ليست الكتابة مهنة كباقي المهن ولا هي وسيلة للتسلية، إنها عمل شاق ومرهق تجعل عظامك تتصدع، تمارس عليك أشد أنواع الضغط النفسي وتهوي على جمجمتك مثلما يهوي الحطاب بفأسه على الخشب، ألم يقل فيها همنغواي "إن الكتابة تبدو سهلة غير أنها فى الواقع أشق الأعمال فى هذا العالم".

تستوجب الكتابة من الكاتب الإلتزام تجاهها وتجاه قضاياه وقضايا مجتمته وعصره وفي هذا الصدد يقول الروائي ماريو فارغاس يوسا مستدلا بموقف الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر "أن إلتزام الكاتب هو إلتزام تجاه زمنه ومجتمعه الذي يعيش فيه". فمنذ آلاف السنين ظهرت أولى الأعمال النثرية الإبداعية وهي ملحمة جلجامش لكاتب مجهول حتى عصرنا الحالي حيث برزت أعمال أخرى خُلّدت وكُتّاب عديدون ساقونا إلى عوالم ومحطات تاريخية وإبداعية وحياتية سافرنا فيها من خلال كتبهم وأعمالهم، لكن في عصرنا الحالي نادرا ما تصادفنا أعمال روائية إبداعية جيدة حتى لكأننا نشعر بعطش كبير حين تولد رواية تأسر النقاد والقراء، وفي زحمة الإصدارات التي تنهال على الساحة الروائية سنة بعد أخرى، يتبين لنا أن الكتابة في معناها الحقيقي كفَنّ وعمل إنقلابي ثوري إبداعي هُجرت ليتقلدها من هبّ ودب فتهافت عليها التافهون من أشباه الكتّاب وإن صحّت صفة كاتب عليهم لأنها لا تطلق هكذا جزافا، وكذلك بعض الكتاب الكبار الذين إنخرطوا في موجة التجارة بالكتابة ليضحوا مجموعة من العجائز المرتزقة الذين يتمعشون من وظائفهم الأميرية وكذلك كتبهم التجارية فمنهم إلى جانب الكتابة يعمل كمترجم أو بالإعلام ...

لقد إنحطت الكتابة وتهاوت حيث تم إغتصابها والإعتداء عليها مع سابق الإصرار والترصد من قبل شرذمة من المرتزقة تاجروا بها واستغلوا سذاجة القراء، وكذلك أسمائهم ككتاب كبار ظهرت لهم روايات جيدة في بداية مسيرتهم أو برزوا عندما كانت الساحة الأدبية تكاد تكون شبه فارغة من المبدعين. فالكاتب الملتزم لا يخون مبادئه وذاته والقارئ والنص من أجل المال فيكتب الغث حتى أصبحت رواياته مجرد عناوين برّاقة مع طبعة جيدة وصورة غلاف جذابة بينما الأسلوب متذبذب واللغة ركيكة والتراكيب ضعيفة. إننا اليوم نشهد أفول الكاتب الملتزم وصعود أسهم الكاتب المزيف والمرتزق. بعد تجربة سنوات طويلة في مصاحبة الكِتاب والمؤلفين في كل التظاهرات التي أقامتها مبادرة "تونس تقرأ"، يمكن أن أقول أن إستفحال هاته الظاهرة يعود لغياب الناقد الحقيقي والنقد الذي يرمي نباله على هؤلاء المتحذلقين، أستشهد بقول يوسا في هذا الشأن "إذ يمكن للنقد أن يكون مرشدا عظيم القيمة في النفاذ إلى عالم المؤلف وأساليبه" كما يضيف رولان بارت قائلا "النقد لا يسعه أن يدعي ترجمة العمل الأدبي إلى صيغة أوضح، إذ لا صياغة أوضح من العمل الأدبي ذاته". لا يمكننا الإقرار اليوم بغياب الناقد عن الساحة الأدبية العربية لكن يؤكد تهاطل الروايات المهترءة على إزاحة الناقد من الواجهة وركنه في رفّ مهمل وكأننا بأحفاد تودوروف ورولان بارت لم يعد لهم فائدة في عصر ثقافة الإستهلاك التي طغت على جميع الميادين حتى عالم الرواية.

لكن للسائل أن يتساءل: عندما يكتب روائي عربي كبير رواية خالية من مضمون جيد وبلغة لم نتعود على إتيانه بها إذ تكون أقرب إلى العامية منها إلى الفصحى فتصيب القارئ بالغثيان، هل يحق للقارئ _بإعتباره الحكم هنا_ بأن يطالب المؤلف بإعتذار رسمي عمّا كتب ويطالب دار النشر بسحب هذا الإصدار من الأسواق لأنّه تسبب في إسهال للذائقة الأدبية؟

هنا، علينا العودة إلى الدور الذي يلعبه الناشر خاصة في نشر كتاب من عدمه بعد الإطلاع عليه وتقييمه، يتضح لنا أنه مع كثرة دور النشر فإننا لم نعد نفرّق بين الناشر الحقيقي الذي إلتزم بإصدار كل ماهو إبداعي، وبين الطابع الذي لا يكترث للعمل المقدم ومحتواه بل هدفه أن يكون حاضرا في سوق الكتب بمجموعة من الإصدارات. إن التنافس الذي تشهده دور النشر في ما بينها أضحى سباقا في تكديس الإصدارات وإغراق السوق بكتب مفرغة فقط همهم الوحيد هو الربح ولاشيء غير الربح.

يبدو أن الكتابة الروائية تواجه مأزقا كبيرا في ظل زخم الإصدارات الفجّة التي تنهال علينا يوميا، كما علينا مراجعة مفهوم الكاتب الملتزم والناشر الملتزم أمام تقلّد المرتزقة والمتحذلقين مهنة الكتابة، لذلك علينا مناشدة الناقد العربي كي يضطلع بهاته المهمة الإصلاحية، ونختم مقالنا بإقتباس للناقد الفرنسي تزفيتان تودوروف يقول "يستطيع الأدب أن يفعل الكثير. ويمكنه أن يمد لنا يد العون عندما نكون محبطين بعمق، ويقودنا نحو الكائنات الإنسانية الأخرى التي تُحيط بنا، وأن يجعلنا نفهم على نحو أفضل العالم، و يُساعدنا على العيش، وليس هذا لأنه يمثل تقنية لمعالجة الروح قبل كل شئ، فهو يستطيع ايضا، في هذه الأثناء، أن يحول كل واحد منّا من داخله، ولذا فإن للأدب دورا جوهريا يقوم به".