(1 – 2)

تبقى موضوعة "الآخر" بالنسبة اليّ من ضمن المواضيع الثقافية الاثيرة والمحببة؛ هي التى لطالما استهوتني معرفياً. واعترف باني شغوف بها ومولع "بثيمتها"، حتى اني الفت كتابا عنونته <العمارة، بصفتها قبولا للآخر>، ونشرته باللغة الانكليزية سنة 2012 مدرسة العمارة في كوبنهاغن، حيث كنت اعمل فيها باحثا معماريا. وقد اتاحت، في الآونة الاخيرة، مناهج النقد الحداثية، المغرم بالاطلاع عليها والتعلم من مقارباتها، الى تكريس ظاهرة "الآخر" في الخطاب الابستيمولوجي المعاصر، وتبيان تعددية الرؤى والاساليب حول تلك الظاهرة المعرفية. واعزو، شخصياً، بعض مسوغات انتشار مناهج الثقافة الحاصل وتسريع نتائجها المؤثرة في الخطاب، الى مفهوم تقبل الآخر والتعرف عليه والاعتراف بمنجزه المعرفي والتعلم منه. كما لا يخفى من ان حضور "الآخر" بين ظُهْرَانَيْنَا يُتمم <انا>تنا. اذ (وكما اظهرت بعض المناهج المعرفية الرصينة) من دون وجود "الآخر"، لن يكون ثمة وجود "للانا" او "للذات"، وبالتالي غياب مفهوم "التثاقف" المثري للمعرفة الانسانية. فالذات هي التى تولد الآخر، واحيانا تخلقه اختلاقا لجهة ترسيخ ذلك الحضور في المشهد! معلوم ان رمزية "الانا والآخر"، يقصد بها تمثيلاً للثقافات المختلفة ايضاً. وفي هذا الصدد، فان اكتمال معادلة "الانا والآخر"، وتبيان علاقتهما المتكافئة مرهون دوما - كما اشرت الى ذلك مرة- "بحضور حالتين: اولهما التحقق من عدم تسيّد او افضلية ثقافة على آخرى، وثانياً، التسليم بظاهرة اوجه الاختلاف بين تلك الثقافات ليتسنى بعد ذلك الدنو بسلاسة من تخوم المشاركة الفعالة. ويعد حضور هاتين الحالتين امراً لا مندوحة منه لجهة اتمام مفهوم عملية التثاقف بصيغتها الابداعية". (انظر كتابنا: تناص معماري، دمشق 2007، ص. 19).
في احد كتبه الممتعة يثير عالم الأنثروبولوجيا وعلم الأعراق الفرنسي الشهير "كلود ليفي – ستروس" <احيانا يُكتب ستراوس> (1908 – 2009) Claude Levi-Strauss، يثير نوعية العلاقة بين الثقافات المختلفة، وتحديدا علاقة الثقافة الغربية مع الثقافات الآخرى، المبنية على فكرة نبذ الآخر ورفضه والغائه تماما. في كتابه "حكاية القط البري" The Story of Lynx (الصادر في باريس سنة 1991، وطبعته الانكليزية في 1995)، يصل العالم الفرنسي المرموق الى نتيجة مأساوية مفادها ان فعل "تدمير الآخر ورفضه بدوّا على الدوام منخرطين في – بل يشكلان جزءا اساسياً من – الحضارات الغربية، منذ العصور الوسطى في الاقل. لقد الغى الغرب الآخر: الغاه في اسبانيا كما الغاه في اميركا. الغاه – باختصار- في كل مكان تمكن من ان يلغيه فيه". وفي كتابه الآخر "الفكر الوحشي" يشيرهذا العالم الجليل الى الطريقة التى بها تعامل الغرب الاسباني – المسيحي مع سكان اميركا الاصليين (وكذلك مع المسلمين الاندلسيين بعد سقوط غرناطة)، حيث كان تصرف الغرب تصرف مستعمر حقيقي، اذ عمدت الحضارة الغربية الى تركيز جنودها ومصارفها ومنشآتها وجمعياتها التبشرية في انحاء العالم كافة. كما انها تدخلت بصورة مباشرة، او غير مباشرة في حياة السكان الاصليين محدثة انقلاباً في نمط عيشهم التقليدي.... لقد دمروا، خصوصاً، كل ما هو
