قد تكون الرقابة التي تمارسها بعض الأنظمة والدول على أفراد ومؤسسات ضرورية لأمنها القومي، إلا أنها حين تنتهك خصوصية المواطنين فتتجسس على حميمياتهم وعلاقاتهم الجنسية والاجتماعية فهنا تكون تجاوزت دورها.
إيلاف: بعدما سرّب إدوارد سنودن، الذي كان يعمل مع وكالة المخابرات المركزية ووكالة الأمن القومي الأميركيتين آلاف الوثائق السرية جدًا، التي كشفت عن وجود برامج مراقبة سرية تنفذها الحكومة الأميركية ومؤسساتها، بالتعاون أحيانًا مع شركات متخصصة في التكنولوجيا والاتصالات، سارعت الحكومة الأميركية إلى تبرير هذه البرامج، واتخذت عددًا من الإجراءات لإضفاء صبغة الشرعية والشفافية عليها، فيما اتخذت الشركات موقفًا دفاعيًا، وحاولت تبرير تعاونها مع الجهات الحكومية، والنأي بنفسها عن هذه المسؤولية.&
من جهته، أدلى الكونغرس الأميركي بدلوه في هذه القضية هو الآخر، واتخذ عددًا من القرارات الهادفة إلى الحدّ من انتهاك الخصوصية.
وفي بريطانيا، التي تواجه هي الأخرى قضايا مشابهة، أصدر البرلمان في خريف عام 2016 تشريعًا حدّد فيه معايير لما يمكن لأجهزة المراقبة فعله أو عدم فعله، وثبت بعض الإجراءات، التي على أجهزة الأمن القيام بها، قبل جمع المعلومات وبعدها.
الخصوصيات منتهكة
ممارسات أجهزة الأمن والمخابرات الأميركية والبريطانية وتاريخها جمعها رودري جيفريز جونز، المتخصص في التاريخ الأميركي والأستاذ الفخري في جامعة إدنبره في إسكتلندا، في كتاب عنونه بـ "نعرف كل شيء عنك: قصة المراقبة في بريطانيا وأميركا"، وشرح فيه ملابسات ما يسمّيها عمليات "تجسس على نطاق واسع" تجري في زمننا المعاصر، وسرد قصة المراقبة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة منذ بدايات القرن الثامن عشر حتى اليوم.&
ما يميّز هذا الكتاب هو أنه لا يركّز على موضوع المراقبة التي تمارسها الأجهزة الحكومية، بل على الدور الذي تؤدّيه شركات القطاع الخاص في مجال انتهاك خصوصية الأفراد.
بيانات عن أصحاب القروض
يقول الكاتب إن مهمة المراقبة لا تنجزها المؤسسات الحكومية فحسب، بل هناك لاعبون آخرون يشاركون فيها، لا سيما في عصرنا الحالي. فهناك مواقع التواصل الاجتماعي ومكائن البحث وشركات الهواتف الجوالة، وهي بإمكانها كلها متابعة الأفراد وتحركاتهم وعلاقاتهم واهتماماتهم .. الخ.
يعود الكاتب قليلًا إلى الوراء، ويروي كيف أن مالكي الأراضي الزراعية الضخمة في الجنوب الأميركي كانوا قبل الحرب الأهلية يكلفون رجالًا من البيض بمراقبة تحركات السود وبجمع معلومات عنهم، تحسبًا لاحتمال تمرّدهم.
في نيويورك، كان لويس تابان أول من أنشأ مكتبًا لمنح القروض في عام 1841، وأسس أيضًا أول قاعدة بيانات تخصّ المقترضين وأصولهم العرقية والمهن التي يمارسونها وتاريخهم وعمرهم ومدى إدمانهم على احتساء المشروبات الحكومية، بل وحتى ميولهم الجنسية، وذلك بهدف التأكد من منح القروض إلى أشخاص يمكن الاطمئنان إليهم.
تعاون "هوليوود"
مع تطور الحركة الصناعية أخذت الشركات الخاصة تراقب النقابات والاتحادات العمالية. ويروي الكاتب قصصًا مذهلة عن شركات أميركية وبريطانية تستخدم محققين خاصين للتجسس على العمّال، ولتشخيص الأفراد الذين يعملون على تنظيمهم. بالنتيجة يخسر هؤلاء الأفراد، الذين عادة ما يتم وصفهم بكونهم مخرّبي وظائفهم وأشغالهم، ويحرمون من العمل في أي مكان.
يروي الكاتب كيف أن إستوديوهات هوليوود كانت تبلغ المحققين الحكوميين في خمسينات القرن الماضي بتحركات من تعتبرهم مخرّبين شيوعيين، وهو ما دمّر حياة عدد لا يعدّ ولا يحصى من كتاب السيناريو والمخرجين والممثلين .. إلخ. & & & & &
دخلت الصحافة اللعبة هي الأخرى، حيث يكشف الكاتب ما فعلته صحيفة "أخبار العالم" البريطانية، التي لاحقت أسرة تبحث عن ابنتها، التي فقدت في عام 2002، فتابعت حركة أفرادها، والتقطت صورًا لهم من دون علمهم، بل ونجحت في الدخول على البريد الصوتي لهاتف الطفلة المفقودة.
