ترجمة: كامل السعدون
ذات يوم عثر أطفالٌ يلعبون في وادٍ غير ذي زرعٍ على شيء ذو شكل شبيه بحبة القمح لكنه بحجم بيضة الدجاجة.& أجتمع الأطفال حول هذا الشيء الغريب يتبادلونه وهم مستغربين.
في ذات الحين مرّ عابر سبيلٍ بالجمع وتساءل عما لديهم فأروه هذا الشيء فقال أتبيعونه، ونفحهم مبلغا حسنا من المال ففرحوا واقتسموا المبلغ وهرولوا صوب الدكان لشراء الحلوى.
أما عابر السبيل فقد فرك يديه فرحا وهو يُمني النفس بصفقة رابحة مع ملك البلاد ذاته.
غمرت جلالة الملك الشجاع الحكيم فرحةٌ غامرةٌ لهذه التحفة الغريبة، ودفع للبائع ما يليق بجلالته أولا ثم بغرابة وطرافة الُلقية الفاخرة، وبعث من ساعته بالحاجب لجمع مستشاريه وتلك سجية الملوك الحكماء، فاجتمعوا عنده في الحال ومكثوا دهرا يتبادلون ذلك الشيء الشبيه البيض وكُل يُدلي برأي ولم يحصل أتفاق فواقعُ الحال، ليس فيهم من رأى مثل هذا الشيء من قبل.&
ولم يُعرف سرّ تلك التحفة فأُكرمت بأن وُضعت في نافذة من نوافذ القصر، ولحسن الحظ، كانت النافذة في الطابق السُفلي المُطلّ على حدائق الملك وهناك اجتمعت مُختلف الطيور الداجنة من دجاج وإوز وبطّ وخلافه، وذات يوم تسللت دجاجة فضولية الى النافذة وشرعت بنقر الشيء الشبيه بالبيضة فانفلقت تلك، وساعتها هرول المستشارون صوب الملك هاتفين بصوت واحد: إنها حبة قمح عجيبة يا مولانا المعظم.
صعق الملك من هول المفاجأة، وبالحال طلب من الخبراء في مملكته البحث عمن يعرف أين وكيف ومتى كانت حبة القمح بمثل هذا الحجم.&
عكفوا أولئك على كُتبهم وخرائطهم والمراجع التاريخية واستشاروا بدورهم المراجع الدينية الموقرّة، فلم تسعفهم هذه وتلك بما يفكّ لُغزَ تلك الحبة فعادوا الى الملك خائبين:
- لم نجد يا مولانا في صحائفنا ما يُجلي السرّ عن هذه الحبة الغريبة." ثم تشاوروا وتهامسوا واتفقوا على رأي".
-يا مولانا، ما وجدنا في كُتبنا ذكراً لمثل هذه الحبة المباركة البتة، لكننا بعد إذنُك نقترحُ ما قد يكشف السرّ.
-وماذا تقترحون يا أساتذة؟
-نقترح يا مولاي أن تسأل أهل الاختصاص فلا شكّ أن عندهم القول الفصلْ، نعني الفلاحون وأسرهم.&
- نعم الرأي هذا، هاتوا أقدم الفلاحين في المملكة.
وجاءه حرس القصر برجل عجوز طاعن في السن، فعرض عليه حبة القمح، لكن الرجل بالكاد رآها، اخذها براحة كفّه، قلّبها بين يديه.
- أين تعتقد أن مثل هذا القمح ينمو يا شيخ؟ هل سبق لكَ أن اشتريت أو بذرت مثل هذا في أرضك.
كان العجوز ضعيف السمع وبالكاد فهم مرمى السؤال فأجاب.
-لم أرى في عهد اشتغالي بالزراعة مثل هذا الحبّ ولا عرفُ أحد في عصري زرع أو جنى مثل هذا، لكن ربما كان ذلك في عهد أبي أطال الله بقائه، أسألوه فربما يعرف ما لا أعرف...!
دُهَش الملك لهذا الرد، أو أبيك لا زال حيا يرزق؟
-نعم يا مولاي بكامل الصحة والعافية ولله الحمد...!
-حسنا هاتوا أبا الشيخ في الحال.
&وهرع الجُند ثانية باحثين عن الرجل. وجاءوا بالرجُل وكان يبدو أصغر عمراً وأحدّ سمعا وإن كان يمشي برفقة عكاز واحد، فإن خطوه كان متزنا ومشيه أسرع من أبيه.
وعرض عليه الملك حبةُ القمح سائلا:
- أرأيت أو سمعت أو حصدت أو زرعت أو اشتريت أو بعت مثل هذا من قبل؟
-لا يا سيدي، أنا لم أزرع أو أحصد أو أبيع أو أشتري مثل هذا، لأن النقود لم توجد ولا استُعملت في زمننا. كل واحد يزرع في حقله والكل يتبادلون منتجاتهم مع بعض ومن يملك يعطي لمن لا يملك، أما عن هذه الحبّة فلم أرى بمثل حجمها في زمني، إنما قياساً لما في هذا الزمن ما كان لدينا أكبر مما لديكم في يومكم هذا، لكن يا مولاي ربما من المُستحسن أن تسألوا أبي أدام الله بقائه.
-ماذا...أبيك؟ سأل الملك وقد أوشك على الانفجار من الضحك.
-نعم يا سيدي أبي الحبيب، أطال الله عُمرهْ.
حسناً...حسناً، إلينا بجدّ الشيخ الأول، وجاءوا به، وكان مستقيم الظهر، قوي البنية، حاد البصر والسمع، تناول الحبّة وأحتضنها بحُبّ.
-منذ زمنٍ بعيد لم أرى مثل هذه الحبّة، قضم منها قضمه صغيرة وتذوقها بلهفة غامرة.&
-هذه من حبوبنا يا مولاي.
- خبرني يا جدّي، " قال الملك"، متى وأين كانت تنمو مثل هذه الحبوب؟ هل سبق لك أن اشتريت منها، أو بذرت منها؟
- يا مولاي، مثل هذا كان ينمو في كل مكان في زمننا، أنا عشت على مثل هذا في شبابي.&
-خبرني يا جدّي، هل اشتريته من مكان ما، أو زرعته بنفسك؟
أبتسم العجوز.&
- في زمننا لا أحد فكر بارتكاب خطيئة بيع أو شراء الخبز، ولم نكن نعرف شيئا عن النقود، وكل واحد كان لديه كفايته من القمح.
- حسنا، خبرني يا شيخ، أين كان حقلك الذي زرعت فيه مثل هذا الحبّ؟
- حقلي؟ " أبتسم بأدب وأجاب على ذات سؤاله" " يا مولاي كُل أرض الله أرضي يومذاك" تنهّد وعقّبْ" يومئذ كنا نزرع مجتمعين ونحصد مجتمعين ونأكل مجتمعين، وكان الله يرعانا لأننا كُنّا نحب بعضنا البعض ونشكر الله على نعمهِ صبحا وعشية، فكان الرزق وفير والسعادة تغمر الجميع والحُب يظللنا بظله".
&
التعليقات