لم نكن نعثر على غائب طعمة فرمان يومها في بغداد حين كانت المقاهي والحانات المطلة على دجلة حيث شارع أبا نؤاس، ملتقىً للمثقفين العراقيين أو مقهى البرازيلية ومقهى حسن عجمي وسواها في نهارات أيام الجُمع . كان غائب حينها يقبع في منفاه أو رحلته كما كان يحب أن يقول. عزاؤنا الوحيد كان رواياته التي كنا نتلقفها بشغف وأكثر الظن أن نجاح مسرحية ”النخلة والجيران“ التي أعدّها وأخرجها الفنان الراحل قاسم محمد والتي قدمتها فرقة المسرح الفني الحديث قد أيقظت السؤال القديم: أين هو غائب طعمة فرمان؟!.
عثرتُ أخيراً على غائب في موسكو عام ١٩٨٣ وجمعتني وإياه لقاءات عذبة يومها كنتُ أدرس الإخراج السينمائي في معهد السينما في موسكو في وقت كانت المنافي والهجرات تتسع يوماً فيوم.
كنا نحن الجُدد على المنافي نحتمي تحت جناحيه الدافئين فيما كان هو يصغي مثل طفل تائه لأحاديثنا عن العراق وأخباره.
عاش غائب في موسكو منذ أوائل ستينات القرن الماضي حيث كان يمارس الترجمة، على مضض، كما يقول. تلك المهنة الشاقة، حيث كان طوال ربع قرن من الزمن مدفوناً بين المعاجم والقواميس السلافية والإنكليزية والعربية يبحث عن المرادفات والمعاني في زمن غير ذي معنى، وكانت الكلمات تتقافز أمام ناظريه مثل الضفادع كما يقول في روايته”المرتجى والمؤجل“ لكنه كان يواصل هذه اللعبة اللعينة بسبب لقمة العيش كما يقول.
في عام ١٩٨٧ وهو العام الأخير من دراستي في معهد السينما وقع اختياري على موضوع الاغتراب والمنفى لفيلم أطروحة الإخراج وكان غائب مادة لهذ الأطروحة.
اطلعت حينها على بعض الوثائق والصور المتيسرة وعلى البعض من رواياته المتوفرة لدى الأصدقاء وباشرت في كتابة السيناريو الأولي. وحين انتهيت من كتابته حملت نسخة منه وتوجهت اليه حيث كان يقيم في الطابق العاشر في بناية تحمل رقم ٢٠ مطلة على شارع ميكلوخاميكلايا.
حدثته باسهاب عن مشروع الفيلم وناولته نسخة السيناريو. وضع السيناريو على الطاولة وقال أنه سيّطلع عليه فيما بعد.
كان الانطباع الأول الذي قرأته على وجهه أنه متحمس جداً للموضوع، وفجأة ساد صمت غريب قطعه غائب بالعبارة العراقية الشهيرة: إي، شكو ماكو!؟
احتسينا القهوة فيما بعد فيما المطر يهطل في الخارج بغزارة. كان حديثنا اللاحق عن الحرب العراقية الإيرانية وكيف كانت واحدة من العوامل التي حالت دون عودته إلى الوطن. وبعد هنيهة فاجأني قائلاً: “هل تعتقد أن هذا الحصان الهرم الذي تجلس معه الآن يقوى على الجري؟ ثم أضاف بعد لحظة صمت”أمنيتي الوحيدة هي أن أعود إلى العراق ولا أريد منهم شيئا سوى أن يمنحوني غرفة صغيرة في أحد شوارع بغداد أقضي فيها بقية عمري… ولكن…“.
توقف عن حديثه ثم قال: ”كنت أود يا علي أن يُصور فيلم عني في بغداد وليس هنا ولكن مع ذلك سأقرأ السيناريو هذا المساء“.
في لقاءنا الثاني جلس إلى طاولته وأمامه نسخة السيناريو وهي مهمشة بملاحظاته، أما أنا فقد كنت مثل تلميذ يجلس في قاعة الامتحان.
التفت نحوي وقال:”لماذا تريد أن تصور فيلماً عني؟. لماذا لا تصور مشهداً من إحدى رواياتي؟. هل صحيح أن رواياتي لا تصلح للسينما كما أخبرني ثامر مهدي؟“. أجبته بعجالة بأن الفيلم الذي أصوره فيلماً وثائقياً وليس روائيا. ابتسم وأضاف عبارة جديدة بمرح:” أنا لست بذلك الوسيم الذي يصلح للسينما“، أجبته بنفس المرح: أنت أجمل إنسان رأيته في حياتي. ضحك وقال:”أنتم الفنانون تبالغون“.