ضرر مطلق
يرى الكاتب هنا أن الضرر الذي تسببه المؤسسات الخاصة للناس بشكل يومي يفوق ما تسببه الأجهزة الحكومية رغم أن البعض يحتجّ على هذا الاستنتاج، لكون الدولة عادة ما تستخدم المعلومات التي تحصل عليها عن طريق المراقبة لسجن أشخاص أو ربما قتلهم بشكل غير قانوني.
مع ذلك هناك اتفاق على أن عمليات المراقبة، سواء كانت حكومية أو من جانب القطاع الخاص، تمثل انتهاكًا لحرية الفرد، كما تمثل خطرًا، لا سيما إذا ما أسيء استخدام المعلومات التي يتم الحصول عليها من جانب واحد، أو بالتنسيق بين طرفين أو أكثر. &
يشرح الكاتب كيف أن التعاون بين الجانبين الحكومي والأهلي يصل إلى مستوى تبادل التقنيات. ويروي قصة ضابط في الجيش الأميركي، يُدعى رالف فان ديمان، أرسل في مهمة إلى الفلبين في نهاية القرن التاسع عشر، فقام بتطوير نظام خاص يصنف المعلومات ويفهرسها بطريقة تسمح للقادة الأميركيين بتحديد هويات المتمردين. وبعد انتهاء عمله في الجيش، قدم خدماته إلى صناعيي كاليفورنيا للسيطرة على اتحادات العمال. وكان يرسل أشخاصًا إلى اجتماعات عمّالية للتجسس على المشاركين، ورفع تقارير عمّا يجري. وعندما توفي في عام 1952، ترك وراءه لائحة تحوي أكثر من 125 ألف اسم لمن يسمّون بالمخربين.
الرابطة الاقتصادية
قصة أخرى يتطرق إليها الكاتب هي قصة وليم ريجينالد هول، وهو ضابط مخابرات بريطاني، كان مسؤولًا عن وحدة تعمل على فك رموز الشيفرات خلال الحرب العالمية الأولى. وبعد انتهاء عمله هذا، قام بإنشاء مجموعة خاصة، أصبحت تعرف باسم "الرابطة الاقتصادية"، وهي منظمة قوية وذات نفوذ تضم صناعيين وأرباب عمل، وكانت مهمتها ملاحقة الناشطين في النقابات العمالية، ووضع أسمائهم في لوائح سود تصدر من شركات القطاع الخاص.
&
ولم يعرف عدد العمال الذين فقدوا أشغالهم أو لم يحصلوا على عمل كنتيجة لنشاط هذه الرابطة. &
&مد وجزر
يرى الكاتب أن التعاون بين القطاعين الحكومي والخاص في مجال المراقبة وجمع المعلومات مر بحالات عديدة من المد والجزر، فمثلًا رفضت مؤسسة ويسترن يونيون في عام 1919 السماح لوكالة الحجرة السوداء التابعة للحكومة الأميركية، والمسؤولة عن فك الشيفرات بالإطلاع على نصوص التلغراف خلال عبورها المحيط الأطلسي. مع ذلك، انتهت ويسترن يونيون وشركات التلغراف الأخرى في نهاية العام نفسه بالخضوع لرغبة الجهات الحكومية ولخطط المراقبة التي كانت تنفذها. &
ويصل الكاتب إلى فترة ما بين الحربين العالميتين، عندما تراجع التعاون بين الحكومة والقطاع الخاص بعض الشيء، قبل أن يستعيد عافيته في أربعينات القرن الماضي، في إطار ما عرف باسم مشروع شامروك، الذي سمح للحكومة الأميركية بالإطلاع على مئات الآلاف من رسائل التلغراف التي يتبادلها أشخاص من داخل الولايات المتحدة مع آخرين في الخارج. وقد استمر العمل في هذا المشروع لعقود قبل الكشف عنه في السبعينات.&
ضرورية لكن&مبالغ فيها
ثم، وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، أظهرت الشركات الخاصة تعاونًا كبيرًا مع المؤسسات الحكومية، غير أنها أخذت تتراجع، وتنأى بنفسها بعض الشيء، بعد تسريبات إدوارد سنودن. &
يعطي كتاب جونز صورة متكاملة عن عالم المراقبة والتتبع وعن علاقة شركات القطاع الخاص بأجهزة الأمن الحكومية، لكنه لا يستطيع وضع حدود تميّز بين ممارسات مراقبة ضرورية من أجل الحفاظ على أمن البلاد والمواطنين، وما هو زائد على حده. وهي مسألة في غاية الصعوبة في نهاية الأمر.
أعدت "إيلاف" هذا التقرير نقلًا عن "foreignaffairs". الأصل منشور على الرابط
https://www.foreignaffairs.com/reviews/review-essay/2017-10-16/public-and-private-eyes
&
التعليقات