بقلم فلوريان بوبان
ترجمه عن الفرنسية عبد العزيز جدير

في 11 مايو من سنة 1973، عُثر على الفيلسوف السنغالي الشاب عمر بلوندين ديوب، المعارض لنظام الرئيس ليوبولد سيدار سنغور، ميتا وهو رهن الاعتقال في جزيرة گوريه. ومنذ ما يقرب من نصف قرن، اعترضت العديد من الأصوات على الرواية الرسمية القائلة بالانتحار، ونددت بجريمة القتل. وفيما يلي عودة واسترجاع للمسار النضالي لبلوندين ديوب خلال مرحلة البحث عن ثورة عالمية.

في اليوم الثاني من شهر مارس، عشية اعتقال المعارض السنغالي (Ousmane Sonko) عثمان سونكو واندلاع أيام النار التي أشعلت النيران في البلاد، عقدت جبهة الثورة الشعبية المناهضة للإمبريالية والمناضلة من أجل وحدة شعوب إفريقيا (ج ث ش م إ و ش إ) في داكار مؤتمرا صحفيا للدعوة إلى التعبئة ضد "خطة تصفية مناضلي المعارضة" في السنغال. وخلف الطاولة التي جلس إليها الخطباء وتحدثوا خلال المؤتمر، تصدرت المشهد صورة عمر بلوندين ديوب، الشاب الثوري المنتمي إلى "سنوات "1968" الذي توفي رهن الاعتقال في 11 مايو من سنة 1973 في گوريه. ومثل ذلك الأمر أحد المؤشرات، من بين أمور أخرى، على عودة وانبعاث صورة وشخصية بلوندين ديوب إلى احتلال مخيال الشبيبة السنغالية. ويمكن العثور على وجهه وصورته أيضًا في اللوحة الجدارية الضخمة المرسومة في العاصمة السنغالية من لدن جماعة رسامي الجداريات [Radikal Bomb Shot] تكريمًا للمقاتلين من أجل تحرير السود في جميع أنحاء العالم، غداة مقتل جورج فلويد في الولايات المتحدة. وتعود الصورة التي اعتمدت في رسم هذه اللوحة عبر منفث رش إلى عام 1970، وكانت التقطت بعد وقت قصير من طرد عمر بلوندين من فرنسا لمشاركته في مظاهرات "مايو 1968". وبعد بضع سنوات أصبح المتمرد شهيدا. ويوم مماته وهو رهن الاعتقال، بعد أربعة عشر شهرًا من الحكم عليه بالسجن بثلاث سنوات بتهمة "المس بأمن الدولة"، أكدت السلطات السنغالية أنه انتحر. بيد أنه كان للعديد من الأصوات من الأسباب الوجيهة ما يؤكد أنه تعرض للاغتيال. ومنذ ذلك الحين، وعائلته تطالب بلا هوادة بأن تقول العدالة كلمتها، وتولى المناضلون والفنانون، على حد سواء، زمام المبادرة واحتلوا الصفوف الأمامية للحفاظ على ذكراه وذاكرته.
ومع ذلك، لا يمكن عزل وفاة عمر بلوندين ديوب كحدث تاريخي مؤسف عن غيره من الأحداث، بل على العكس من ذلك، إنه يـمثل حلقة مأساوية من سلسلة طويلة من أعمال العنف التي اقترفتها دولة السنغال. ومن غير المعتاد التأكيد على حركات مقاومة مناهضة لنظام ليوبولد سيدار سنغور أو منحها المصداقية، لأن أول رئيس للسنغال (1960-1980) نجح في جعل البلاد "نموذجًا ديمقراطيًا". وغالبًا ما لخصت الروايات الرسمية لعمليات إنهاء الاستعمار في إفريقيا عملية التحرر من الاستعمار الأوروبي بولادة دول مستقلة حديثًا. ومع ذلك، فإن استمرار المصالح الأجنبية، التي يدعمها ويغذيها عدد من الطبقات الوطنية الحاكمة، كان مشهدًا مألوفًا منذ عقد الستينيات. وبعد موجات الاستقلال السياسي الإسمي، راهنت الأنظمة الاستبدادية في القارة، بدعم من العواصم الاستعمارية السابقة، على الحفاظ على سلطتها من خلال خنق الرؤى الثورية للحركات المطالبة بالتحرر من الإمبريالية والرأسمالية. من المؤكد أن السنغال لم تشهد نفس الأزمات السياسية مثل دول الجوار، لكن أسطرة "الوجه الإنساني الجمهوري" "للشاعر- الرئيس" ليوبولد سيدار سنغور" ألقت بظلالها على تقديرنا وحكمنا على عمله السياسي وأدائه. وفي ظل "الاتحاد التقدمي السنغالي"، الحزب الوحيد الذي قاده الرئيس، عمدت السلطات إلى أساليب وحشية في ممارسة القمع: من ترهيب، واعتقال، وسجن، وتعذيب معارضيها، بل وذهبت إلى حد "انتحارهم"
