اجرى اللقاء: توفيق التونجي
تمكن الرهبان المسيحيون وعبر التاريخ من ترك بصمات واضحة في ثقافات شعوب الشرق. وبذلك خدموا الادب والثقافة العربية في المنطقة. الأب الخوري دانيال يجمعني معه الكثير فعرفتي به تعود الى ما يقارب ثلاث عقود خلت. معرفة وصداقة هذا الإنسان الكريم والقس الطيب المحب للأدب والمعرفة. يجمعنا الكثير ابتداء من محبة وطننا الصغير كركوك ونلتقي في إنسانيتنا ومحبتنا للحياة والبشر ومن دعاة السلام.على كوكبنا الأرضي. سكنًا في نفس الحي وزرته في صومعته في الكنيسة الصغيرة وسط المدينة حيث كان راعيا لها. تحاورنا في أمور الدنيا ومعنى الحياة ومجريات الأمور في اوطاننا. وجدته موسوعيا كما عودنا الرهبان المسيحيون ك الأب انستاس الكرملي ، السروجي ، الأنطاكي ، الرهاوي ، عبد المسيح الكندي و الآخرون وحبه بل ولعه بالتاريخ والتراث وطبعا اللغة. هذا الشغف الذي دفعه الى الابحار في اللغة الارامية ليعلم الأجيال القادمة هذه اللغة التاريخية القديمة. التقيته على ضفاف بحيرة الرهبان وسط مدينة يونشوبنك المكنى ب أورشليم السويد لنتحاور فسألته:
- هناك من يدعى بان لهجة أهل العراق من المسيحين ، الآرامية شرقية وهي احدى أقرب اللهجات الى اللغة التي كان يتحدث بها نبينا المسيح عليه الصلاة والسلام.فما رايك بهذا الادعاء. يجيبني مبتسما:
- هذا صحيح لان اليهود بعد عودتهم من الاسر البابلي عام 539 قبل الميلاد الذي استمر سبعون سنة كانوا يتكلمون لغة بابل التي كانت آنئذ خليط من السومرية الاكدية والاشورية والتي سميت فيما بعد بالارامية الشرقية لكونها استخدمت من قبل سكان بلاد الرافدين الساكنين في الجانب الشرقي من نهر الفرات لفرزها عن الآرامية الغربية التي كانت تستخدم من قبل الناس الساكنين على الجانب الغربي من نهر الفرات والفرق بين اللغتين هو في لفظ الكلمات فقط. وقد سميت اللغة بالسريانية بعد الفتح العربي الاسلامي لتلك البلاد. الكلمة السريانية تعريب لكلمة سورايا المشتقة بدورها من كلمة سيروس وسيريا اليونانية والتي كان اليونان يطلقونها على الامبراطورية الاشورية.
- اللغة العربية الحديثة والقديمة تحتوي على العديد من الكلمات من الآرامية القديمة وهذا طبيعي لان اللغات حية وتتطور وتتأثر باللغات المجاورة والقريبة هل تعتقد يمكن للمرء اليوم وبسهولة اعادة تلك الكمات الى اصولها وجذورها.
- نعم ، نعم هناك الكثير من الكلمات الآرامية دخلت الى اللغة العربية لا بل قد يذهب البعض الى القول بان اللغة العربية هي احدى بنات اللغة الآرامية كاللغة التجرينية التي تتكلم بها بعض القبائل في الصومال واثيوبيا وغيرها. والجدير بالذكر ان كلمة "عربي" مشتقة من الكلمة الارامية "عارابا" والتي تعني الصحراء وكلمة "عارابايا" هي صفة النسبة في اللغة الارامية ومعناها العربي وبالتالي تعني الصحراوي. هذا من جهة، ومن الجهة الثانية يمكننا اعادة الكثير من الكلمات العربية الى اصولها الارامية فعلى سبيل المثال لا الحصر كلمة "سورة" متأتية من كلمة سِفْرا والتي تعني "كتاب" وكلمة "صلوة" متأتية من كلمة "صلوتا" والتي تعني الصلاة. وكلمة "خبصة" المستخدمة من قبل عرب العراق هي "حْباصا" في اللغة الارامية وجذر الفعل المشتقة منه هو "خْباصْ" ويعني "زاحمَ".
- اعتمدت معظم الديانات على النص المقدس وتحولت اللغة الى عامل مهم في نشر المبادئ الأساسية للأديان كالعبرية والعربية والإعجاز اللغوي القرآني دليل على ذلك . لماذا لم تتطور اللغة الدينية السريانية الى لغة دينية عالمية بل بقت محلية وأخذت اللاتينية محلها كلغة عبادة.
