سيرة جديدة للناشط الأميركي هنري ثورو صدرت أخيرًا تحكي عن تعلقه الشديد بالطبيعة بكل ما فيها من أشحار وغابات وحيوانات وطيور حتى اتهمته جماعات مسيحية أصولية بالكفر عندما نادى بمعاملة أخلاقية واحدة لكل الكائنات الحية.
إيلاف: مرت أكثر من 50 سنة على نشر آخر سيرة حياة مستفيضة للكاتب والفيلسوف والناشط الاجتماعي الأميركي هنري ديفيد ثورو، وتأتي سيرة حياته الجديدة التي كتبتها لورا داساو وولز Henry David Thoreau, A Life "هنري ديفيد ثورو ـ حياة"، (المكون من 615 صفحة، منشورات جامعة شيكاغو برس، سعر النسخة 35 $، تأتي في أوانها.
كان ثورو الذي عاش في القرن التاسع عشر صاحب رؤية سحرته عجائب العالم الطبيعي. وهو الذي مهد التربة لظهور حقل معرفي أصبح معروفًا باسم الإيكولوجيا أو علم البيئة.
مرجع تاريخي
كما كان من أول الداعين إلى إنشاء محميات للطبيعة والحيوانات البرية، ومن أشد المدافعين عن معاملة كل الكائنات الحية معاملة أخلاقية. وتبنى ثورو أحكام ديانات شرقية مستنزلًا عليه غضب الأصوليين المسيحيين الذين اتهموه بالكفر.
كان ثورو ناشطًا ضد العبودية ويسعى إلى إلغائها |
نذر ثورو نفسه للعلم، وكتب 12 مجلدًا من الملاحظات عن الأميركيين الأصليين في شمال شرق الولايات المتحدة، ودوَّن بدقة تواريخ ازدهار النباتات التي أصبحت سجلًا مهمًا في زمن التغير المناخي اليوم، وأجرى أبحاثًا ريادية عن توارث الأشجار في الغابات المحروقة أو التي قُطعت أشجارها. وحين سُئل ثورو ذات مرة عن سبب اهتمامه الذي لا يفتر بالأشياء، أجاب: "وماذا هناك غير ذلك في الحياة؟".
يقول الكاتب الأميركي فين مونتان الفائز بجائزة بوليتزر أن سيرة حياة ثورو الجديدة لا تترك شكًا لدى القارئ في الموقف الذي كان ثورو سيتخذه من الإدارة الأميركية الحالية المعبأة بأشخاص ينكرون علم الفيزياء الثابت لارتفاع حرارة الأرض، متوقعًا أن ثورو لو كان حيًا، لامتشق قلمه، ومسح بهم الأرض، وربما نزل إلى الشوارع للتظاهر احتجاجًا.
عريس الطبيعة!
كان ثورو المولود قبل 200 عام من الفلاسفة الداعين إلى حساب النتائج الأخلاقية لأفعال المرء. لذلك يمكن أن نتخيل بسهولة ماذا سيقول عمّن يتعبدون على محراب الوقود الأحفوري إزاء الأدلة التي تؤكد أن حرقه بدأ يخلّ باستقرار المناخ وإيقاع المواسم نفسها، بحسب مونتان.
ترسم وولز، أستاذة الأدب الانكليزي في جامعة نوتردام الأميركية، صورة مؤثرة لرجل فذ وشخصية مركبة. وتبيّن وولزان ثورو الذي لم يتزوج قط (قال "إن الطبيعة كلها عروسي")، وتوفي عن 44 عامًا، لم يكن يعيش في صومعة معزولًا عن العالم، كما أراد البعض تصويره. بل كان قامة شامخة في الحياة الفكرية لمدينة كونكورد في ولاية ماسيشوسيتس، وقام بدور مهم في عدد من الأحداث الكبرى في زمنه، وخاصة النضال من أجل إلغاء العبودية.
من الفصول الجميلة لكتاب وولز الفصل، الذي يعيدنا إلى أميركا في النصف الأول من القرن التاسع، حين كانت لم تزل هناك بقايا من ثقافة السكان الأصليين في شمال شرق الولايات المتحدة، وعندما كانت غابات نيو إنغلاند تُدمَّر، وأنهارها تُغلق بالسدود، وكان الموت بكل مرض يخطر على بال مقيمًا على الدوام.
اعتكاف بناء
درس ثورو، المولود لأم متحررة، وأب أصبح صانع أقلام ناجحًا، درس في جامعة هارفرد، التي تخرج منها مفكرًا يجيد خمس لغات على الأقل. وحين عاد إلى مدينته كونكورد، تأثر بالشاعر والكاتب رالف والدو إيمرسون، مؤسس مذهب التسامي، الذي كان يؤمن بأن في كل فرد شرارة إلهية، وتقع على عاتقه مسؤولية تنمية الجوانب السامية من طبيعته. اقترح إيمرسون على ثورو أن يعتكف ويكتب يوميات، فوافق الشاب، وكتب في النهاية أكثر من مليوني كلمة في يومياته وكتبه وتقاريره ومقالاته.
أصاب ثورو في منتصف العشرينات من عمره بعض النجاح في نشر مقالات، كان بعضها يستند إلى رحلاته في ولايتي ماين وماسيشوسيتس. وكانت هذه المقالات بداية عمل جعل ثورو رائدًا في ما تُسمى اليوم الكتابة عن الطبيعة.
لكن ثورو كان يريد أن يكون رائدًا من نمط مغاير. وهكذا قرر أن يكتب عن عجائب الطبيعة. وبنى على شواطئ بحيرة والدن بوند في مدينته كونكورد كوخًا من غرفة واحدة، وفي 4 يوليو 1845 انتقل ثورو إلى كوخ، واستهل يومياته بعبارة: "أمس جئتُ إلى هنا كي أحيا".
محاربة العبودية
بعدما غادر ثورو كوخه في والدن بوند، استمر في الكتابة وإلقاء المحاضرات. وكان مع أفراد عائلته ناشطين في حركة إلغاء العبودية. رفض ثورو أن يدفع ضريبة الأفراد، وأمضى ليلة في السجن، لأنه كان يعتقد أن ما يُجبى من ضرائب يموّل عنف العبودية، المدعوم من الدولة، وإساءة معاملة المكسيكيين والأميركيين الأصليين.
كان ثورو يحتاج الطبيعة كحاجته إلى الأوكسجين. وفي كتاب كان يشتغل عليه استعدادًا لنشره، كتب حين نهش التدرن الرئوي صدره "في الفلاة يكون الحفاظ على العالم".
توفي ثورو مرتاح الضمير. وحين سألته إحدى قريباته إن تصالح مع الله ، أجاب: "لم أكن أعرف أننا تخاصمنا ذات يوم". وقبل يوم على وفاة ثورو، زاره صديق قديم، ذكر أنه سمع طيورًا تغرّد في الطريق إليه. فأجاب ثورو هامسًا: "إن هذا عالم جميل، لكني سأرى عالمًا أجمل عمّا قريب. كم أحب الطبيعة".
التعليقات