&
في محاولة وجودية فريدة من نوعها لترجمة العمق الإنساني موسيقيا، قام المؤلف والعازف العراقي أحمد مختار بإصدار إسطوانة تحمل عنوان أصابع بابلية، تحتوي على اثنتي عشرة مقطوعة موسيقية، تُحاكي نغماتها أبعادا حضارية وثقافية، وتتغلغل في مساحات جمالية شاسعة و مُتفرقة. فمختار بوعي موسيقي، قام بدمج العديد من القوالب الموسيقية الشرقية والعالمية في فضاءات إيقاعية لحنية غاية في الاتزان والحريّة، ليقدم نفسا تجديديا مُكتمل المعالم، ناصع الجمال، تتموج نسائمه في وعي المتلقي مُبشرةً بالأمان، واستمرارية الأمل، ومُعبرةً عن قُدرة الإنسان في تطويع الحضارة لِلَجم عربدة المدافع والمجازر. إسطوانة أصابع بابلية جاء تصنيفها من ضمن العشر الأوائل حسب تصنيف مجلة "المكان الآخر" البريطانية، من ضمن منافسة شارك فيها ما يفوق عن المئة وخمسين ألف إسطوانة من قارتي آسيا وأفريقيا، وتُباع حاليا في مواقع التسوق الإلكترونية كالأمازون. في هذا المقال، سأطوف بكم حول مقطوعات الإسطوانة، وأُدخلكم إلى رُدهاتها المُحكمة الجمال، لأُريكم عن قُرْب محتوياتها من الكنوز والغدائر الموسيقية، والمعرفة الإنسانية المُعدّة لتهريب الإبداع من وجه الموت، ووضعه في أحضان الحياة.&
أحمد مختار، ليس موسيقيا وعازفا فقط، وإنما فنانا يستهويه عُمق التاريخ وفلسفة الإنسان على امتداد الحب والسلام والحضارة. فهو باحث وقارئ نهم، يتلذذ بالشعر ويُصادق روحه - فقد طاف العديد من المسارح كعازف مرافق للشاعر مُظفر النواب، وبالإمكان الإطلاع على عمق تجربته مع النواب على الرابط الخاص أسفل المقال - ويغوص في التاريخ والآثار ليستلهم أفكاره الفنية التي يطوعها فيما بعد ليعيد صناعة الوجود بمفاهيم بلورية تستحضر الحياة بدون تشويهات وببساطة تشدّ الأنفاس. عراقي الهوية والروح، يقطن في لندن، ولا يتوانى بالمطلق عن طرق كل الأبواب التي تفتح مسارات السلام والطمأنينة نحو استرجاع عراق حضاري، مُكتمل الأمان، مُختلط الثقافات. مؤخرا، ولا يزال، يشتغل باستحضار روح العراق من عروق التاريخ والآثار التي يتم العثور عليها في وطنه من حضارات تعاقبت على تلك البقعة الجغرافية النابضة، فتعاون مع مجموعة من الباحثين البارعين والمنقبين في الحضارات في الجامعات البريطانية، بالإضافة إلى قراءاته المُكثفة، وسفراته المستمرة للعراق، ونتيجة لهذه الجهود المُضنية جاءت إسطوانة أصابع بابلية لتُسطِّر برشاقة بالغة علاقة مختار بوطنه.&
لندخل في أولى الرُدهات الخاصة بمقطوعة أصابع بابلية، وهي المقطوعة التي تحمل اسمها الإسطوانة، مبنية على طريقة العزف باستخدام أصبع الإبهام والسبابة، والتي استطاع مختار أن يتوصل إليها من خلال أبحاثه كطريقة عزف استخدمها البابليون للعزف على العود الأول، والذي كان أصغر حجما، ليسهل حمله في في الجنازات، والمعابد، والأفراح الشعبية. وفي مقابلة مع مختار يقول، بأنه لاحظ بأن العزف بواسطة الإصبعين يحمل روحية ولمسة خاصة لا تحدث من خلال الريشة، وهو ينوي طرحها في المنهج التعليمي الذي يُدرّس في مدرسة تقاسيم في لندن (يُمكن الاطلاع على نشاطات المدرسة على الرابط الخاص في أسفل المقال)، والتي أسسها أحمد مختار في ال ٢٠١١، وتُعدّ اليوم من أهم المراكز في تعليم الموسيقى العربية. وبعد الإطلاع العميق على الطقوس البابلية، وترجمة بعض القصائد البابلية، اختار مختار مقام النهوند الموسيقي لينسُج نغمات هذه المقطوعة، ووضع فيها إيقاعا داخليا يتحرك على طول مفاصل المقطوعة خالقا نبضا دافئا كافيا لوضع بابل في يومياتينا، أو العكس.