وُلِد بلوندين ديوب في مستعمرة النيجر الفرنسية عام 1946. وكان والده "الطبيب الافريقي" قد تم نقله من داكار، العاصمة الإدارية لغرب إفريقيا الفرنسية، إلى نيامي (النيجر). لم تكن مواقفه السياسية من المواقف المصنفة راديكالية جدا، لكن السلطات الاستعمارية اشتبهت في أنه "يدين بمشاعر معادية لفرنسا" بسبب من أنشطته النقابية وعضويته بالفرع الفرنسي من الأممية العمالية للأستاذ (Lamine Guèye) لامين گوي. وخوفًا من تقوية الحركات المناهضة للاستعمار وتعزيز نفوذها غداة الحرب العالمية الثانية، ظلت الدولة الاستعمارية تراقب عن كثب أولئك الذين أسمتهم "العناصر المعادية لفرنسا". ولما سمح لعائلته بالعودة إلى السنغال، تمكن بلوندين ديوب أيضا من قضاء طفولته بشكل رئيسي في داكار. ولما بلغ سن الرابعة عشرة، انتقل إلى العيش في فرنسا، حيث استأنف والده دراسة الطب.
وقضى بلوندين ديوب في فرنسا معظم فترة الستينيات. وفي باريس تابع دراساته الأدبية وعمّق معرفته بكلاسيكيات الفلسفة الغربية، من أرسطو وكانط إلى هيگل وروسو. وفي أعقاب قبوله بالمدرسة العليا للأساتذة بسان- كلو، بدأ يتردد على حلقات ودوائر المناضلين، ويشارك بنشاط في المناقشات التي تنظمها مجموعات يسارية مختلفة. لقد تميزت تلك الفترة باستلهام الحركات المناهضة للرأسمالية في أوروبا روح الثورة الثقافية في الصين ومعارضة العدوان العسكري الأمريكي على فيتنام بشدة. وكان الطلاب الأفارقة في فرنسا، الذين بلغ عددهم عشرة ألف في عام 1968، يناضلون بحمية ونشاط ضمن أنساق وطنية وأنساق وحدة وتضامن شعوب إفريقيا. ومن جانبه، كان لبلوندين ديوب قدم في كل من العالمين. وبعد وقت قصير من سماعه أخبار عن المناضل السنغالي، اختاره المخرج جان ليك گودار ليؤدي دور البطولة في فيلمه (La Chinoise)، (1967). وقد تشرب كتابات سبينوزا، وماركس، وفرانز فانون واستوحاها، حرص بلوندين ديوب على أن ينشد ضالته في الانتقاء النظري- بين الموقعية، والفوضوية، والماوية، والتروتسكية، ويستمد فكره السياسي من العديد من التيارات الإيديولوجية مع تجنب الدوغمائية.
وبسبب أنشطته السياسية، طُرد بلوندين ديوب من فرنسا إلى السنغال في نهاية عام 1969. وإلى جانب رفاق سنغاليين آخرين درسوا في أوروبا، شارك في حركة الشبيبات الماركسية اللينينية (MJML)، التي أسست إحدى حركاتها المنشقة الجبهة المناهضة للإمبريالية (And Jëf؛ [لنتحد لنعمل]). ولما رفض بلوندان ديوب الهياكل الشكلية، فقد عمد إلى دعم الأداء الفني والرفع من مستواه، وطور مشروع "مسرح الشارع الذي سيقول ما يشغل الشعب ويهمه"، مسرح مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمسرح المقهورين لأوغستو بوال. ولما عني بالفن وإمكانياته الثورية، كتب بلوندين ديوب: "قبل تقديم عرض في حي معين، يجب عليك أن تعرف سكانه، وتقيم بينهم، وخاصة بين الشباب [...]. سيذهب مسرحنا إلى الأماكن التي يلتقي فيها السكان (أسواق، وسينما، وملاعب) [...] لذلك يجب أن نسعى جاهدين أن نمنح لكل موضوع، ولكل موقف، ولكل شخصية بعدا أفريقيًا. [...] وأن يصنع كل واحد كل ما يمكن أن يصنعه هو نفسه قبل كل شيء [...] ويبقى الاستنتاج الأخلاقي: الموت أهون من العبودية ".
