تمكنَّ التعب مني بعد الانتظار الطويل، قال لي عندما اتصلت به انتظريني بمكاننا المعهود وبنفس الوقت انا متلهف لرؤيتك حبيبتي. سرى دمٌ دافئٌ في شرايني ورعشة بردٍ في مفاصلي رغمَ حماوة الجو، انتظرتهُ بكل لهفةِ العشاق، انني أحبه منذ زمن بعيد لا آتذكر مداه، منذ ان قال لي صباح الخير، انا لا أعرفه شخصياً، إنه ليس قريب لي او قدمته لي صديقتي، بل هو واحد من عشرات الشباب المتواجدين حولي، إنه كما نقول زميل لي لكنني لا أنتبه له أو أعرفه شخصياً، هو الذي قدَّم نفسه لي عندما القى عليَّ التحية في صباح يوم مشمس، كأنه واقفاً ينتظرُ أحداً ومررتُ من امامه فالقى عليَّ التحية بابتسامة عريضة تشع من وجهه واقفاً بقوامه كلاعب كرة السلة، نظرتُ اليه بكل استغراب وفي اعماقي سرتْ رعشةٌ من الاستغرابِ ماذا يريد مني!!، خاطبت نفسي بصمت لنرى ماذا يريد اذا كان مجرد سلام فعليه لكنه مشى الى جانبي وقال لي اسمه، ما زلت صامتةً ثم استطردَ بأنه معجب بلعبي كرة المنضدة وكان يتابعني كلما العبُ مع زميلاتي فشكرته على متابعتِهِ للعبي لانني من اشد المعجبات بكرة المنضدة ولي نجاحات افتخرُ بها، التفتُ اليه لاقولَ شيئاً لكنَّ لساني تجمدَّ كأنني نسيت الكلامَ، لقد فقدت القدرة على مقاومة نظرته في هذا الصباح المشمس، ابتسم لها بكل حب وقال لنمشي الى الداخل دعيني اشتري لكي كوب شاي لان الجو بارد بعض الشئ.

سبقني بخطوةٍ فنظرت اليه وهو يمشي بخطواتٍ كأنهُ يقيسها فأحست بنشوة لا أعرِفُ ما هي، إنها خطوات فقط لكنني احست بشعور جعلني أبتسِمُ مع نفسى ابتسامة لم تجد لها تفسيراً، تعمدت بأن تكونَ خلفه لتتمعن بمشيته التي اصابتها بهذا الشعور الغريب، التفت اليها واعتذر لانه سبقها لكني رددتُ عليه بكل عذوبة لم اعهدُها من نفسي لانني أُتهم بالقوة وانعدام الشاعرية في اجوبتي من أخواتي وصديقاتي ، واستمروا بالمشي حتى وصلونا قاعة محاضراتِي فانتظرِ خارجاً حتى وضعت كتبي ورافقته الى نادي الكلية إنهُ دعاني على كوب الشاي وكما اعتقدت ليتعرف على من أنا، ولانني اردتُ معرفةَ من هو عن قرب، انها المرة الاولى التي أُلبي دعوة زميل لى على كوب شاي ، ما الذي دفعني للقبول؟؟ أنا نفسي لا أعلم …. بقيت أُحاور نفسى مع نفسي لمحاولةَ ايجاد تبرير لقبولي ،لها السريع وشعورها الغريب اتجاهه. بدآ يتكلم ، قدَّم نفسه ، من هو بكل بساطةٍ كأنه اعدَّ هذه المقدمة ليلة البارحة بل ربما قبلها لانه تعريف منظم اعطاني صورة كاملة عنه . سكت ثم التفت اليَّ وقال دوركِ لتقولي من انتي… اخذتُ رشفهً من كوبِ الشاي، لقد كنتُ بحاجةٍ لسائلٍ يرطبُ بلعومي ، لا اريدُ ان اتلعثم في تقديمي نفسي ، انه طلب غريب من شخص غريب تعرفتُ عليه قبل نصف ساعة وكان لقائنا على كوب شاي لن انساه ، اخذت رشفةً من الشاي وبدأت أقولُ له بشكل ملخص من أنا. اخذتُ استراحةً لاغطي خجلي لكنهُ ابتسمَ وقال انا محظوظٌ بالتعرفِ عليكِ، سألته لماذا أنا ؟

ردَّ بِكُلِ هدوءٍ كهدوءِ نظراتهِ التي كانَ يتفحصُ بها وجهي، انتبهت له وقلت لنفسي قومي واتركيه لنفسه ولننتظر ما هو اثر الشاي علينا،،، بيني وبين نفسي وبكل هدوء بعد ان اقسمت لي بأنها مخزن اسراري، قالتْ لي انا نفسكِ وحافطةَ اسرارك قولي لي كل شيء لكنني لمْ املكْ ايَّ شيءٍ لأقولهُ، احتاجُ الى وقتٍ ووقتٍ وووقتٍ اخر لارسم صورة عنه. اعترفُ بانني لن ابرىء نفسي من الميلِ اليه، ويبقى السؤال ما هو نوع هذا الميل عزيزتي؟ اريد وقتاً، ضحكت عليَّ صديقتي وعرضت عليَّ خدماتها بأن تأخذه مني حتى لا اضيّعُ الفرصة من يدها، لقد مرَّ علينا عام ودخلنا في العام الثاني وما زلنا لم نرتبط، وهذا شيء غريب في الاعراف والنظم الاجتماعية التي نعيشها.

