.. ثمة تسارع مطرد في توالي الإشارات على ذهن ديفيد، الأمر أشبه بشيفرات التلغراف زمن الحرب، فلقد باتت ذاكرته قاب أقل من قوس من كشف هوية الجثة التي بدأ يحاورها منذ ساعتين. ها قد تملكه للتو ذاك الإحساس الذي يسبق مباشرة قرب كشف شيء ما لطالما ظل متخفيا، تملكه حد التشويش على مجريات المقابلة، فكان كلما استشعر أنه سيكشف "هويته" إلا وشتت كوفيد انتباهه أو صرفه بعيدا إلى غير ذلك.

وهو كذلك، بدأ ديفيد يحاول قراءة مجريات المقابلة الجارية، متسائلا عن استراتيجيته خلالها.. أيحاصر هذا الوحش الساكن في جثة ليست له بالأسئلة، أم يتركه لأن يزل لسانه ببعض من الحقيقة؟! .. لا سيما وقد انطلق منذ قليل في غمرة حنين، لا يدري من أين أتى، جعله يروي قسطا من ماضي طفولته وفتوته.. ما هذا! هذا الذي يبدو هادئا جدا، يجيب على الأسئلة وكأنه سمعها من قبل، بل ويعرض مشيحا بوجهه يمينا صوب النافذة حين يثير بعضها سأما خفي الظهور، أو يعيد صياغة بعضها قبل أن يشرع في الإجابة، أو يغير بعضها الآخر كلية.

اتسع مجال ملاحظة ديفيد أيضا ليشمل ما يدور في "رأس" كوفيد حول مخاطبه، وإن لم يستطع الخروج بنتائج ذات بال.. عدا بعض الاستغراب، الخفي أيضا، من بعض ردود فعل هذا البشري الذي لا يقل غموضا عنه.. إذ يبدو أن اختياره أصابه ندا له!

ووسط كل هذا كان ديفيد يلعن أشعة الشمس تارة، ويرجوها تارة أخرى أن تسرع في زوالها، فهي تفوت عليه الكثير الكثير، مضفية هالة أضحى هذا الكائن المجهري في غنى عنها، إذ لا حديث اليوم يعلو ذكره، ليواصل مسترسلا في طرحه:

- إنكم تعانون أزمة مفاهيمية، أوصلكم إليها غروركم ورعونتكم، حتى لم يعد أحد منكم يتصور أن ثمة شيئا قد يضع حدا لكل هذا.

- وماذا إذا؟! أيكون الحد النهاية مثلا؟

- جواب جيد سيد ديفيد.. لم لا؟! ما دام احتماله واردا! ولنعد إلى المفاهيم، فبعضها ثنائي بالضرورة، وإن أصر البشر على وجود احتمال ثالث. هناك الصوت والصمت، الموت والحياة، البداية والنهاية، فلِم لا يكون هذا شكلا من أشكال النهاية مثلا.. أعلم أن الأدبيات الدينية

تخلق لكم سبلا أخرى هي في الحقيقة سبل روحية معنوية فقط، لا أكثر ولا أقل! أنتم لم تستوعبوا بعد حتى معنى حياة محدودة، فأنى لكم معنى شيء مركب معقد كالخلود؟! ثم من قال إن النهاية والحساب يكونان بالضرورة هنالك.. في مكان ما.. في السماء! الأمر لا يستقيم لا ماديا ولا روحيا! فأجسامكم أثقل من الطيور، وأروحاكم أثقل بكثير من أرواح الملائكة.. بينما الوحيدة التي تقبل بثقلكم هي التي عنها لا تنفصلون، والتي ضاقت هي الأخرى ذرعا بكم!

- .. على ذكر الطقوس الدينية، مررنا بعيد الفصح، ورمضان على الأبواب، فما الرسالة من وراء كنائس بلا مؤمنين وجوامع تخلو من المصلين؟

- كان لا بد من ذلك لتخفيف الضجيج كما ذكرت، فالإيمان- أيا كان- لم يكن يوما أمرا سيئا. لكن شرط أن يكون فرديا وتأمليا واختياريا، ولا عقيدة من العقائد الكبرى- المتراقصة بغرابة في اسمك مثلا- تحترم ولو شرطا واحدا منها. لذا، ولكي يكون الفصل مثمرا، كان لا بد من إرجاع الأمور إلى أصلها.. ولا داعي في هذا الصدد للتذكير مرة أخرى بما تسبب فيه خرق الشروط تلك عبر التاريخ، وإلى هاته الساعة نفسها، من مآس لا يتورع البعض منكم عن الافتخار بها!