أما في هذه الردهة، فسنرى كيف مزج مختار الموسيقى الشرقية بالقوالب العالمية. نسمع هنا مقطوعة الجاز العراقي التي جاءت لتقدم كوكباً جديدا في فلك الجاز الشرقي. الجاز، هو نمط موسيقي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر بين أفراد الطبقة الأفريقية في أمريكا، كنوع من الثورة والتحرر من العبودية، والانفلات من أرستقراطية الموسيقى وسطوتها، واعتناق جماليتها السائحة في عفوية الروح. ولحدوث الجاز موسيقيا، هناك ثلاثة عوامل على الأقل تحتاج للتضافر: الهارموني (التآلف اللحني)، السنكوب (مخالفة النوتة لضربة الإيقاع؛ بحيث يبدو الإيقاع مجزءاً بشكل متداخل)، والإرتجال على وزن إيقاعي. في حوار مع أحمد مختار، قال لي بأن "التآلف اللحني كان دائماً موجوداً في الموسيقى الشرقية، ولكنّ اتجاهه، بعكس السائد في الموسيقى الغربية، أفقي وليس رأسي، بمعنى أن النغمة تتعلق بما يليها في النوتة الموسيقية فلا تعزف أكثر من نغمة في وقت واحد، ولكن يتم عزف أكثر من مقام بطريقة متداخلة"، والمقامات الموسيقية هو شيء تتميز به الموسيقى الشرقية، فالمقام ببساطة هو السلم الموسيقى، وكل مقام يحتوي على تغييرات طفيفة في السلم، تؤدي لخلق أجواء فريدة وخصائص مختلفة. وقد جاء في رسالة إسحق الكندي في صناعة التأليف، بأن هذا التداخل في العزف المقامي يُسمى بالضفير اللحني، وهو الدخول في مقام والخروج منه لآخر، ثم العودة والخروج، فتصبح الموسيقى مجدولة كضفيرة قوامها قدرة التنوع المقامي في الموسيقى الشرقية وهذا يعادل الهارموني في الموسيقى الغربية. يحقق أحمد مختار هذا العامل عن طريق جدل مقام النهوند بالرست بالسيجاه في ضفيرة ينسجها عزفه على العود، بمرافقة الساكسفون الذي يقوم بالعزف عليه وسام خصّاف، فنرى لمعان مسافات الأرباع الموسيقية بين حركة العود والساكسفون، هذه المسافات الصغيرة (الأرباع) تعطي الموسيقى الشرقية هويتها، وهي غائبة تماما من الموسيقى الغربية، فتوظيف تلك الأرباع الموسيقية في قالب عالمي دون المساس بجوهرها، يعتبر خطوة تنويرية في مجال ابتداع الموسيقى. وعلى امتداد المقطوعة نسمع بالإضافة لتعاقبات المقامات، السنكوبات الإيقاعية والتي تُعلن عن هوية الجاز، ودخول الارتجالات الموزونة إيقاعيا بين العود والسكسفون يُكمل ما تبقى من المعالم. ويكمل مختار سرده لمسيرة هذا النوع من الموسيقى الثائرة في مقطوعة بلوز العود، ويختلف هذا النوع (البلوز) من الموسيقى الحرة عن الجاز في كونه يتقدم أكثر في مساحات الحزن، فنرى مختار يلاعب أوتار عوده على مقام الصبا الشرقي الحزين ليفتح لنا سُبل التأمل في قدرتنا على الحرية.