قال:”طيب. السيناريو بشكل عام مكتوب بأسلوب كلاسيكي فضلاً عن أن الأحداث السياسية والتأريخية تحتل المركز الرئيسي للفيلم، وأنت تضعني وسط هذه العاصفة الهوجاء مثل بطل. أن لست بطلا ولا أنا بسياسي ولست المغترب الأوحد. أنا رجل بسيط مثل الآخرين، فلماذا رسمتني بهذه الصورة؟“. تطلّع في وجهي وابتسم قائلاً:” أعجبتني كثيراً المشاهد الروائية في السيناريو، وأنا على استعداد، فيما لو أجريتَ تعديلات على السيناريو أن أحاور شخصياتي في الفيلم“.
قلت:” أنت تعلم أن ثيمة الفيلم تتناول المنفى والاغتراب في المقام الأول وليس نتاجاتك الروائية. لقد وقع اختياري عليك لأنك من الرعيل الأول من المنفيين وبقيت في المنفى إلى حد يومنا هذا، فأنا في الفيلم ومن خلالك أبحث عن منشأ هذه الظاهرة اللعينة التي تدعى المنفى والاغتراب“.
بعد هذا اللقاء أجريت بعض التعديلات على السيناريو فوافق على الصيغة الأخيرة وترك لي عبارة مليئة بالغموض قائلاً: ”لقد أعطيتك ملاحظاتي وأنت الآن المخرج، فتصرف كما تشاء فهذه مسؤليتك“.
لقد واجهت في الواقع معضلات كثيرة ذلك إن عناصر العمل الأساسية تكاد تكون غائبة تماماً، فلا يوجد أرشيف فوتوغرافي أو سينمائي عن العراق لا ستخدمها كخلفية للأحداث فضلاً عن أن رصيد غائب من الفوتوغراف شحيحة للغاية ومعظم صوره الفوتوغرافية والوثائق كان قد تركها في بغداد عدا بعض الصور الفوتوغرافية التي احتفظ بها بالصدفة، بل أنه لا يحتفظ حتى بنسخ من كل رواياته، فضلاً عن ذلك فقد أخبرني بخجل بعدم قدرته التحدث أمام الكاميرا وأشياء أخرى. بعبارة أخرى، كان عملي عبارة عن مغامرة لم أكن أعرف نتائجها حقاً.
باشرت أولاً بتصوير المشاهد الروائية من روايته “القربان“ في استديو صغير في المعهد بعد أن شيدنا ديكوراً بسيطاً للمقهى وغرفة مظلومة وغرفة زنوبة. وقد دعوت غائب لحضور التصوير يومها وفكرت أن أصوره وسط الديكور ومع شخصياته فيما كان صوت يوسف عمر يصدح في أرجاء المكان. دخل غائب القاعة وسط عمال الديكور والإضاءة والتصوير فيما كانت مسؤولة الماكياج تضع اللمسات الأخيرة لماكياج الممثلين.
كان غائب فرحاً وخجلاً. دار دورة في أنحاء المكان وكان يتلمس بيديه مواد الأكسسوار. قال:“من أين حصلتم على كل هذه الأشياء؟”.
جلس بجوار مظلومة وشرب الشاي من يد ياسر “حساني” عامل المقهى وحيا زنوبة مبتسماً.
صورنا مشهد مظلومة وهو مشهد صغير استغرقنا في تصويره قرابة ساعتين. حين شاهد غائب مشقة العمل علق باستغراب”إن عملكم شاق جداً ولم أكن أتصور ذلك من قبل.”.

أما أصعب مراحل التصوير فهي العمل مع غائب نفسه لأسباب كثيرة. اتصلت به هاتفياً بعد أيام للاتفاق على وضع خطة تصوير تتناسب ووقته وكان لا يزال متردداً وخائفاً من مواجهة الكاميرا. أخيراً طلب مني أن ألغي مسألة تصويره وأكتفي بالمشاهد الروائية وبعد حديث طويل على الهاتف اتفقنا أن نصوره دون أن يتحدث إلى الكاميرا.
توجهت أنا وفريق التصوير المكون من ١٦ شخصا تقريباً وكنت خائفاً من أن يغير رأيه ثانية فبعثت مديرة الانتاج إليه لتهيئة المكان فيما كنا نحن بانتظارها تحت المبنى السكني قبل نقل أجهزتنا إلى شقته. عادت مديرة الانتاج بعد انتظار قصير وعلى وجهها علامات الإنزعاج. قالت لي:” تقول زوجته أنه ليس على ما يرام وأنه يريد مقابلتك”.
(ذكرني هذا المشهد بمشهد مشابه بشكل غريب حدث مع أبي فرات(الجواهري) حين ذهبنا لتصويره في منزله في فيلم يتحدث عن المتنبي وخرجت لنا زوجته أم فرات قائلة:”عيني ما يقبل. يقول أخبريهم أنني نائم. لم يكن أبا فرات نائماً في الواقع ورفضه كان لأسباب أخرى ليس هنا مقامها).