كانت السنغال المستقلة بلدا ينتمي إلى فضاء الاستعمار الجديد. وكان سنغور يعارض، في البداية، الاستقلال الفوري، ودافع عوضا عن ذلك عن حكم ذاتي تدريجي يمتد على مدى عشرين عامًا. لذلك، عندما أصبح رئيسًا، دعا بانتظام إلى الدعم الفرنسي وطالب به. في عام 1962، اتهم سنغور كذبا وزوراً مساعده منذ فترة طويلة (Mamadou Dia) مامادو ديا، رئيس مجلس الوزراء، بمحاولة الانقلاب ضده – وهكذا تم اعتقال ديا ورفاقه، وترحيلهم ثم سجنهم لأكثر من عقد من الزمان. في عام 1968، عندما اندلع إضراب عام في داكار، وامتدت شرارته إلى بقية البلاد، قامت الشرطة بقمع الحركة بمساعدة القوات العسكرية الفرنسية. وبلغ التقارب بين سنغور وفرنسا ذروته في عام 1971، بمناسبة الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو، وهو صديق مقرب وزميل سابق في الدراسة. ذلك أن داكار ظلت، لأكثر من عام كامل، تستعد لإقامته القصيرة التي لم تتعد 24 ساعة. وعلى المسار الرئيس للموكب الرسمي، أعادت السلطات تأهيل الطرق والمباني في محاولة لإخفاء كل علامات الفقر في العاصمة.
وبالنسبة للعديد من النشطاء الراديكاليين الشباب، كانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير؛ إذ كان استقبال الرئيس الفرنسي استفزازا صريحا. وقبل ذلك بأسابيع قليلة، قامت مجموعة تتبنى مبادئ حزب الفهود السود الأمريكي وحركة ثوار التوباماروس الأوروغوايانية بإضرام النار في المركز الثقافي الفرنسي في داكار وفي مقار تابعة لوزارة الأشغال العمومية. وحاولت المجموعة خلال الزيارة مهاجمة موكب الرئاسة، لكن تم اعتقال أعضائها. وكان من بين المدانين المحكوم عليهم شقيقان لبلوندين ديوب. وكان هو أيضًا يؤمن بالعمل المباشر لكنه لم يشارك في الهجوم المذكور؛ فقد كان عاد إلى باريس قبل بضعة أشهر، بعد أن تم رَفع أمر إبعاده. وفي ظل الاضطرابات، قرر بلوندين ديوب، مع العديد من الأصدقاء، مغادرة فرنسا من أجل تعلم الكفاح المسلح وممارسته. وركب هؤلاء جميعا قطار الشرق-السريع، وعبروا أوروبا على متنه، وانتهت الرحلة حين حلوا بمعسكر سوري للفدائيين الفلسطينيين والمقاتلين الإريتريين. كانت خطتهم هي اختطاف السفير الفرنسي في السنغال مقابل تحرير رفاقهم المسجونين. وبعد شهرين، انتقل بلوندين ديوب وأصدقاؤه من الصحراء إلى المدينة. كانوا يأملون في الحصول على دعم حزب الفهود السود في المنفى بالجزائر العاصمة، وهو ما قد يمكنهم من التواصل مع جبهة التحرير الوطني الجزائرية. لكن انشقاقا أصاب الحركة أجبرهم على مراجعة استراتيجيتهم. وبعد قضاء فترة قصيرة في كوناكري، توجهوا إلى باماكو، حيث يقيم جزء من عائلة بلوندين ديوب. ومن هناك أعادوا تنظيم أنفسهم.