- كانت اللغة وما زالت الوسيلة التي بها يقوم الناس بنقل افكارهم وعلومهم وآدابهم ومشاعرهم لبعضهم البعض والافكار الدينية وتعليماتها لا تشذ عن هذه القاعدة. انا لا اعتقد بوجود لغة دينية لكن الانسان عبر عن فكره الديني بنفس مستوى اللغة التي وصل اليها في الزمان والمكان المحددين وكلما تطورت اللغة وتوسعت وجب ان يتطور التعبير الديني ايضاً. لان الدين ليس عبارة عن اوامر ونواهي جامدة ومتحجرة بل مفاهيم عميقة هدفها تقديم الاجوبة على التساؤلات الاساسية حول الوجود والحياة في حاضرها ومستقبلها من جهة وارساء قواعد السلوك الجيد والاخلاق الحميدة في التعامل مع الاخرين ومع الله الخالق من الجهة الاخرى. اما لماذا لم تتطور اللغة السريانية مثل اللغة اللاتينية فالسبب يعود الى ان اللغة السريانية فقدت حاضنتها السياسية المتمثلة بالدولة والحكم نتيجة الفتح العربي الاسلامي لبلاد الرافدين والشام وفرض اللغة العربية وجعلها لغة الحكم. اما اللاتينية فقد ظلت لغة الدولة الرومانية التي تزاوجت مع الكنيسة في اوربا وحكمت الكثير من البلدان الاوربية الى وقت قريب عندما بدأت اللغات المحلية مثل الايطالية والفرنسية والاسبانية وغيرها تأخذ مكانها نتيجة استقلال تلك البلدان عن الامبراطورية الرومانية.
- هل نتمكن من الادعاء بوجود لغة مشتركة لمسيحي الشرق بطوائفها المتعددة أم ان الانتماء الطائفي أعطى زخما لتبني اللهجات دون الأخذ باللغة الأساسية.
- نعم ما زالت اللغة الآرامية بفرعيها الشرقي والغربي مستعمل في طقوس ومراسيم الكثير من الكنائس الشرقية. وما زال الكثير من المسيحيين الشرقيين يتكلمون بلهجات متعددة منها.
- تعليمك ودراستك الدينية وممارستك للمهام الدينية أخذك الى بلاد عديدة اعتقد ان دراستك الدينية كانت في إيطاليا حدثنا عن سفر حياتكم هذا.
- لقد ولدت وترعرت في عائلة مسيحية غير ممارسة للدين حيث الشعور القومي الاشوري العلماني كان يطغو على الشعور الديني فيها ولكن عند بلوغي السن الثانية عشر شعرت بالميل الى الامور الدينية والحياة الروحية لذا بدأت بالتردد الى الكنيسة وحضور الصلوات والقداديس. ونمت عندي الرغبة في ان اصبح رجل دين ولكن واجهت رفضاً شديداً من قبل الوالد وافراد العائلة لعدة سنوات لكن بعد انهائي المدرسة المتوسطة وانتقالي الى المرحلة الاعدادية منحني والدي موافقته في التردد على دروس الخاصة بإعداد رجال الدين اولاً في مدينتي كركوك وبعد انهائي الدراسة الاعدادية اكملت دراستي الدينية في احدى الجامعات في مدينة روما في ايطاليا حيث تخرجت في عام 1973 وعدت الى العراق وعينت قسيسساً ومدرساً للفلسفة والمنطق في معهد اعداد القسس في بغداد وبعدها رجعت الى كركوك وعملت فيها الى عام 1981 حيث انتقلت الى دهوك وقدمت هناك خدمتي الدينية الى عام 1992 حيث ارسلت الى الولايات المتحدة وبقيت في كاليفورنيا لما يقارب السنتين بعدها انتقلت الى السويد وخدمت في مدينة يونشوبنك ولنشوبنك ونورشوبينك وفي عام 2016 تقاعدت من الخدمة لبلوغي السن القانونية للتقاعد وعدم مقدرتي مواصلة الخدمة الاضافية لأسباب صحية. وقد اكتسبت خبرة كبيرة طيلة تلك السنين نتيجة احتكاكي بشعوب وثقافات مختلفة وصار عندي ولع في تعلم اللغات المختلفة مثل اللاتينية والايطالية والانكليزية والفرنسية والالمانية اضافة الى لغتي الام والعربية والتركية واخيرا السويدية. حيث اقمت الطقوس الدينية باللغة الآرامية والعربية والفرنسية والانكليزية والايطالية.
- للكنائس دور اجتماعي مهم خاصة في دول المهجر وقد تجمع حولكم ابناء الجالية المهاجرة خلال سنين طويلة الدول المستقبلة للمهاجرين يشكون دوما من عدم تكامل المهاجر مع المجتمعات الجديدة مما يودي الى ما يسمى صدمة ثقافية حدثنا عن تجربتك في هذا المضمار.
- صحيح ان للكنيسة دور اجتماعي وروحي وتشكل احدى نقاط التجمع للمهاجرين في دول المهجر كما في الوطن الام. وانا شخصياً حاولت دائماً عدم الانغلاق في المحيط الضيق للكنيسة والطائفة بل الانفتاح على المجتمع الجديد في دولة المهجر لذا اقمت علاقات جيدة جداً مع الكنائس والمؤسسات الثقافية في السويد وشجعت ابناء الرعية على القيام بذلك والتأقلم مع المجتمع الذي يعيشون فيه والتمتع بقدر كبير من المرونة تاركين جانباً التمسك الاعمى بالعادات والتقاليد القديمة والانفتاح على تقاليد البلد الذي يعيشون فيه لكن دون الانصهار فيه والانسلاخ عن الهوية الاصلية.
- لو تسنى لك تقديم نصيحة للجيل الجديد كيف تكون تلك النصيحة.
- نصيحتي هي الانفتاح على الثقافات الاخرى مع عدم ترك الهوية الاصلية.
بهذه الكلمات نودع الاب الصالح دانيال متمنين له الصحة ودوام الابداع حيث يقوم بتدريس اللغة السريانية طوعياعلى اليو توب,
التعليقات