يُعرَّف اضطراب الهويَّة التفارُقيّ على أنه ميكانزم دفاعيّ سلبيّ ناتجٌ عن تلقّي صدمةٍ عنيفةٍ على أحد المستويَّين، الجسميّ أو العاطفيّ، أو أنه ناتجٌ عن قمع ذاكرة طفليَّة مؤلمة. ويتمثَّل هذا الاضطراب الذهنيّ بتطوير غير واعٍ لشخصيَّة تنفصم عن الهويَّة الرئيسيَّة، لتصبح مستقلَّة تعمل لحسابها الخاص. وقد تظهر هوياتٌ عدَّة حيث يكون لكلّ واحدة منها جنسها وعمرها وفلسفتها الخاصَّة. وعلينا هنا أن نأخذ بالحسبان أنَّ الهويَّة الـمُضيفة قد لا تكون هي الهويَّة الأصيلة للفرد؛ الأمر الذي يعرفه الـمُعالج النفسيّ خير معرفة. والحقيقة أن أعراض هذا الاضطراب عديدة، ومتداخلة مع أعراض اضطراباتٍ أخرى، كالصُّداع الحادّ والاكتئاب. لكن أوضح تلك الأعراض التي يمكن ملاحظتها هو وجودُ ثغراتٍ في الذاكرة. ومثال ذلك أن تستيقظ صباحاً، أثناء زيارتك لأحد أصدقائك، فتتفاجأ بمن هم حولك، بل وتستهجن المكان الذي أنت فيه!! فتسأل نفسك: ما الذي جاء بي إلى هنا؟! أو أن تفقد مهارةً معيَّنة، بعدما كنتَ قد تعلَّمتها بإتقان!

وبما أن السبب الأساسيّ لهذا الاضطراب هو الفشل في عجن أو دمج الخبرات والتجارب التراكميَّة في هويَّةٍ واحدةٍ متماسكة، فيجب أن يكون الهدف العلاجيّ هو توحيد الهويَّة في المقام الأوَّل. وعلى الرغم من عدم وجود علاج منهجيّ واضح لهذا الاضطراب، إلا أن التنويم الإيحائيّ قد أعطى نتائجَ مُرضيةً في علاج الكثير من الحالات. أضف إلى ذلك تقنية "التنفيس" المتمثّلة بمبدأ الصدمة، وذلك عبر إعادة استحضار الموقف الأليم، وإعادة تمثيله أمام الشخص المريض، بغية تخليصه من السبب الجوهريّ الأكثر تأثيراً في هذه المشكلة. ومن ثمَّ العمل على توحيد الهويَّة المُتشظية، أو تقوية موقف الهويَّة الأساسيَّة، وأخيراً دحر الهويَّات الأخرى الهلوسيَّة. مع الإشارة إلى أن مضادات الاكتئاب تُعتبر ضروريةً لتخفيف الأعراض المرافقة لهذا الاضطراب، كما أن جلسات العلاج قد تدوم لسنوات وسنوات.

بالطبع هناك الكثير من الحالات التي استعصت على الشفاء، وذلك بسبب خلط المُعالج النفسيّ بين هذا الاضطراب واضطرابٍ آخر هو "اضطراب الشخصيَّة الحدّيَّة". فالتشخيص الصحيح أمرٌ في غاية الأهميَّة. ومن الضروري الإشارة إلى أن لاضطراب الهويَّة التفارُقيّ شكلَيْن واضحَيْن: استحواذيّ وغير استحواذيّ. في الشكل الاستحواذيّ يظهر وكأن شيئاً خارجيَّاً قد استولى على المريض.

وهذا ما يُعرف عاميَّاً بـ"اللبس"، فيُقال: "فلان قد تلبَّسه الجان"! والحقيقة هي أن إحدى تلك الهويَّات المنفصمة عن الشخصيَّة، قد سيطرت آنيَّاً على المريض، وقد أصبح بفعلها مُختلاً ومُهَلوِساً، يُظهر سلوكياتٍ غريبةً لم يعتد على رؤيتها من هم حوله. أما الشكل غير الاستحواذيّ فيبدو على هيئة تبدُّدٍ للشخصية، ومن الصعب تحديده من قبل الآخر المُراقِب. وقد يظهر هذا الشكل من الاضطراب بوفيرٍ من الهويَّات. ويمكن للهويَّة المُنفصمة الأولى أن تعلم بوجود الشخصية الثانية، بل وتعلم عنها أدق التفاصيل. بينما تعجز الثانية عن معرفة أي شيء عن الشخصيَّة الأولى أو عن الشخصيَّة الصحيحة. وقد تكون الشخصيَّة أو الهويَّة الأولى ودودةً وطيّبةً، بينما تظهر الهويَّة الثانية شريرةً وقد ترتكب الجرائم! وفي هذه الحالة تكون الهويَّة الثانية نتيجةً لكبتٍ كبير مارسته الشخصيَّة الأولى.

فهذه الهويَّات هي أساساً توابعُ نفسيَّةٌ، ورغباتٌ مقموعةٌ قد نشأت لأسبابٍ ذكرناها آنفاً، وعاشت مع الوقت خلف "الهويَّة الأم"، واقتاتت من المواقف العصيبة والوهن النفسيّ الدائم للشخص. وعندما حانت الفرصة، وحدث كربٌ ما، طافت على السطح، وانفصلت عن

الشخصيَّة معلنةً تمرُّدها. وبعد أن تُعلن "البيان رقم واحد"، إن صح التعبير، تبدأ بمزاحمة الهويَّة الأساسيَّة في السيطرة على الذات والسلوك.

باحث سوري في علم النفس التحليلي