اعتقلت الشرطة المجموعة في نهاية شهر نوفمبر 1971، قبل أيام قليلة من زيارة الدولة التي كان سيقوم بها الرئيس سنغور، وهي زيارته الأولى إلى البلاد منذ تفكك الاتحاد المالي في عام 1960. كانت أجهزة المخابرات المالية، تحت اشراف كان مدير الأمن القومي سيئ السمعة، (Tiékoro Bagayoko) تيكورو باگايوكو، قد ظلت تراقب أعضاء المجموعة عن كثب لأشهر. وبعد تسليمهم إلى السنغال، حُكم عليهم بالسجن ثلاث سنوات بتهمة "المس بأمن الدولة". وخلال معظم الأيام التي قضوها في گوريه، لم يكن يُسمح للمعتقلين بمغادرة زنازينهم. وبغية التقليل من التفاعل فيما بينهم، لم يكن يسمح لهم برؤية ضوء النهار إلا لمدة نصف ساعة في الصباح ونصف ساعة بعد الظهر ...
ونزل الخبر كالصاعقة في 11 مايو 1973: مات عمر. كان عمره 26 سنة. كان للإعلان وقع القنبلة. اقتحم المئات من الشباب الشوارع وكتبوا على جدران العاصمة: "سنغور، قاتل؛ إنهم يقتلون أبناءكم، استيقظوا؛ أيها القتلة، بلوندين سيظل حيا بيننا ". ومنذ البداية، تنكرت دولة السنغال للجريمة وزورت الحقائق. وعقب شكوى موضوعها "القتل غير العمد" التي قدمها والد عمر، وجه قاضي التحقيق المسئول عن القضية الاتهام إلى عدد من حراس السجن. وكان قد اكتشف في سجل السجن أن بلوندين ديوب قد فقد الوعي قبل أسبوع من إعلان نبأ وفاته "بالانتحار"، وتصرفت إدارة السجن وكأن شيئًا لم يحدث. لكن قبل أن يتاح للقاضي من الوقت ما يمكنه من المضي قدما في اتهام آخر حارس مشتبه به، استبدلته السلطات بقاض آخر، أنهى هذه الإجراءات القانونية، بعد عامين، بإصدار "أمر بعدم الاختصاص".! ومنذ ذلك التاريخ حتى التسعينيات، ظلت قوات الشرطة، كل يوم 11 مايو، تحاصر قبر بلوندين ديوب من أجل منع أي شكل من أشكال إحياء الذكرى العامة بشكل عمومي وعلني.
ولعقود من الزمان، ظل عمر بلوندين ديوب مصدر إلهام للنشطاء والفنانين. واستمرت المعارض، واللوحات، والأفلام تعيد النظر في تاريخه وقراءته وتأويله- وهو تاريخ يردد للأسف صدى السياق السياسي ذاته اليوم. وتوضح الأساليب الاستبدادية التي تلجأ إليها حكومة السنغال الحالية إلى أي مدى يتغذى الإفلات من العقاب من الماضي. وفي السنوات الأخيرة، سعت الحكومة الحالية إلى تقييد حرية التظاهر، واختلاس المال العام، والشطط في استعمال سلطاتها. وما دامت المساءلة السياسية أمام الشعب مجرد مفهوم نظري يستهدف جذب المانحين الدوليين، فلا بد أن تستمر ممارسات الماضي. أن تكون ناشطًا في السنغال اليوم، في ضوء القمع الشرس الذي مورس في البلد خلال شهري فبراير ومارس 2021، يعني المخاطرة بالتعرض للترهيب، والاعتقال، والسجن التعسفي؛ ويدفع (Guy Marius Sagna) گي ماريوس ساگنا وغيره كثير الثمن بانتظام. وفي هذا السياق، لا يبدو أن الدولة السنغالية تنوي إعادة فتح ملف وفاة عمر بلوندين ديوب. لكن أقرباءه لا ييأسون بالرغم من ذلك: كما يقول بذلك المثل الذي يستشهدون به بانتظام، "مهما طال الليل، تشرق الشمس دائمًا".

فلوريان بوبين، باحث في التاريخ الأفريقي، وفي نضالات التحرير وعنف الدولة في السنغال في القرن العشرين.
Abdelaziz Jadir, écrivain et traducteur, Professeur à l’Université New England (UNE), a publié une vingtaine de livres (romans, biographies, traductions du Français et de l’Anglais vers l’Arabe).

الصورة: عمر بلوندين ديوب وهو يقرأ العدد الثاني عشر من (L’Internationale situationniste)، (1969) داكار، حوالي عام 1970. الصورة الأصلية لبوبا ديالو.