كتابة - إيمان البستاني
إليزابيث سولمان أو (بتي)؛ بريطانية المولد عملت في الهند في حقل التدريس و بدعوة من السيدة (همفريز ) زوجة السفير البريطاني السابق في العراق تم ترشيحها لتكون مربية الملك الصغير فيصل الثاني بعد مصرع والده الملك غازي نتيجة إصابة بالغة في الرأس نتيجة اصطدام سيارته والقصة معروفة لكل ذي عينين.
وصلت إليزابيث مدينة الرطبة في وسط الصحراء المدوية قادمة من دمشق بسيارات شركة نيرن للسفر وكان فيها مطعم يديره أحد الضباط المتقاعدين، عندما وصلت (بغداد ) مدينة ألف ليلة وليلة بدت لها على عكس ما توقعت، صغيرة مقفرة و قذرة، جاءتها سيارة حديثة بسائق سوداني لتأخذها الى قصر الزهور سكن العائلة المالكة في العراق، حيث التقت الملكة عالية في غرفة الاستقبال في الطابق العلوي مع وصيفتها وكانت جالسة متشحة بالسواد حداداً ًعلى زوجها، رأت فيصل لأول مرة يقف قرب الثلاجة طفلاً نحيلاً في الرابعة من عمره، ينادي ممرضته (ميّ ، ماما). لم تكن الملكة عالية تتحدث الإنكليزية وكانت غارقة في أجواء حزن شرقي ثقيل وكان أكثر ما يبدو عليها هو شبابها الحزين و مظهر الاحتشام. كانت شقيقتها الكبرى ( عابدية) تسكن معها القصر وكان من المفروض أن تتزوج هي من الملك غازي لكنها كانت ساذجة الى حد ما.
يعيش في القصر أخوها الأمير عبدالإله الوصي على عرش العراق مع زوجته (ملك فيضي) وكذلك أمه الملكة نفيسة إضافة إلى الأميرتين بديعة وجليلة خالات الملك فيصل الثاني ولم يكن للوصي طفل.
كان القصر غريباً بعض الشيء رغم أن مصممه معماري بريطاني إلاّ أنّ بعضاً منه كان طرازاً شرقياً، تحيط بالقصر حدائق كبيرة غنّاء مزهوة بالأزهار، أما اشجار البساتين خلف القصر فكانت كالغابة نمت بدون رعاية.
أثاث القصر تم استيراده من محلات ( مابلس ) اللندنية الشهيرة، في الممر على متكئ شاهق تجثم أربعة ببغاوات رمادية، كان لفيصل جناح خاص مبرد في الطابق العلوي. يشرف على القصر سيدة سويسرية جاءت في زمن الجد (الملك فيصل الأول) ولوجودها فائدة عظيمة اضافة إلى واجباتها التقليدية، كانت ترعى عدداً من الفتيات الأيتام، بنات شرطي قُتل أثناء الواجب، كانوا هؤلاء يعيشون في القصر وينامون على السطح أيام الطقس الحار .
هناك في الطابق الثالث سيدة أرمنية تصنع الشاي والقهوة حيث اعتادت الأميرات خالات الملك فيصل الثاني قضاء الوقت في قراءة الطالع في فناجين القهوة. كان الملك الصغير يجيد اللغة العربية ويتحدث الإنكليزية بطلاقة، لكنه متخلفاً من الناحية البدنية، لم يركض في حياته، لا يستطيع أن يمشي عشرين ذراعاً دون أن يلهث، لم يكن يستطع أن ينفض أنفه، ولم يضع ملعقة طعام في فمه، ينام في سرير مسيج ويُحمل على الدوام في صعوده وهبوطه السلالم، كان يعيش كأنه ملفوف في قطن.
كان سبب تلك المعاملة يرجع الى الممرضة الإنكليزية (دورا بورلاند) التي أشرفت على رعايته منذ أن كان رضيعاً لكون ولادته كانت متعسرة، لذا بقت تعامل الطفل ابن الخامسة كأنه في عامه الأول بمباركة من طبيب العائلة سندرسن باشا، وهنا قررت إليزابيث او بتي أن تغير كل هذا .
كان يحب قصة (أليس في بلاد العجائب) ويرقص على أنغام اغنية (غنى الحمار) المأخوذة من أحد الافلام، يتطاير فرحاً إذا ما عاكس آمر الحرس الملكي (عبدالوهاب بك السامرائي) برمي قبعته في الماء، أو عند تجواله بالسيارة يتحين الفرص لتحية الناس بطريقة طفولية يملأ مسدس ماء و يرش الحرس ثم يرمي نفسه في أرضية السيارة ليبدو أن مربيته هي صاحبة الذنب! لديه كلب يدعى ( يامي)، أمّا الملكة عالية فكانت لها كلبة تدعى ( روزا). لم يبذل والده الملك غازي جهداً في تربيته وكان يحيا حياة صاخبة، كان فيصل ينام مع ممرضته في غرفة منفصلة و يشكو من ضيق في التنفس.
