.. أطلق ديفيد زفرة من أعماق أنفاسه علها تحمل عنه شيئا من اللواعج، بعيدا عن تنور صدره، معدلا من جلسته استعدادا لجولة أخرى افتتحها كوفيد متسائلا سؤال من يعرف الجواب مسبقا:

- طمئني، هل أرحل.. أم لا داعي يدعو لذلك؟!

- .. يبدو أنك في موجتك الثانية، وبعد أن بلغ عدد الإصابات والوفيات ذروته شهدنا استقرارا ثم بداية تراجع، لنتفاجأ مرة أخرى بارتفاع عدد الإصابات..

- .. "عدد الإصابات"، تهمكم فعلا الأرقام ولغتها التي تصف وضعكم وضعفكم الآن. لقد شكل القرن العشرين فرصة ذهبية لكم لتتقدموا جميعكم، لا أن يقبر بعضكم بعضا في سبيل مجد يقدره خالدا خالصا له من غير الآخرين، فما كانت النتيجة؟! حربان عالميتان، والعديد من الحروب البينية، والأهلية، والإبادات العرقية، والمجاعات، ووصم إفريقيا بأنها مهد فيروس نقص المناعة المكتسبة.. وبعد ماذا؟! بعد أن صارت بقوة البنادق والنبيذ ربيبة و"غير شرعية" إلى ذلك، صيرتها "الأم" الرؤوم مجرد قبو مواد أولية تنزل الدرج جنوبا لتزوره بين الفينة والأخرى، ليطمئن قلبها- وأنت تعرف قلب الأم- على ضمان سير نزيف الثروات نحو الشمال.

- على ذكر "الجدل حول المهد"، ثمة أقوال وحتى أبحاث تشير إلى احتمال تورط الصين في تطويرك، وأنك لم تأت أبدا نتيجة "تطور طبيعي"، غير أن الصين ترفض هذا الكلام..

- إلى حدود سؤالك هذا كنت ملتزما جدا بـ''واجب احترام الضيف"، فما مناسبة هذا الخطأ.. وهذا ليس لا سؤالا ولا تعبيرا عن ضيق، بل هو فرصة لأسلط الضوء مرة أخرى على جانبكم الأسود، فأنتم على كثرتكم واختلاف ثقافاتكم تجمعون مثلا على أن أقصى ما قد ينال من المرء هي أن يسب بهذه السبة. لكن، ماذا عمن يحمل فعلا وكرها هذه الصفة؟! من أتى إلى عالمكم هذا فوجد نفسه قسرا وقهرا يجسد العار حرفيا؟! من يُحكم عليه سلفا، وقبل حتى أن يوجد، بأن يكون سوءا يمشي على الأرض، وأن السبيل الوحيد كي يعيش في أمان على وجهها، هو في أن ينفي نفسه "اختياريا" إلى حيث لا يعرف ماضي أمه أحد! لكن، ليس قبل أن ينال قسطا وافرا وفيرا من ويل عذاب مهدى مقدما.. هكذا! وهذا إن لم ينته به المطاف فعلا إلى أن يشنق الإنسان فيه كي يرتاح، وألا يخيب ظنكم فيه بأن يكون كريما جدا معكم في أن يشارككم صنيعكم، ألا وهو نفسه المظلمة عربون وفاء لجميلكم القذر. أما الأم، فذلك ذنبكم الأكبر. أشد

منصفيكم سيقول في قضيتها: إننا نحتاج كل الفئات حتى نشكل مجتمعا! لقد سطا الذكور على كل شيء في السماء والأرض، وتركوا المرأة في فلك مغلق ومفرغ تدور، بنسبة لا تكاد تصل العشرة بالمائة من قمة هرم السلطة في العالم، وكان سلاح الذكور في ذاك اللغة. فالكلمة تصنع الفكرة، والفكرة تصنع الإنسان، والإنسان يصنع الواقع.. بشعا طبعا في الغالب.

- ألهذا جعلت نسبة النساء في فترة ما في حدود ثلث نسبة الإصابات؟

- لأجلهن نعم، في إطار إجراءات إعداد الجو الأمثل للدرس الذي تأبى رؤوسكم أن تفتح أعينها عليه، ولنعد إلى "أمي الصينية"، وأيا كانت صحة هذا الكلام، ففيم سيفيدكم؟! ها أنتم كلما اشتد عليكم الأمر إلا وانحرفتم عن طرح السؤال الصحيح، السؤال الصريح، كأن تتساءل ببالغ الاهتمام عن الفرق بين نعش مرصع بالماس وآخر بالغرانيت؟! متناسيا تماما أن النعش لحدك، وأنه مرقدك بعد بضعة أيام! كل هذا الجور المجاني الذي تمارسونه بشكل ممنهج، متوارثين إياه أبا عن جد، شكل محور اهتمامي وأنا في محبسي، وإن كان ثمة من أهداف لمجيئي الكاسح، فأحدها كبح هذا الظلم المظلم الذي يلف أرواحكم.

- وفيم يجب التركيز إذا؟!

- في ما وراء الجانب الظاهر في كل هذا. إن الإنسان لتلميذ فاشل أبدا في امتحان بسيط جدا، لا امتحان يستحق صفته غيره بالمناسبة، امتحان وحيد، يراجع الإنسان فصوله المتكررة في يومه وفي حياته، ثم هو يفشل فيه فيهما فشلا ذريعا كأنها أول مرة.

لنقل إن مشكلة الإنسان في قرنه هذا بسيطة جدا رغم كل شيء، كل ما في الأمر أنه صدق التكنولوجيا، فأراد أن يزاوج بينها وبين السلطة، باعتبارها الشكل المعاصر للثروة، فجئت أنا بعصا عادية، ليست لا خرافية ولا سحرية ولا معجزة في شيء، فأوقفت بها دوران دولاب "الإله الجديد، إله الحديد" فخرت سجدا لي الأسلحة!

وبما أنك ترغب من وراء كل هذا بشيء "حصري"، وهو مفهوم اندثر في حضرتي، فدعني أخبرك أنكم لو قضيتم علي واسترجعتم زمام الأمور والسير "الطبيعي" للحياة، فإنها ستكون أشد بشاعة مما هي عليه الآن.

صدقني ستترحمون على أيامي كثيرا، لكن بعد فوات الأوان طبعا، كدأبكم الأزلي. ففي الوقت الذي تواصلون فيه التساقط البطيء كحبات رمل مزدحمة في حلق عنق زجاجة رملية ضخمة، فإن كل ما يهم ساستكم هو كيف سيسوسونكم سياسة بعد تكون أشد وطأة من الأولى، وأشد تسلطا حتى مني أنا الذي أخضعكم جميعا وبأسير تدبير وأهون سبب.

أصحاب هكذا مطامع في ظروف كهذه لا يستحقون ولو شبه فرصة ثانية.

صدق نصف ما ترى، ولا شيء مما تسمع. فالمظاهر خادعة للناظر، خائنة لصاحبها.