جميل ورائع: دمروا ونهبوا ثم وقفوا يزعمون انهم وصلوا الى ارض خواء لا حضارة فيها ولا حياة". (نقلا عن ابراهيم العريس، تراث الانسان: الف عام من العمران، 2018، البحرين، ص. 133-137).
ثمة شهادة استثنائية في أهمية موضوعها، وفي ابداع شكلها الفني، تكاد تكون "بيّنة" صريحة على ما اقترفه الغزاة الاسبان، "كممثلي" الحضارة الغربية اثناء غزوهم في الثلث الاول من القرن السادس عشر لامريكا اللاتينية، وتحديدا مناطق غرب القارة، حيث كانت هناك حضارة "الانكا" ومملكتها الواسعة. وهذة "الشهادة" عرضتها قبل فترة "المكتبة الملكية" في كوبنهاغن، ضمن محتويات معرض فني فريد، اقتصر على صفحات مصورة لمخطوطة "مدونة فيليب غومان بوما دي ايالا" Felipe Guman Poma de Ayala، او ما يعرف بـ "سجل بوما التاريخي" The Poma Chronicle . والسجل اياه، او المدونة، هي في الواقع سرد لتاريخ منطقة الانديز منذ العصور القديمة بالاضافة الى سلسلة من الاصلاحات المقترحة للحكم الاستعماري الاسباني. تحتوي المدونة على 1200 صفحة مكتوبة بخط اليد باللغة الاسبانية وبعضها مكتوب ايضا بلغة "الكيشوا" وهي احدى اللغات المحلية. ومن ضمن تلك الصفحات هناك 400 صفحة موشحة برسوم تخطيطية رسمها وكتبها جميعا في الاعوام 1612 -1615 في بيرو "فيليب غوما"، وهو احد المواطنين المحليين، وولد في عائلة نبيلة من الانكا، كما عمل مترجماً الى رجال الدين الاسبان والحكومة الكولونيالية.
تحتوي المدونة على جزئين اساسين، اولهما يدعى (التاريخ الحديث) وفيه يقدم "غوما" معلومات مفيدة عن حضارات ما قبل الانكا وعن زمن الانكا، والقسم الثاني دُعي بـ (الحكم الرشيد)، وفيه يصف المؤلف الظلم الذي وقع على افراد الانكا ومعاناتهم تحت الحكم الاسباني الكونوليالي وصنوف الاستغلال والاساءات التى يتعرض لها افراد جلدته، كما يعرض في تلك المدونة مقترحات واضحة للتاج الاسباني عن اصلاحات اجتماعية وحكومية يتعين القيام بها في الاقاليم الاسبانية الكونوليالية. وكان من المفروض تسليم هذه المدونة الى الملك الاسباني "فيليب الثالث" (1578 – 1621)، بيد ان ليس من ثمة مؤشر قاطع يدلل بوصول هذه المدونة الى ايدي الملك شخصيا، رغم ان "غاما" سلمها باليد الى نائب الملك في "ليما". (جدير بالذكر، وكما يعتقد بعض الدارسين، بان حتى لو تم تسليم تلك المدونة الى الملك، فمن الصعب بمكان توقع حصول اجراءات ملموسة كما تنادي بها المدونة، ذلك لان الملك نفسه كان منخرطا في مهام "النفور" من <الآخرين>، وعزلهم وابعادهم من وطنهم، باصداره مرسوم في 1609 بطرد جميع الموريسكيين (المسلمين الاسبان) من البلاد، يايعاز وتشجيع من كبير اساقفة بلنسية في حينها، بعد اتهامهم بالبقاء على دين ابائهم!). وبطريقة ما وصلت مخطوطة "مدونة غوما" الى