&

براعة الأستاذ محمد العزبي الصحفية، وأسلوبه الرشيق في الكتابة، إضافة إلى ذخيرة ذاكرته التي لا تنضب من الأحداث والمواقف عبر سنوات عمره المديد في بلاط صاحبة الجلالة، جعلته بلا أدني شك أحد شيوخ مهنة الصحافة المصرية الحديثة .. وما كتاب "الصحافة والحكم" الذي أصدره قبل أسابيع قليلة إلا تأكيدا لقامته الصحفية العالية وبراعة سرده للأحداث رغم بعده عن الأضواء وزيف الإعلام الكاذب .
هذا الكتاب فيه الكثير من الحكايات الصحفية المصرية الشيقة التي يسردها الأستاذ العزبي عبر النصف قرن الأخير، فهو عايش الحالة السياسية المصرية بكل تقلباتها على مدار الستين سنة الماضية دون أن يتقّلب أو يتغير، وظل ثابت الرأي نزيه الفكر دون أن يغريه أو يرهبه لا ذهب الحاكم ولا سيفه.. لهذا قوبل الكتاب بالترحيب الكبير من زملاء المهنة القدامى والجدد علي اختلاف وتنوع اتجاهاتهم، فالأستاذ العزبي ليس له أعداء بل محبين.
الكتاب هو الثاني في سلسلة كتبه التي يهتم فيها بأمور الصحافة المصرية، فله كتاب سابق عنوانه " كناسة الصحافة" لخص فيه مدي النفاق والزيف الذي يمكن أن تمرره بعض الصحف للقارئ، أما اهتمامه بتاريخ الصحافة المصرية فهو نابع من اهتمامه بمدى عراقتها وتاريخها الذي يهتم به منذ أول جريدة ظهرت في عام 1828 باسم الوقائع المصرية في عهد محمد علي، ثم دار الهلال، والأهرام، والمقطم حتى نصل إلى جريدة الوفد في سنة 1919التي لعبت دورا كبيرا في تاريخ الصحافة الحديثة حتي ظهرت جريدة أخبار اليوم في عهد الملك فاروق ثم الجمهورية التي أسسها عبد الناصر في عام 1953.&
وصف الأستاذ نفسه في احدي مقالته بأن جيله كان مختلفاً وقد تم تشكيله وفقا لقاعدة الرقيب الذاتي والذي ظل مسيطراً عليهم حتى فاجأتهم الثورة ويقصد هنا ثورة 25 يناير، ويعترف بأن جيله القديم والمتحكمين في إصدار الصحف لم يكونوا يعرفون شيئا عن الأجيال الشابة، والصحافة لم تكن جزءا من التغيير. ولابد للأجيال الجديدة من أن تتولى زمام الصحف، ويكون صوتهم مسموعاً في إدارة الصحف، كما يجب أن تكون الصحف رائداً ومعلماً للقراء وأن تلعب دوراً في تشكل الرأي العام الجديد، خاصة في تلك الأوقات التي يتخبط فيها الناس في ضبابية المواقف وغياب الشفافية.