بعد أسابيع ذهبوا في رحلة إلى مدينة السليمانية في شمال العراق برفقة الطبيب سندرسن باشا و زوجته مع الممرضة بورلاند وجمع من الخدم مع السايس الكردي محمد علي بالاضافة الى العائلة المالكة وكان الهواء النقي لتلك المنطقة أقصى ما يحتاجه الطفل فيصل.
بعد شهرين من إقامتهم في المصيف طلب الوصي عبدالإله من المربية بتي أن ترافق زوجته بالطيارة إلى بغداد ومن ثم إلى قصر الرحاب، في اليوم التالي غادرت زوجة الوصي المصرية إلى مصر برفقة أحد المرافقين وعند وصولهم إلى القاهرة أخبرها المرافق بأنه تم طلاقها من الوصي بحجة إنها لم تنجب له طفل كما يتمنى، كانت زوجة الوصي بائسة في حياتها معه كما تروي المربية الإنكليزية و دائماً في عزلة وحيدة وتُعامل بازدراء خصوصاً من حماتها وكل من يراها مع الوصي يشعر بأنه لا مودة بينهما. في مصر عادت لها حريتها وسيارتها ويختها النهري و ربما حالفها الحظ في ذلك، فلولا طلاقها لما كانت لتنجو من مذبحة سنة ١٩٥٨.
بعد رحلة الشمال بدأت رحلة تعليمه على يد المربية بتي، كان أول درس تعليمه السباحة، كان هناك حوضًا للسباحة في حديقة القصر لكنه مهمل ويحتاج تنظيف فاقتنعت الملكة عالية بتأهيله لفيصل وكانوا جميعاً الملكة والأميرات فخورات بفيصل وهن يراقبن من شرفات القصر. كان على المربية بتي أن تنزع معطفها وتلج الماء بسرعة إذا ما اقتضى وجودها مع فيصل أثناء سباحته. إلى ان أتقن العوم وصار يقوم بالغوص تحت الماء مشبهاً نفسه بالغواصات الحربية، رافعاً أحد أصابعه فوق الماء لتمثل منظار الغواصة.
كان لابد للملك الصغير مشاركة اللعب مع صحبة من الأطفال، لذا كان حضور الأطفال، عراقيين أو إنكليز للقصر للمشاركة بالالعاب الكروية مثل لعبة الكريكت و كرة القدم بحراسة آمر الحرس الملكي و مشاركة الجنود أحيانا في اللعب لينقلب المشهد إلى ضحك جماعي، اغتبط فيصل من هذا الجو الجديد وصار يشارك في سباقات الجري و يفوز فيها ولم يكن يسمح له بالاختلاط في السابق مع أي طفل.
أمّا الأميرات فحياتهن ليست سوى الجلوس في القصر، أو على السطح، لم يسمح لهن ركوب الدراجة أو السباحة رغم إنهن تربّن على يد مربية بريطانية الآنسة ( لوسي سميث) وكانوا يتحدثون و يقرؤون باللغة الإنكليزية وحبذا لو أتيحت لهم معرفة أفضل وأوسع في التاريخ والأدب العربي بدلاً من قراءة الطالع في فناجين القهوة. لم يكن يسمح لهن المشاركة في فعاليات نادي العلوية، مرة واحدة ذهبن إلى السينما ملتفعات بالعباءة العراقية وبالرغم من هذا التخفي وصل الخبر الى أسماع عم الأميرات الامير عبدالله ملك شرق الأردن، فأقام الدنيا ولم يقعدها وهن لم يكررن المحاولة أيضاً.
كانت السفارة البريطانية تتابع حالة تعليم الملك الطفل وأغلب الظن عندهم أنّ والدته الملكة عالية تشرف على شؤون تعليمه اللغة العربية، الواقع كانت الملكة قد تركت الأمر كله بيد الممرضة والطبيب سندرسن باشا إلى أن تولت بتي تغيير كل هذه العزلة .
الحياة في القصر ضمتها المربية بتي في مذكراتها، تقول كان الجميع يحضر إلى صالة الطعام بشيء من الترتيب والنظام، فيصل يصل الغرفة بطائرته مسروراً، تهبط الملكة عالية مع كلبتها روزا ثم تأتي الأميرة عابدية مع أي ضيف إن وجد. يتم تهيئة الطعام لحوالي عشرين شخصاً، الصحون والملاعق من محلات مابلس اللندنية تحمل علامة التاج، و عندما ينتهي الجميع من الطعام يؤخذ الباقي الى منضدة خارج الغرفة، فيتقدم الخدم في انضباط صارم حسب الأقدمية انتهاءً بمربي الكلاب .
لم يكن فيصل يشرب الحليب لذا تم استيراد بقرتين إنكليزيتين يشرب كل يوم قدحاً من حليبهما خلال فترة الاستراحة الصباحية. في رمضان كان يصوم الجميع عدا الملكة لأسباب صحية، وكذلك فيصل لكونه طفلاً وكان يقول أنه يصوم في الليل عندما ينام ! كان فيصل يلبس سورة من القرآن على شكل حجاب مربوط بسلسلة حول عنقه وكان ينزعها عند ذهابه للمسبح.