اوربا لاحقا، وربما كانت لفترة قصيرة من مقتنيات مكتبة الملك فردريك الثالث في وقت مبكر من سنة 1660. ثم ظلت مختفية عن الانظار لفترة طويلة لحين الحصول عليها من قبل دبلوماسي دانمركي وجلبها الى الدانمرك وامست منذ عام 1908 من مقتنيات المكتبة الملكية في كوبنهاغن. ودائما كانت توصف بانها المصدر الوحيد لوجهة نظر الامريكيين الاصليين من منطقة الانديز عن الغزو الاسباني والتغير الكارثي الذي احدثه في بيرو ومجاوراته في العقود التالية. وفي عام 2007، اعترفت منظمة اليونسكو "بالمدونة"، كجزء من التراث الثقافي العالمي غير القابل للتصرف.
جدير بالتنويه، ان حضارة "الانكا"، التى تمثل انجازاتها الثقافية والحضارية بمثابة مرجعية لتك المدونة، هي الحضارة التى انتشرت وسادت ما بين 1438 – 1533 في مناطق غرب قارة امريكا اللاتينية من كولومبيا الحالية وحتى نهر "ماولي" في شيلي، بضمنها الدول الحديثة بيرو وبوليفيا واكوادور واقسام من شيلي والارجنتين وكولومبيا. وكان البرتغالي "أليخو جارسيا" أول أوروبي تسلل إلى إمبراطورية الإنكا عام
1525. بعد ذلك فرض الغزاة الأسبان في عام 1533، السيطرة على معظم الإمبراطورية، وفي عام 1572 لم تعد دولة الإنكا موجودة.
يُبين البحث الأثري أن الإنكا ورثوا عددًا كبيرًا من الإنجازات من الحضارات السابقة ، وكذلك من الشعوب المجاورة التابعة لهم. وبحلول الوقت الذي ظهرت فيه الإنكا في الساحة التاريخية في أمريكا الجنوبية، كان هناك عدد من الحضارات التى يعود تاريخها الى الالف الثالث قبل الميلاد. شيد الإنكا الكثير من المباني والقصور والمعابد والمدن الرائعة. وتشتهر عمارة الإنكا بشكل خاص بطريقتها المميزة في رصف الحجارة معًا باحكام، بحيث يكون نصل السكين غير قادر على المرور فيما بين تلك الاحجار المرصوفة! قام الإنكا ببناء العديد من المعابد للتضحية ، حيث اعتقدوا أنها الطريقة الوحيدة لإرضاء الآلهة، لكن معظم المعابد المتبقية اليوم هي أطلال. وسكان الانكا، عادة، ينتشرون في العديد من القرى المختلفة، اذ ان القليل منهم "النخبة على وجه التحديد" يعيشون في المدن الكبرى. وفيها عاش بشكل رئيسي المسؤولون والحكام ورجال الدين. وكانت المدن مكانا لتجمع المناسبات الدينية، التى تجري فيها تقديم التضحيات الدينية (بما في ذلك اللامات ، وليس الناس) لإله الشمس. اعتمدت مجتمعات الانكا على الزراعة باستخدام اساليب زراعية مثل الري ونظام السدود. كما كانت تربية الحيونات وصيد الاسمكاك من الانشطة الهامة التى يقومون بها. كما اعتمدت هذة المجتمعات على تبادل واعادة توزيع الثروات، حيث انها لم تكن تعرف المال او الاسواق في ذلك الوقت. □□

معمار وأكاديمي

الصور:

1- مخطوطة "مدونة غوما" (1612 -1615)

2- مشهد من معرض في المكتبة الملكية في كوبنهاغن.

3- لوحة تخطيطية مرسومة من مخطوطة "مدونة غوما".

4- مشهد من معرض في المكتبة الملكية في كوبنهاغن.

5- مشهد من معرض في المكتبة الملكية في كوبنهاغن.