فى هذه البقعة من الصعيد الأدنى كانت بؤونة وأبيب هى شهور الدميرة الصعبة، حيث يصعد النهر ويغمر كل الشريط الضامر المحصور بين النهر والجبل وتنعدم أو تكاد الحاجة الى أى نوع من العمالة، فلا زرع ولا ضرع ولاحصاد وتخيم على الجميع سحابة بؤس قاتمه، وبحثا عن عمل يرحل كل من يستطيع شمالا أو جنوبا والبعض يتوغل شرقا فى المدقات الجبلية الوعرة على ظهور دوابهم مع بعض المؤن ومعدات التنقيب البسيطة بحثا عن عروق الملح المترسبة فى التكوينات الصخرية ،ويعودوا بعد يومين أو ثلاث بقليل من فصوص الملح الجبلى لبيعه فى اسواق القرى المجاورة بقروش زهيدة وأحيانا لايعودوا والروايات كثيرة عمن ابتلعهم الجبل وأكلتهم الذئاب.
تحت النخلة اليتيمة التى يملكها على الجسر وقتلا للوقت جلس صاحبنا يلعب الدومينو مع جاره احيانا تسلية واحيانا برهانات مؤجلة لحين ميسرة ، ولحظه القليل تراكمت ديون الرهانات عليه لجاره الذى عرض ان يقايض تلك الديون بالنخلة لكنه رفض بشدة فقد كانت الوحيدة التى تبقت من كرم ورثه عن أبيه ظل يبيع منه كل دميرة حتى لم يتبق منه سوى تلك الوحيدة التى يستطيع الجلوس تحتها يلعب الدومينو ولا يسأله أحد ناهيك عن ثمارها الصفراء الرطبة التى يبيعها فى مسرى ويدخل جيبه اول جنيه فى نهاية سارة لايام الدميرة الصعبة ، جاره الأعزب داعبه بالتلميح بامكان اعتبار النخلة مهرا يتزوج به اخته ، تظاهر برفض المداعبة لكن جاره كررها بشئ من الجديه مما جعل الفكرة تلمع فى ذهنه من شدة وجاهتها فهو سيصطاد عصفورين بضربة واحدة سيحتفظ بالنخلة ويزوج اخته.
كان التباين الحاد فى الأحوال بين ضفتى النهر يصعب وصفه فكان لفظ (الشرق ) عند سكان (الغرب ) مرادف لحالة العدم حيث وادى ظل الموت الجبانات والمدافن والفقر المدقع ، عكس الحال فى (الغرب ) حيث المدينة والكهرباء والصخب والشوارع والمقاهى الساهرة ودار السينما ، والمنطقة لايوجد بها أى أثر لدولة أو نظام فلا تواجد لسلطة أو مرفق خدمة أو أى نوع من مظاهر مجتمع منظم ،والقرية الصغيرة كانت أقرب الى نجع بيوتها لاتزيد عن العشرين وهى تخص احد الاسر من الأعيان الذى كانوا يملكون معظم أراضى المنطقة، وأقرب مجتمع لها كانت خيام لبعض البدو تحت سفح الجبل، والوسيلة الوحيدة لعبور النهر كانت بعض القوارب الخشبىة المتهالكة ، ومع فوران النهر تتباعد ضفتاه ويصبح عبوره مخاطرة غير مأمونه .
عادت أخته فى أجازة قصيرة حيث تعمل لدى احدى الأسر الثرية فى (الغرب) زف اليها خبر مشروع زواجها من جارهم لكنه فوجئ بتجهم وجهها فهى تعرف جارهم جيدا فهو لايجيد سوى لعب القمار ثم أنها سعيدة بعملها فى (الغرب) تأكل وتشرب وتنام تحت سقف ويغازلها أحد العاملين فى حديقة مخدومها وربما يتزوجها ، أعلنت رفضها للفكرة أولا لأنها لاتحب العيش فى (الشرق) تحت سفح هذا الجبل الموحش المملوء بالجبانات وتزدحم فى رأسها ذكريات بؤس أيام الدميرة ،ثم أنها تعتقد أنها تستحق مهرا حقيقيا وليس رهانا سوف يعيرها به طيلة العمر بأنه كسبها فى مقامرة ،رجت أخيها بأن يصرف نظر عن الفكرة وسوف تتحدث الى مخدومها ليجد له عملا ويستقروا معا فى (الغرب) ،قلب الفكرة فى رأسه ولما لا وهو لم يعد يملك شيئا وخصوصا بعد أن لم يستطيع التملص من تسليم النخلة لجاره لأن الرهان كان بشهود وأعجبه اقتراحها فهو يتوق الى العيش فى (الغرب) .
فى الصباح جمعا اغراضهما البسيطة وفى الطريق ودع النخلة الأخيرة من كرم أبيه وركبا القارب لعبور النهر وبين الضفتين رآها من بعيد لأول مرة كم هى جميلة ومتناسقة وطويلة لم يرها كذلك من قبل ،وغشت قلبه موجة ندم عارمة وود لو يعود كان القارب فى منتصف المسافة بين الضفتين تقريبا بدأ يتململ وتذكر أن جلسته تحت النخلة لن تعود حتى لوعاد الى الشرق فلم يعد يملك النخلة والمجهول الذى ينتظره على الضفة الأخرى غائم مجرد وعود ، شعرت أخته باضطرابه أمسكت بيده لكنه أفلت منها وقفز فى النهر علا صراخ أخته وبقية ركاب القارب لكن تيارالنهر الهادر سحبه الى الشمال طفا مرتان أو ثلاث لم يصرخ ولم يظهر أنه يبدى مقاومة ثم اختفى ولا أحد يعلم أين رست جثته فى الشرق أو فى( الغرب ) .