مع انتشار وباء كورونا، واستفحال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، يطلّ من جديد شبح الفقر الذي قد يضرب أعدادا هائلة من الناس في جميع أنحاء العالم، ليجد الكثيرون منهم أنفسهم مهددين بالجوع، وبالبطالة تماما مثلما كان الحال مع الأزمة الكبيرة التي اجتاحت البلدان الرأسمالية عام1929 .
ويحفل تاريخ الآداب المعاصرة بالعديد من الروايات التي رسمت صورا مرعبة عن أحوال الفقراء في أوقات الأزمات العسيرة. ورواية "المساكين" من أشهر هذه الروايات. وقد كتب دستويفسكي هذه الرواية عام1844 بعد تخرجه مهندسا من الجامعة، وكان آنذاك في سن العشرين. وفي تلك الفترة المبكرة من حياته، كان متأثرا بغوغول وبوشكين وبالزاك. وكان متأثرا أيضا بالأفكار الاشتراكية التي كانت رائجة في أوساط الانتلجنسيا الروسية في ذلك الوقت. والرواية التي تدور أحداثها في مدينة سانت بطرسبورغ هي من البداية إلى النهاية عبارة عن رسائل متبادلة بين عجوز متقاعد يدعى ماكار ديفوشكين، وفتاة شابة تدعى فارفارا دوبروسيلوفا. والاثنان يرتبطان بعلاقة قرابة بعيدة ، لكن ما يجمع بينهما هو الفقر الذي يعيشه كل واحد منها، والوحدة القاسية التي يعانيان منها يوميا.
ويقيم ماكار في مطبخ شقة واسعة مع العديد من الأشخاص الآخرين. لذلك تكثر الخصومات بينه وبين هؤلاء الذين يعكرون مزاجه في الليل ، وفي النهار، حارمين إيّاه من أن ينعم ولو بلحظة واحدة من الهدوء. وفي رسائله، هو يصف لفافارا عذاباته اليومية لكنه ينهي رسائله دائما بكلمات توحي بالأمل والتفاؤل. ولكي يخفّف عنها همومها وأحزانها كان ييرسل لها من حين لآخر هدايا صغيرة قد تكون حلوى أو قميصا اشتراه بثمن بخس من الأسواق القديمة. وأما فارفارا فتقيم في العمارة المواجهة للعمارة التي يقيم فيها ماكار ديفوشكين. وهي جميلة لكنها ترفض أن تبيع جسدها للمحافظ على شرفها، متحملة مختلف أنواع البؤس المسلطة عليها حتى انها تجد نفسها أحيانا عاجزة عن شراء الخبز، أو غطاء يحميها من برد الشتاء اللاذع. ومن خلال الرسائل المتبادلة بينها وبين قريبها العجوز، يقدم لنا دستويفسكي صورة عن الأوضاع الصعبة والمأساوية التي كانت تعيشها الفئات الفقيرة والمعدمة في روسيا في ظل النظام القيصري الذي أسقطته الثورة البلشفية عام 1917. وقد أشاد كبار النقاد الروس برواية "المساكين" إذ وصفها ألكسندر هرزن بّأول رواية اشتراكية". وأما بيلنسكي الذي كان يخشاه جميع الكتاب الروس فقد خاطب دستويفسكي عند لقائه به قائلا :" هل أنت تفهم جيدا، أيها الشاب، حقيقة ما كتبت؟ لا ، ليس باستطاعتك أن تفهمها...إنها تثبت موهبة فنية عالية وسامية، وأنا على يقين أنك سوف تكون كاتبا كبيرا"...
وفي روايته "جارمينال" الشهيرة هي أيضا، يصور لنا الفرنسي اميل زولا معاناة عمال مناجم الفحم في بداية الثورة الصناعية، كاشفا لنا من خلالهم توحش الرأسمالية التي لا هدف لها سوى الربح حتى ولو أدى بها ذلك إلى الدوس على أبسط القيم الأخلاقية والإنسانية. بطل الرواية شاب يدعى إتيان لانتيي. بعد أن يطرد من عمله في باريس، ينطلق ليعمل في مناجم الفحم في أقصى الشمال الفرنسي. وهناك يحتك بالعمال ليعيش معهم العذابات والمظالم اليومية المسلطة عليهم من قبل أرباب العمل. لكن ذات يوم ينفجر غضب ايتيان لانتيي، فيقود اضرابا عاما لم يسبق له مثل، ويتحول إلى قائد لثورة العمال الذين أصبح يراهم على صورة "جيش أسود" يبشر بثورة عارمة تجعل الأرض "تتفجّرُ بولادات جديدة"...
وفي رائعته "الجوع"، يعود بنا كنوت هامسون إلى بلاده النرويج قبل أن تصبح غنية ليغوص بنا في سراديب وأقبية الحياة البائسة التي كان يعيشها فقراء الناس، خصوصا العاطلين عن العمل. بطل هذه الرواية صحافي يجد نفسه ذات يوم مطرودا من عمله. وها هو يتسكع في شوارع مدينة كريستينا التي هي أوسلو، من دون أن يجد ما يسد الرمق. وعلى مدى أشهر طويلة، يظل هذا الصحفي الشاب يكابد الجوع يوميا حتى أنه يشرف على فقدان الصواب. ولعل الفرنسي اندريه جيد كان على حق عندما كتب عن رواية "الجوع" يقول :" نحن نتصفّح هذا الكتاب الغريب، وبعد حين من الزمن تدمع عيوننا، وتتلطّخ أصابعنا بالدم، وتهتز قلوبنا فزعا، ومرارة...الجوع هو الموضوع الرئيس لهذا الكتاب مقترنا بالاضطرابات النفسية الناتجة عن الحرمان المتواصل"...
وأما في الأدب العربي، فلعل رواية " الخبز الحافي" للمغربي محمد شكري هي الأبلغ تعبيرا عم مآسي الجوع والفقر. ففي هذه الرواية الآسرة، هو يروي لنا أحوال فقراء بلاده من خلال سيرته الشقية حيث أجبرت عائلته على مغادرة قرية "بني شكر" في منطقة الريف، شمال المغرب، لتستقر في أحياء طنجة البائسة حيث الفقر والجوع والجريمة والعنف اليومي. وتبدأ رواية "الخبز الحافي" ببكاء الشقيق الأصغر لمحمد شكري الذي يعاني من البرد والجوع. وحين يضيق الأب ببكائه وشهيقه المتواصل يهجم عليه ليحنق أنفساه. وبعدها يفر محمد شكري من البيت مفضلا أن يكابد الجوع في شوارع طنجة مع الأطفال والفتيان المشردين أمثاله ...
...