيه فيجعل القاريء منذهلا لان البوح يفيض على مساحة واسعة من القسوة كما في قصيدته (جنازة عفيفة) ويقصد بها المطربة العراقية الكبيرة عفيفة اسكندر، فهو لم يرثها بقدر ما يلوح لها بالانطفاء العجيب والمفارقات التي يسجلها عن رحيلها، فيما تراه يذهب الى عمق التاريخ ويأتي برموز واسماء ليضعها على وجه القماش الذي صار كفنا لعفيفة دون ان يعي ذلك بالطبع، فهو يريد ان لا يرثيها بمظاهر الرثاء المعروفة لكنه يأسى ان جنازة عفيفة المتوهجة تنحدر الى الظلال الكثيفة البعيدة :
(ليسَ في الزقاق احد
حتى
ولا شقيّا يبرم شاربه
ولا
على سعف نخلةٍ
يتغنج التبانيُّ الغبيُّ
في مرمى حصاةِ الطفلِ
ولا
في تلك الصبيحة
عطرَ شايٍ
ولا عفطةَ مخمور....
عفيفةَ ترحل كزعلٍ شديدَ الأَنَفَهْ....
الساعة في برج القشلة متوقفة
لا من عطلٍ ,
الساعة متوقفة اصغاءا
لدبيبِ النمل
في المقهى المجاورِ..
دبيبٌ ساحرٌ يشبهُ المارش القديم
بدفوفٍ اقلَّ ,
بناياتٍ منفردة اكثرُ صخبا
في تلكَ اللحظة
من ذلك الصباح البغدادي المقلي بالزيتِ المتفرقع
في مسطر السعاة
حيث لا يشتري التعبَ باخسا
غير لصوص الراحة..
تعبرُ جنازةُ عفيفةَ
صعودا
من كنيسة الارمن
عبورا بشارع غازي
التفافا على نصب التحرير
طوافاً بالزوراء
وساحة الاحتفالات
والقصر الجمهوري ثم الجسر المعلق
وساحة الفردوس ثم مدينة الصدر
وصولا لمقبرة نائية للمقلوعين
جوار معامل الطابوقِ...)
في الكتاب بنصوصه المكتوبة على مدى 37 عاما، يشعر القاريء بامكانات الشاعر& التي تتطور خلال الزمن، واذ يجد اغلب نصوصه تتمثل في شكل قصيدة النثر الا انه سيجد اشكالا اخرى محدودة كأن الشاعر اراد تجريب ذلك، حسب اعترافاته انه لم يحذف اي قصيدة كتبها حتى وان كان يراها لا تتفق مع تطوره الشعري وهذا ما يحسب له لانه لا يريد ان يتنكر لنتاجه، لكن المهم ان قراءة النصوص تعطي انطباعا ان الشاعر يقف في مصاف الشعراء الكبار.
&
التعليقات