- .. إن كنت تلوم علينا "فساد منطقنا"، كما ذكرت، فالنتيجة معروفة سلفا ألا وهي فشلنا جميعا.. لا سيما مع إصرارك على إغراقنا في خضم هذه "اللاأدرية القهرية"! فما الفائدة حينها، أو ما الهدف من كل هذا؟

- .. ألا تؤمنون أن الحساب لصيق دوما بالنهاية؟! ثم إن الهدف واضح، ألا وهو تلقينكم آخر درس، وأن تجتازوا آخر اختبار لكم.. وطبعا ثمة أشياء كثيرة مهمة في أي اختبار اختبار، ليس لا النجاح ولا الفشل أولها ولا آخرها.

- ألا ترى أن الأمر مشكل، إذ إن "الاختبار" هذا فردي، يجرد فيه المرء من كل شيء، بما في ذلك طاقته الروحية التي تعود على نمط محدد منها. بينما هو جماعي في الآن ذاته، فمن الواضح أنك اخترت أن تكون له نتيجة واحدة.. لا نتائج متعددة؟!

- هذا من صلب طبيعة الاختبار، كما أن له صلة وثيقة دائما وأبدا بالمفاهيم.. مفاهيم مثل "الاتحاد" و"المتحدة"، في واقعكم اليوم، بابت تصلح للتندر فقط.. لدى من ما زالوا يمتلكون بعض القدرة على ذلك. ثم إنكم تبدؤون دوما بخلط المفاهيم قبل حتى أن تحاولوا فهمها، زاعمين في ذلك أن لا شر يكمن في الخير، وأن لا جيد قد يأتي من سيئ!

- هل لك أن توضح الأمر أكثر سيد كوفيد؟

- حسنا، إن خيرتني الآن- وأنا في جسد بشري- بين هوى شيوعي ونزعة رأسمالية، فإني قطعا لن أختار الثانية. لكن انحيازي هذا للفقراء الذي يملؤون الأرض لن يمنعني أبدا، وعلى سبيل المثال، من الالتفات إلى رأي وجيه جدا لأحد منظري الرأسمالية، والقائل إن مشكلة الفقراء الأساسية ليست في خلو جيوبهم من الأموال، بل هي في افتقارهم الدائم إلى الأفكار.. على أن

هذا بدوره لن يمنعني أبدا من رفض قبول تسليع الأفكار وتحجيمها في مجرد نشاطات، بلا روح، تدر الدخل.

بدأت حوارنا بانتقادات لاذعة لعقلكم المتحجر، وها أنا ذا أعود لأذكر بذلك مبرزا أن أشد ما تفتقرون إليه هو المرونة.. وانظر بنفسك الآن، ما إن أحكمت قبضتي على تلابيب رؤوس الرأسمالية حتى هرعت هذه الأنظمة، وبدون جدال وإضاعة وقت، إلى تبني إجراءات شيوعية محضة، بدل أن تحتفل كل عام بسقوط جدار فصل بين معسكرين.. ضاحكة على ذقون الجياع عبر العالم. إنكم أوغاد بامتياز، ولو لم أغير أرقام مؤشرات أسواق المال بأخرى تخص عدد الإصابات والوفيات، تسوطن شاشاتكم، لما ألقى منكم أحد بال إلي ما ذكرت.

- لكنا بالمقابل في أغلبنا بسطاء، ولا يريد أحدنا سوى العيش بحب وسلام.

- .. ماذا؟! أقلت حبا وسلاما!

حسنا، لنبدأ بالعنصر الثاني: السلام. هل تظن أن الاقتصاد العالمي، كما كان قبل مجيئي، يستطيع الاستغناء عن "الأرباح" الطائلة التي يجنيها من هندسة الحرب؟!

أما فيما يخص الحب.. حسنا، دع ملاحقتك المحمومة لكلماتي، فهي لن تهرب على أية حال، وخذ جانبا من ورقتك. سأراهنك رهانا لا يجرؤ على خوضه حتى أشد مقامريكم تهورا، إن كسبتَه أعدك بالرحيل فورا.. وليس هذا فحسب، بل وسأعيد من أخذت حياتهم إلى الحياة وبدون استثناء:

اكتب عشرة أسماء من محيطك أو معارفك ممن تعرفهم حق المعرفة، هكذا بشكل عشوائي، ثم اكتب أمام كل اسم ما إذا كان صاحبه أو صاحبته من المؤمنين حقا وصدقا بالحب، أو لا. إن حصلت على خمسة فقط من عشرة، أرحل.

حسنا.. ما النتيجة لديك؟!