سأصطحبكم الآن إلى ردهة أخرى حيث نرى فيها مقطوعات تحتفل بثقافة المنطقة ورسوخ جذورها وتداخل ثقافاتها، فنسمع موسيقى الأغنية العراقية الغجرية، والمُرتكزة على القفزات الرباعية فوق آلة العود، وكأنها في رفضها للاستقرار تستحضر التاريخ الغجري المليء بالأسفار والمحطات، وهناك مقطوعة إشراقات الغنية بالتصوف والتي تمتد أصولها لمقطوعة "في المسجد" والتي ألّفها مختار في ال ٢٠٠٥، فمختار تعلّم الكثير من خلال مسيرته الفنية عن جماليات علاقة الموسيقى بالتصوف، وتحديدا حين أتيحت له الفرصة بالمشاركة مع بعض الفرق الحلبية المتصوفة حين كان في سوريا، وفي حوار معه يقول: "أعجبت بطريقة ابن عربي في الاستماع للموسيقى حين قرأت مقولته بأن النغمة لو احتلت مكانها الكوني الصحيح ستحرك الحجر". وتطالعنا بعد ذلك مقطوعة النوروز والتي تُحاكي الاحتفال بأول أيام السنة الزرادشتية، ونوروز تعني يوم جديد، ويقول مختار بأن الحيوية الإيقاعية في هذه المقطوعة قد استلهمها من طقوس الاحتفال الجميلة بهذا العيد، والتي يرقص فيها الجميع بألوان زاهية وعفوية جامحة للفرح. وفي مقابلة معه في راديو مُنتيكارلو (للاستماع للمقابلة، أنظر الرابط الخاص في الأسفل)، يقول بأن هذا التنوع هو محاولة منه لِلَمّ الشمل العراقي عن طريق الموسيقى. وفي خضمّ هذه المحاولة الإنسانية الأصيلة، لا ينسى مختار أن يُلقي التحية على الشاعر العراقي مُظفر النوّاب عن طريق مقطوعة "النورس" والتي انولدت موسيقاها في وجدان مختار، حين قال مظفر:&
سبحانك كل الأشياء رضيت سوى الذل
وأن يوضع قلبي في قفص في بيت السلطان
وقنعت يكون نصيبي في الدنيا كنصيب الطير
ولكن سبحانك حتى الطير لها أوطان
وتعود إليها...وأنا ما زلت أطير
فهذا الوطن الممتد من البحر إلى البحر&
سجون متلاصقة
سجّان يمسك سجّان&
لنتقدم قليلا، لأُريكم ردهة أخرى، قام فيها مختار بوضع مقطوعات باستخدام القالب الموسيقي سماعي - وهو شكل شائع من أشكال التآليف الموسيقية، يُبنى على إيقاع السماعي الثقيل - لخلق ثلاث مقطوعات مُتعطشة للتجديد والابتكار : سماعي حجاز، شهرزاد، منارة. وفي شهرزاد، يُظهر براعة في التمرد على إيقاع القالب ويأخذ في المناورة بين النغمات في داخل اللحن بسرعات لا تتفق مع سرعات القالب التقليدي، والجدير بالذكر بأن مختار هو عازف إيقاع أيضا، مما يساعده على فهم الحيثيات الإيقاعية في السياقات الموسيقية المختلفة. وحول خروجه عن المألوف في استخدام قالب السماعي، عبّر عن احترامه للقوالب الموضوعة واستمتاعه الشديد بسماعها، ولكنه حين يضع الموسيقى فهو يخشى الوقوع في السائد العصي على المرونة والغارق في محدودية التمدد في كثير من الأحيان، لذلك لا يضيع فرصة في محاورة النغمة مهما بلغ منصبها في التراث ليطمئنّ على حاضرها وقدرتها على جِدال المُستقبل. أما سماعي حجاز والمنارة فتتوزعان بين مقام الحجاز والبيات، وترتاحان في أحضان السماعي.&
وفي آخر رُدهاته يُرينا مختار أسلوبه في الحنين إلى الوطن عبر المقطوعتين "أغنية عراقية تراثية" و "أزقة المدينة القديمة"، ففي الأولى تدور أصابع مختار فوق الأوتار لتحاكي أغنية "تاذيني" الفلكلورية العراقية، والتي تقول كلماتها ( تاذيني، يا ولفي ليش تاذيني، فراكَك صعب يهواي، بالكَلب چاويني)، ويقع الوِلْف هنا على استعارة تستدرج عتابا مُركَّبا لرغبة في الغربة غير مرغوب فيها، ارتأى مختار أن يترجمها بمداعباتٍ وترية تقوم مقام الدمعة المُستعدّة للفرار. وفي الثانية، ينحت مُختار أزقة بغداد القديمة في ذاكرته على شكل ارتجالات متأنية، تمشي الهُوينى فوق إيقاع الوحدة الطويلة، وتسلك طريقا يمتد بين مقام النهود ومقام شَتْ عَرَبَانْ، هذه الأزقة التي ما انفكّت تسكن في النبض، وتحضُرُ في هيجان الغربة، لتسنُد الروح.&
إسطوانة أصابع بابلية، جاءت لتضع المفاصل الحضارية، للبوابات التي قد تُساهم في إخراجنا من الفوضى المُدمّرة التي نعيشها اليوم، وأخذنا إلى المروج التي تٓنْبُتُ في طينها الموسيقى، ويزدهر العقل في سبيل التعبير الحر. سأترك ما تبقى من الأفكار والمتعة الوجودية المزروعة بين حنايا تلك المقطوعات في عُهدة الخيال والتأمل، خاتما بمقولة مختار المُمتعة " الموسيقى عُمق إنساني يجب أن نبحث عنها في دواخلنا أولاً"&
ـــــــــــــــــــ
روابط ذات صلة بالمقالة:
تجربة أحمد مُختار مع مُظفر النّواب
&مُقابلة مُختار في راديو مُنتيكارلو
&
التعليقات