الى ذكرى عبد الرحمن منيف


ولأنني أنفقت زمنا طويلا في البحث عنها أمست بعد ذلك العناء من وراء الحجب الذي تقبع فيه كما لو انها غاده مجهولة ولم يكن لها وجود سوى في قلب واهٍ يتحول إلى وهم مع مرور الأيام الطويلة والتي فيها لم افلح في العثور على أي أثر منها أجدني من طرف آخر اضعت عن قصد مفروض، فوق طبيعي، فرصا عديدة لم التفت الى نداء من كنّا حوالي.

وإن أفكر في ذلك التداعي الذي جعلني اتقهقر إن كان مكتوبا بيد قدرة عليا موطنها شرقي ام مدفوعا بسلوك شائن الى ذلك التقدير الخاطئ أن أترك للحنين العنان في أن يعود الى أرض طالما كانت من مقدراتي ان امنحها مافي داخلي من الإيمان والروح واللتين هما في الواقع بعد القرب من شوط النهاية الذي لن يكون سوى اللا وجود عينه أرى أنهما اجمل ما يملك الإنسان، وإن أقف وجها لوجه مع تلك النفس العميقة المحملة بالمزايا والاضطرابات أبحث عن معنى الماضي ذاك الذي هو تراكم خبرات تدعي ذكرياتي عنها إنني مررت بها وإذ أساءل نفسي من كان ذاك الذي فعل ما فعل أجدني مترددا أن اكون هو ذاك الشخص.
لم أكن أنا في أي وقت منها بل ذاك الغامض الذي ينتمي الى عالم الخلق – الذر المتواتر الذي يموت ثم يحيا والمستوطن في خبايا الروح متحولا مع الأيام الى ذوات تظهر صورها العديدة والتي مع المضي في الشوط غير المرئي تبزغ فجأة فكرة الإغتراب عنها ماعدا ذلك الشعور الثابت المقموع في جهة منه والذي من المجمل أن أطلق عليه الصفة التي ميعها العالم ثم خذلها ملبسا اياها اقنعة يشترط فيها ان تكون مجانية ألا وهي تلك الصفة التي لا يحلو لي وضعها تحت أي مسمى سوى مسمى الحب.
لكن وبدخولي القسري في تلك الأجواء مدفوعا باليد الناعمة التي ظننتها حانية ملهمة كانت تلك الصورة، صورة الحب التي أوهت قواي تكشف عن وجهها الخرِب رويدا رويدا. وروعني ذلك الوجه حين رأيته على حقيقته –الوجه المصري.... الذي لا يحلو لي القول إلا أنه عالم من الموسيقى والطرب اكثر مماكان في الغالب أدب - الى حد لا يجمل به إلا أن يشابه حمل الموت على طبق وتقديمه على مائدة لا احد اليها سواي.
والتساؤل الذي يفرض نفسه بالقهر والقنوط وإن الإنسان قد أنطفأت في يده الشعلة وتحول ما حواليه الى ضلال سؤال مِن مُلك كل انسان مازال حيا، وهو، وراء من تتوارى حقيقتنا؟ لإنه إن كشفناها أشرقت شمسنا على الملأ.

ومشكلتي ليست بالتأكيد هي مشكلة الآخر بقدر ماهي من العمومية قد أمست خلال سنوات طوال تشوهت فيها النفس مشكلة كل امرئ كتب له أن يعيش. من هذا المنوال والقصد جاء منيف على أرض السواد ولم يكن في معناه الرمزي في يوم من الايام هو العراق بل هو شيء كلي شامل. أرض السواد هو الوجه الذي إن أقارنه مع حالة انكشفت حقيقتها بالتتالي إذ نمت الراحة بين الثنايا وراح السلوك والمزاج بعد طول صبر ودهاء يعودان الى حالهما المألوف أن يظهر في النهاية ذكرى الحب المقتول على السطح بعد أن انتفخ وتفسخ.. وماكان يدفعني سواه الى قارب يغمره السكون بجلال، فلا يهزه ولا يؤرجحه سوى طبع البحر. وكلمة حب في الحد غير المعرف هي في مكان ما من الأرض مَعبدٌ دائم أبعد مدى من الأديان. لهذا الشأن ربما يستعصي على الكثيرين إدراك فحواها مع القبول أن الوهم يلعب لعبته الفظيعة في نفي ذلك.

وهكذا إن أذكر عدت باللا جدوى واللا معنى وأمسى الأمل مؤجلا الى حد خلو الوفاض منه وكان صدى الماضي يقرع في الحاضر ويولد فجواته في ما سوف يأتي. وإن كانت الخطى تطأ أرض السواد إلى حد التمثيل كنت على يقين باطني أنني غدا او بعد غد، بعد زمن – زمن ما – أن يفقد فيه الزمن معنى التداول والتكاثر المر، ثمة على الباب حجر كريم لم يبق له سوى أن يخطو بضعة خطوات وماكان هذا من الأفكار والهواجس إنما مبدأ وقانون طبيعي نشأت الحياة عليه، وإن أحسنّا التفكير بالواقع لن يكون إلا مبدأ على اغلب الظن لتهدئة الحواس وتجبير الخاطر وتلوين القادم بألوان عديدة رغم الأمل المحسور، وكان هذا الحجر بعيدا، في حفرة حفرها العالم، على نحو غير تأريخي من دون تاريخ رغم ان عبد الرحمن منيف رصدها في القرن الطويل الذي يعود في طوله الى قرون هي كل مئات السنين الماضية وربما القادمة وأبعد من ذلك في أرض السواد تخطو مع رأس مثقل لا ينظر الى الأمام طالما هي في أرض السواد الى أن تقطع شوطه المحمل بالآلام حتى على نحو مفاجئ تنتهي المحنة:

فرفعت رأسها بشهلة مفاجئة ثم عادت بصدرها الى الخلف تتمثل على الملأ تلك الحواف مع الضفة البيضاء الممتدة لخليج العرب. وأصدرت على الفور صوتا يسمع في العادة عند الاقتراب من المحار المشهور الذي يبقى في سرير البحر والحظ يدفع بعضها الى الشواطئ التي اليوم كتب لها القدر أن تغيب.
وضربت الباب أو انا من ضرب بابها للانتباه الى أن القدر حين يأتي فسيقول ما يريد قوله.