الأستاذ العزبي لمن يعرفه متواضع تواضع النبلاء وأصحاب القامات العالية، الثقة العالية في قدراته المهنية جعلته محبا لصغار الصحفيين قبل كبارهم فهو يقول في كتابه: " كثيرون اكبر مني واصغر مني كان لهم فضل كبير علي واحبهم" ..أتذكر عندما دخلت مكتب الأستاذ العزبي لأول مرة في بداية العمل الصحفي عندما كنا نطوف علي دور الصحف في ذلك الوقت باحثين على من ينشر لنا خبرا أو موضوعا..أن سلمته تحقيقا عن ترميم كتاب " وصف مصر" في ذلك الوقت ووجدته مرحبا بشوشا علي غير عادة من كنا نقابلهم آنذاك من قاطبي الجبين، المنزعجين من زيارتنا أصلاً، وخرجت من عنده وقد اتفقنا علي بداية رحلة العمل معه في" الجازيت" التي انقطعت بعد ذلك بسبب قرار الهجرة إلى ألمانيا لتبقي الذكريات الطيبة:
من أهم صفات الأستاذ أن مكتبه كان مفتوحا على الدوام للجميع ، لا يفرق بين صحفي كبير وآخر صغير، كان يصغي بكل اهتمام للأفكار والمقترحات الجدية وعندما تتعثر الفكرة ينقذها بفيض خبرته وغزارة معلوماته الدعابة وخفة الظل من أسلحته التي التي يستخدمها في كتاباته فينتقد من يشاء بما يشاء، ويتمكن من إيصال رسالته إلى القارئ دون اسفاف أو تجني، لذلك لا تجد له أعداء .
إنه من الصعب الآن أن تقارن بين أسلوبه الراقي وما وصلنا إليه من حال بعض الإعلامين في قنوات رجال الأعمال المصريين .في هذا الإطار وعلى سبيل المثال يقول الأستاذ العزبي في كتابه: سأل أحمد بهاء الدين ممدوح سالم وقت أن كان وزيرا للداخلية وقبل أن يصبح رئيس وزراء ـ لماذا تعتمد أجهزة الأمن علي تقارير يقدمها صحفيون من أسوء الأنواع فاشلين حاقدين كاذبين فأجابه الوزير ايدي علي ايدك هاتلي صحفي ابن ناس وموهوب يرضى يشتغل ناضو رجي!!&
يقول الأستاذ العزبي أيضا " إن أول من كتب اسمه بخط بارز في جريدة الجمهورية كان سعد الدين وهبه وهو أمر لا ينساه الصحفي وأول من أعطاه فرصة عمود يومي كان إبراهيم نوار ومن أعطاه كتابة اليوميات علي الصفحة الأخيرة كان حلمي سلام".. وهي عند الصحفيين ذكريات لا يمكن نسيانها ..لهذا فقد شرفني الأستاذ العزبي يوما عندما أشار إلى احدي مقالاتي في عموده اليومي بجريدة الجمهورية، وقد فوجئت أنه يتابع بدقة كل ما ينشره تلاميذه الصحفيين .
&
سيد حسين رئيس تحرير كتاب الجمهورية الذي طبع كتاب الصحافة والحكم قال في مقال له عن الكتاب " لا هو أراد لنا الضحك ولا منا البكاء" فما لهذا أو ذاك هدف إنما أراد إيقاظ الوعي فهذا كتاب يؤرخ للوطن والصحافة أو الصحافة والوطن فكلاهما جسد واحد.
أما الأستاذ العزبي نفسه فهو ينبه إلى أن عالم الصحافة ليس عالما مثاليا فهو كمفترق الطرق أمام الصحفي فهناك من وصلوا إلى المناصب القيادية دون الموهبة والثقافة وانتهي بهم الأمر إلى مزبلة التاريخ ، وهناك آخرون شرفاء دفعوا الثمن عاليا حتي يبقي ضميرهم واسمهم حي ونظيف.
قرأت للأستاذ العزبي من قبل 3 كتب وهي بلاد تركب الأفيال عن رحلاته الصحفية إلى أسيا وكتاب كناسة الصحافة والكتاب الأخير الصحافة والحكم والكتب الثلاثة عبارة عن مقالات في ذات السياق يتم تجميعها في كتاب فتصبح كطبق فاكهة يلتقط منه القارئ ما يشاء دون إخلال في المضمون، والكتاب الأخير يقع في 240 صفحة تشمل 51 مقال تناولات موضوعات شتي سياسية واجتماعية وأدبية وإنسانية أما الموضوعات الأولي فيه فكانت تهتم بالصحافة وعلاقتها بالسلطة كما ورد في عنوان الكتاب.
&