المهم، تركت الفريق وتوجهت نحوه. فتح غائب لي الباب واعتذر عما سببه لي من إحراج قائلاً:” لم أستطع النوم أمس لكثرة خشيتي من هذا اليوم وأنا متوتر الآن جداً، فأرجو أن تلغي التصوير لهذا اليوم”.
لم استطع اقناعه وأنا في حالة من الغضب لأنني لا أعرف ما سأقوله لمديرة الانتاج وفريق العمل. قال:”أخبرهم أنني متوعك”. وطلب مني أن أصرف الفريق وأبقى معه.
وهكذا انصرف الجميع وبقيت معه. استأذن مني لدقائق وعاد مرتدياً بدلته الزرقاء ولوح لي بيده بأن نخرج بينما كانت زوجته منزعجة للغاية.
جلسنا في حانة ليست بعيدة عن مسكنه وكانت تبدو مغلقة وهي مخصصة للعسكريين فقط. عرفت أخيراً أن الحانة مغلقة فعلاً. تركني غائب للحظات وعاد بعد لحظات حاملاً كيساً وبداخله قنينة كونياك. ضحك على طريقته تلك قائلاً: لقد تعلمنا الطرق إلى هذه البلاد، هيا افتح القنينة يا علي”.
أدهشني صدقه وعفويته الطفولية وكأنه يسترجع بعضاً من مغامرات شبابه أيام زمان. لم نتحدث عن الفيلم، حدثني عن الموضوعات التي يكتب عنها وعن روايته الجديدة “رحلة إلى أم الخنازير” التي غير الناشر سهيل إدريس عنوانها إلى “المركب” كما أخبرني غائب لأن الجزيرة تحولت إلى منتجع للسلطة!.
بدأنا بعد أيام بتصوير غائب رغم إصراره على الرفض. صورناه في غرفته الموحشة تلك.. ونحن في زحمة العمل استطاع غائب أن يتآلف شيئاً فشيئاً مع الفريق والكاميرا وهذا ما دفعني أن أعمل معه “إنترفيو” عن الحرب العراقية الإيرانية.
بوحي من روايته “المرتجى والمؤجل” طلبت منه أن نصوره في إحدى المقابر التي دفن فيها أحد العراقيين المغتربين يدعى (أبو الحَب) والذي يتحدث عنه في تلك الرواية لكنه رفض بشكل قاطع قائلاً: “إنني أكره المقابر”.
أردت أن أصوره في بعض الأماكن التي يرتادها عادة في موسكو، حانات، مقاهي، شوارع، أو عند نهر موسكو، لكنه اعتذر، قائلاً:” لقد تغيرت هذه الأماكن مثلما تغيرت بغداد”.
أخيراً أقنعته بأن نصوره في موقعين: الأول، محطة القطار، والثاني فوق جسر يطل على نهر موسكو.
وهنا أتذكر حادثتين طريفتين مع غائب، الأولى حين كنا نقوم بتصويره وهي يسير على الجسر. اتفقت معه أن يتوقف عند سور الجسر يتطلع نحو النهر وبعدها يواصل سيره على الجسر دون أن يلتفت نحونا.
بدأنا التصوير وهو يبتعد عنا، وحين انتهينا من تصوير اللقطة أخبرني المصور بضرورة إعادة اللقطة، لكن غائب كما يبدو قد واصل سيره دون توقف وغاب عن الأنظار. لم تكن التلفونات المحمولة موجودة حينها لأتصل به عندئذ اضطررنا إلى إلغاء التصوير.
اتصلت به في المساء وتسائلت عن سبب مغادرته، قال ببساطة:” أنت قلت لي أذهب ولا تلتفت نحو الكاميرا فواصلت سيري فركبت سيارتي وعدت إلى البيت”. ثم أضاف:” هكذا أفضل كي تكون اللقطة طبيعية”.
الحادثة الثانية جرت في محطة القطار. اتفقت معه أن يسير وسط المسافرين بالقرب من الرصيف الذي يتوقف عنده القطار وطلبت منه أن يدخل في إحدى العربات. ومن حسن الحظ أن المسافرين بدأوا في القدوم والدخول إلى العربات وحين بدأنا التصوير كان غائب يسير على الرصيف متجهاً صوب باب إحدى العربات لكنه لم يدخل وصار يتطلع نحو الكاميرا ويلوح بيده بانزعاج فأوقفنا التصوير. ذهبت نحوه وسألته عن سبب عدم دخوله العربة صرخ بوجهي قائلاً:”أنته مخرج مخربط. لقد طلبتْ مني عاملة التذاكر بطاقة السفر؟ كيف أدخل العربة بدون تذكرة السفر؟”.
غرقنا جميعاً في الضحك، أما هو فقد تبدد انزعاجه وراحت دموعه تسيل من عينيه من فرط الضحك وقال لي: “طيب، لا تزعل أنت مخرج مخربط وأنا ممثل مخربط”.

***
لمشاهدة الفيلم على فيسبوك: