&
بقلم كه يلان مُحَمَد
&
يُعَدُ المفكر والروائي اللبناني (أمين معلوف) الذي يكتبُ باللغة الفرنسية من القلائل الذين تمكنوا من تجاوز الحزازات الآيدولوجية بأشكالها وألوانها المُختلفة،من هنا تأتي ضرورة دراسة وقراءة أفكاره التي تصبو إلى نزع الشرعية من مروجي الأوهام الذين يزعمون بأن إختلاف الدين والقومية والطائفية ينسف قنوات التواصل ويمنع الإنضواء تحت مباديء مشتركة.
إذ يتمثل هدف صاحب (ليون الأفريقي) له من كتابة &أعماله الروائية ودراساته في إظهار سمو الإنسان وخطأ ترهين قيمة الإنسان بإنتماءات قبلية ، إذا كان غيره يروق له تسويق لمفهوم صراع الحضارات ويعملُ لدق الأسفين بين الشرق والغرب فإن مؤلف (الهويات القاتلة) يحاول نقض هذه النظريات مستنداً إلى وعي عميق بالعوامل التي تُحتمُ وجود تواصل بين حضارتين،
المبدأ الإنساني
&إن وصول أمين معلوف إلى الأكاديمية الفرنسية حيث يشتغل المقعد التاسع والعشرين بعدما غيب الموت سلفه كلود ليفي شتراوس نهاية 2009دليل على أن الأفكار النابعة من المبادىء الإنسانية تسمو على الإنتماءات الفرعية وتجدُ مقامها في المحافل التي تسعى لإيجاد أفق أرحب لتطلعات البشرية،وبما أنَّ أمين معلوف شغوف بالبحث عن الجذور لذلك فهو يروي في كتابه الجديد الصادر من دار الفارابي 2017(مقعد على ضفاف السين) مضيفاً إليه عنواناً توضيحياً أربعة قرون من تاريخ فرنسا،جانباً من حياة أسلافه الذين تعاقبوا على المقعد الذي يشغله الآن ويُلقي الضوء على ما أضافه هؤلاء المفكرون والفلاسفة باعمالهم الأدبية والعلمية إلى دروب المعرفة،كما يضعُ القاريء في التحولات العاصفة التي مرت بها فرنسا وتداعياتها الجسيمة على مسار التطور الفكري زدْ على ذلك ما يكشفه من خلال هذا الكتاب عن تشابك بين الحقول المعرفية والتيارات السياسية إذ تتباين المواقف بهذا الشأن ثمة من لايرى ضيراً أن يجمعَ بين إهتماماته المعرفية والإشتغال في كواليس السياسة كما هو شأن الشخص السادس الذي يشغلُ المقعد التاسع والعشرين أندريه هرقل كاردينال دو فلوري فالأخير كان من رجال الدين ومدرساً للملك وصاحب عقلية سياسية مُحنكة إضافة إلى عضويته في الأكاديمية الفرنسية حيثُ يفتتح أمين معلوف القسم المخصص في كتابه للحديث عن هذه الشخصية بجملة معبرة عن شخصية دوفلوري (ذاك الذي يهمسُ في أذن الملك) من جانب آخر يَذكر الكاتبُ السبب وراء إستبعاد صاحب مسرحية (السيد) كورناي من الأكاديمية مشيراً إلى ما كان يكنهُ &الكاردينال ريشويلو من الكراهية للمؤلف المسرحي مادفع بالقائمين على شؤون الأكاديمية إلى عدم إنتخابه حتى لايُفسر ذلك كأساءة إلى من يُعدُ راعياً لتك المؤسسة العتيدةوبذلك يتضحُ دور العامل السياسي في إنتخاب بعض الشخصيات وإقصاء غيرها،
إنحسار دور رجال الدين
مع إنحسار نفوذ رجال الدين تحت قبة الأكاديمية يبدو أنَّ أصحاب القرار السياسي لم يَعُدْ لهم ما يُمارسون من خلاله السلطة على إختيار الأعضاء الأربعين في الأكاديمية،كما يُقر اللاحقون بجدارة بعض من سبقهم في الأكاديمية وفسر أمر وصولهم إليها أنذاك كنتيجة لتدخلات السلطة السياسية، وهذا مايحصلُ بالنسبة لدو كاليير خامس شخص يشغل المقعد التاسع والعشرين إذ على رغم ماذهب إليه البعض بأنه أصبح عضواً للأكاديمية عقب إطرائه للويس الرابع عشر بيد أن سان سيمون يغدق على دو كاليير المديح واصفاً إياه برجل طيب وبالغ الحصافة،كذلك يتمُ الإعتراف بموهبة (فليب كيتو) في كتابة النصوص الأوبرالية مع أنَّ إنتخابه عضواً في الأكاديمية ماراق لأُدباء عصره بما فيهم بوالو كما طاله نقد رجال الدين متهما مؤلف لون جديد من النصوص الشعرية بالمُفسد لكن الآراء ستتغيرُ بعد عقود ويجدُ (كينو) نصيراً لأعماله ومن ضمنهم فيلسوف التنوير الفرنسي (فولتير).هكذا كان الإعتراض والسخط مُصاحباً لقرارات إختيار الأعضاء الجدد وعندما كان يُفَضَل فرانسو هنري سالامون على كورناي يُعلق الفيلسوف(دالاميير)على ذالك الموقف بكلمات قاسية قائلاً (لقد تعهر عضو الأكاديمية)، لاتنقطع الصلةُ بين سلطة الملك والأكاديمية وكان يستجيبُ الملكُ لمايملي عليه رجال الإكليروس فيما يتعلقُ بالمرشحين لنيل مقاعد الأكاديمية إلى أن رجحت الكفة لصالح الفلاسفة والمفكرين بفضل السيدة دو بومبادور التي ستصبح فلعيا ملكة فرنسا فالأخيرة من أشد المعجبين بالفلاسفة وتقنعُ الملك لويس الخامس عشر من أن لايمنع دخول فولتير إلى الأكاديمية،&