في انقلاب رشيد عالي الكيلاني توترت أوضاع العائلة المالكة، طلب الوصي عبدالإله من المربية بتي أن تسلم ما يملكه من نياشين ومجوهرات و مسدسات للاحتفاظ بها مع أحد ضباط القوة الجوية، وبعد تسليم الضابط الأمانة للأسف لم يعيدها للوصي ثانية .
أثناء الليل كانت تعاني الملكة عالية من ألم في أسنانها، في الصباح تبين ان الوصي قد غادر قصر الزهور إلى قاعدة القوة الجوية الملكية في الحبانية بعد أن ذهب إلى السفارة الأمريكية وتم إخراجه من بغداد حيث قام السفير الأمريكي( بول نابينشو) و زوجته بنقله إلى مقر القيادة الجوية الملكية بالخفاء في أرضية السيارة وتحت تنورة زوجة السفير .
تأزم الوضع و لجأ اكثر الاجانب للاختباء في مقر البعثة الأمريكية في العلوية وكان الجنود العراقيون الذين يمرون من أمام مقر البعثة ينظرون للأجانب في الداخل ويُومئون بأيديهم بنحر رقابهم وحلقت فوقهم طائرات عراقية وألقيت عليهم بضعة قنابل عن قرب .
عندما قمعت حركة الكيلاني عاد الوصي إلى بغداد وتم إعدام قادة الحركة وهرب رشيد عالي الكيلاني إلى المانيا، لم يكن فيصل في خطر فمكث في القصر مع والدته والمُمرضة والخدم.
عادت الأوضاع طبيعية وعادت المربية بتي بعد أن كانت قد التجأت إلى مقر البعثة الأمريكية وصادف عيد ميلاد فيصل السادس، أعد القسم العربي في محطة البي بي سي احتفالاً بالمناسبة، سُئل فيصل عن أي قصة للأطفال يختار فأجاب على الفور: الفصل الخامس من قصة نصيحة إلى يرقة الفراشة من قصص أليس في أرض العجائب .كان يسر فيصل كتابة الرسائل إلى والدة المربية بتي في إنكلترا وكان ذلك تدريباً جيداً له. كان يكتب في رسائله أنه لا يحب الحساب، و يهوى كتب التاريخ وكانت قد تحسنت لياقته البدنية باطراد رغم أنه كان يعاني من حساسية الفصول.
كانت من دروسه الصباحية فقرة ركوب الخيل مع المربية بتي، كان فيصل يأكل السكر الخاص بحصانه! وصار يخرج لزيارات ميدانية منها المتحف الوطني، كان يسأل عن اسم كل موظف يتقدم لتحيته وقد فرح الجميع برؤية الملك الصغير وكان هو أيضاً فرحاً برؤية القطع الأثرية خصوصاً حلية الرأس الذهبية التي وُجدت في أور.
اشتد الخلاف بين المربية بتي والممرضة رولاند، طلبت الأولى من الوصي رغبتها بالاستقالة لعدم رضاها على طريقة تنشئته، كانت ممرضته تترك فيصل بعد العشاء يستمع الى الراديو حتى وقت متأخر وبهذا لا ينعم بنوم كاف وكان يقلل من شأن هذه التصرفات الطبيب سندرسن وكأن تحالفاً بين الاثنين قائم على تنشئته ضعيفاً.
تعرفت المربية بتي على (جون موريسون) الذي وصل بغداد والذي أصبح زوجاً لها كان قد تطوع لقوات البحرية بينما كان يدرس في جامعة كامبريدج ولحسن حظ بتي فشل جون في اختبار الألوان في الفحوصات العسكرية لذا نُسب للعمل في المراكز الثقافية في الشرق الأوسط واختير لتدريس اللغة الإنكليزية لطلاب الكلية العسكرية العراقية.
عندما أبلغت المربية بتي الوصي عبدالإله بخطوبتها إلى جون، وكان من المؤمل أن يكون جون معلماً لفيصل، طلب الوصي ترتيب موعد ليحضر جون للقصر وأصدر الأوامر إلى حراس البوابة بالسماح لسيارة جون بالدخول وكان ذلك امتيازاً كبيراً أثار حنق الممرضة رولاند فهرعت للملكة عالية والاميرات تبلغهن بأن عين جون تصيب بالحسد! وفيصل سيصاب بالعين حتماً، تم إحضار منقلة الفحم وإحراق بعض خصل من الشعر من رؤوس الحاضرين مع تمتمة لبعض التعويذات وكان المشهد كافياً للمربية بتي بأنه نهاية المطاف، قدمت إجازة زواج ثم انتقلت إلى القدس مع زوجها وبهذا طوت مذكراتها كمربية لملك العراق الصغير .
الصورة الأولى - الملك فيصل الثاني رحمه الله مع مربيته الإنكليزية إليزابيث سولمان صاحبة المذكرات أمام بناية المتحف الوطني
الصورة الثانية - نماذج رسائل فيصل الثاني الى والدة مربيته في انكلترا
التعليقات