الإختلاف حول الموسيقى
مايجدرُ بالإشارة في هذا السياق أن فرنسا كانت منقسمة قبل قيام الثورة ليس بين حزبين سياسيين إنَّما بين الملحن الألماني كريستوف غلوك ونيكولو بيتشيني وصلت الخصومة بين أنصار هذين اللونين من الموسيقى إلى درجة لا أحدَ يرضى بأن يقابلك &قبل التأكد إن كنت من مؤيدي لوغوك أو بيتشيني حسبما ينقله صاحب الكتاب على لسان زائر إنكليزي إلى باريس.وهذا مايذكرنا بما يقدمه جورج قرم في كتابه (تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب) عن دور الموسيقى في النهوض بالشعوب الأوروبية،صحيح ليس كل من صار عضواً في الأكاديمية تركَ وراءه إرثاً سواء على المستوى العلمي والأدبي لكن يوجدُ بين من شغل المقعد التاسع والعشرين أسماء لاتزالُ مؤلفاتهم تُدرسُ على أرقى مستويات أكاديمية (فرانسو دوكاليير) هو واحد من هؤلاء بعدما يقرأُ (جون كينث غالبريث) وهو أحد أبرز المفكرين المؤثرين في القرن العشرين كتاب (دوكاليير) المعنون ب(أسلوب التفاوض) يعقبُ بقوله (يتساءلُ المرءُ ماذا يمكنُ أن يقال بعد بهذا الشأن) يضاف بيير فلورانس أيضاً إلى النخبة التي ساهمت في الدفع بعجلة العلم نحو مرحلة جديدة إذ يُعدُ فلورانس من طليعة الباحثين الذين فطن إلى خصائص الكلوروفوم بل يعزى إليه إكتشاف التخدير وإنتشاره في المجال الطبي،هنا لاينقلُ لك أمين معلوف عما أنجزه فلورنس فقط بل يقارن بين مسار التطور العلمي المتدرج وما أبدعه الإنسان على الصعيد الأدبي والفني ويكشف بأنَّه يصعب إنتساب أي مكسب على الصعيد العلمي إلى شخص بعينه إنَّما مايتوصلُ إليه الإنسان من تطورات علمية ليس إلا نتيجة لتراكمات سابقة كما لاتأتي نظرية جديدة إلا لتنقض ماسبقها من أفكار ونظريات أخرى بينما الأمر في عالم الأدب يختلف إذ مهما تقادمت الأزمان على النصوص الأدبية أو على المنحوتات التي أنجزتها الحضارات السابقة لاتغيب أبعادها الجمالية كما لايمكن أن نجد لها بديلاً فيما يقدومه الأدباء الجدد والفنانون المعاصرون،يُدونُ أمين معلوف بجانب توثيقه لتجربة الأعضاء الذين شغلوا المقعد التاسع والعشرين نتفاً من الوقائع التي تُعتبرُ مفصلية في تاريخ فرنسا مثل إلغاء لويس الرابع عشر لمرسوم نانت في 1685وعلى إثر هذا القرار نزح البروتستانت بأعداد كبيرة إلى دول أوربية أخرى،كما تشهد فرنسا حملةً ضد اليسوعيين وتغلق مؤسساتهم وتصادرُ أملاكهم سنة 1763،بالمقابل تحتفي باريس بعودة الفيلسوف العقلاني فولتير وينضمُ الأخير إلى المحفل الماسوني في إطار إحتفال مهيب،هذا ويتلفت أمين معلوف إلى إلغاء الأكاديمية الفنرسية سنة 1793 بموجب مرسوم صادر من المؤتمر الوطني، ويصفُ الكاتبُ ما مرت به فرنسا بالجموح الدموي إذ لم تُعفِ هذه الموجة حتى بعض شخصيات إستلهمها الثُوار أمثال غرار كوندروسي الذي إنتحر قبل أن يُشنق على مرأي الجماهير،كما يتوقف الكاتب عند مرحلة ماسُميت بكومونة باريس وإمتداداتها على مستقبل فرنسا، ويلقى شبحُ الإحتلال النازي بظلاله على الأكاديمية حيث غيب الموتُ بعض أعضائها دون إنتخاب من يحلَ مكانهم وإختارقسمُ منهم الإقامة المنفى،ما يمنحُ هذا الكتاب مزيداً من التشويق أن مؤلفه يأخذ من كل شخصية ماهو أساسي في محطات حياته فهو عندما يبحثُ عن حياة أول من شغل المقعد بيار باردان يقول ماترك شيأً وراءه غير شجاعته حين أنقذ تلميذه من الموت وضحى بنفسه،فضلاً عن ذلك لاينسى الجانب العاطفي في حياة أسلافه الذين تجمعهم به هوية معرفية، الأكثر من ذلك يعرضُ صاحب (التائهون) بالتفصيل الظروف التي نشأت في ظلها الأكاديمية فهذه المؤسسة العريقة هي ثمرة لحلقة نقاش مجموعة من الأصدقاء المهتمين بشؤون الأدب ساندها أقوى رجل في فرنسا الكاردينال ريشوليو إلى أن أصبحت صرحاً أكاديميا عريقاً،يذكر أمين معلوف أن كتابه جزءاً من دين يسدده لجوزيف ميشو فالأخير كان مهتماً بالتاريخ زار مصرواليونان والأناضول وكتب عن تاريخ الحروب الصليبية.
&