بعد هذه المشاعر الجياشة بقينا اصدقاء، صحوت من الضياع في الذكريات على صوته يعتذر لأنه تأخر وبقي يلوم المواصلات وتعبها وانا غارقة في النظر الى وجهه، هل تغير شئ فيه؟

لقد كان الجو جميلا في هذا الشهر القارص البرودة لكنني لم اشعر بالبرد ففصل البرد من اجمل فصول السنة. جميع صديقاتي يعتبرنني مجنونة لعشقي فصل الشتاء. احتظنتُ حقيبتي اليدوية الى صدري وبقيت اسير، الى اين نحنُ ذاهبون لا ادري لاننا نتبع اقدامنا فقط دون تخطيط، المشي بدون هدف يعطيني النفس الطمأنينة والتخلص من القيود الرسمية عندما نشعر بأننا لا نملك موضوعا معينا نتكلم فيه كالعادة فالكلام دوما ياتي بدون تخظيظ، ربما يكونُ هذا شيئاً غريباً للجميع، والمتعارف عليه ان التقى اثنان فهناك الكثير من القصص والحواث والاخبار وقضاياهم الخاصة لن تنتهي طيلة ساعات اللقاء

لكننا حالة خاصة لم نكن نجتمع لنتكلم من اول لحظة نلتقي بها. هو بطبعه قليل الكلام مشغول البال هناك امور لم اتعرف عليها في حياته الا بعد فترةٍ استطيع ان اقول طويلة بعض الوقت. كنت اسأله بعض الاوقات ما الذي يشغله فكان يرد بانه لا شي هناك وعليه لا تُقلقي نفسكِ بأشياءَ لا تعني لكي شيئاً، وهكذا كانت تسيرُ الامور وانا بكل غباءٍ سعيدةٌ بها مادام انه اكدًّ لي بأنهُ لا شيء يدعو للقلق.

صديقاتي كن يسالنني ماذا يدور بينكما من احاديث بشكل ملح ومتكرر وكنت ارد عليهن بنفس الجواب لا شيئ يستدعي اللهفة لمعرفه ما يدور من احاديث بين زميلين لا اكثر فيضحكن ضحكتهن الخبيثة والتي اعتدت عليها كاعتيادي على جميع امور حياتي الهادئة.

كانت هناك اسئلة كثيرة تدور في ذهني صممت ان اناقشه بها وبشكل جاد لكنني كنت انتظر مكانا نستطيع الجلوس فيه حينها ساطرح كل اسئلتي عليه.

لقد نشأت هذه العلاقة من دون تخطيط لها، لحظة لقاء وصدفة كانت تحمل معها فيروس ليس على البال، كانت حياتي هادئةً احلم باكمال دراستي الجامعية والعمل بعد التخرج كي اجمع بعض المال وحينها اشد الرحال لاكمال دراستي العليا. كنت منذ طفولتي اضع امام اسمي د. او الدكتورة وابقى اتمعن بها واحلمُ واحلمُ وبعدها يزداد اصراري سنةً بعد سنةَ لتحقيق هذا الحلم، كنت اتسلى عند سماع قصص الطالبات عن الصبيان والحب وسماع الاغاني العاطفيه، كن يجتمعن في فترة الغذاء كل واحدة لديها قصة او مغامرة والكل يطلبن المزيد، كنت اسمع بكل لهفة هذه القصص وغيرها عن تغيرات اجسامهن واغاني فيروز التي كنت اسمعها لكن ليس بهذا الشغف الجنوني من التأوه والضحك. كل شيء كان جميلا سماعه لكنني مصرة على الابتعاد عن هذه كما كنت اسميها تفاهات، ان لقب الدكتورة كان اجمل من التأوه على الاغاني ومعاكسات الشباب وتبادل الرسائل سراً، لم انكر انني اعشق الموسيقى واطرب لاغنية جميلة. كانت الموسيقى رفيقي في دراستي، لا استطيع التركيز اذا لم تكن هناك موسقى تدرس معي. كنت اتصور بان الموسيقى هي التي تنظم الحياة وتضفي عليها حلاوة الاحلام، الاماني وحتى حلمي بالحصول على الدكتوراه. وعليه لا مكان عندي لكل شقاوة المراهقة. سألتني صديقتي المقربة لي انذاك اذا كنت اعرف احداً فشعرت نوعاً من التطفل على حياتي المخطط لها من قبلي بقدسية، وعليه اصبحت ليس لها وجود في حياتي لانها خدشت قدسية تخطيطي لاضغ الدال نقطة امام اسمي فلا مجال لاضاعة الوقت.

التفت حولي فوجدته جالساً قبالتي ينظر بوجهي بإمعان وكوبين من القهوة على الطاولة تنبئُ عن وجودهما من خلال البخار المتطاير منهما، كم كنت بحاجة لارتشافها بنفسٍ واحدٍ لأسيطر على البرد في مفاصلي، واذا به يولع سيجارته بكل نهم فقلت معاتبة إنك تعاني من بردٍ شديد فلماذا التدخين؟ تجاهل سؤالي وامتص سيكارته كما يمتص الطفل حلوى شهية.

احسست ببرود فيما بيننا واحببت ان اعرف سببه، لكنني لم اسمح لنفسي اعتزازاً بكرامتي، استأذنته بالمغادرة فلم يرد عليَّ، جمعت حاجياتي من على الطاولة ومشيت.

مرت ايام لم اتقرب منه، امر من امامه بكل هدوء عسى ان يشعر بالهواء الذي اقتحمته ومن عطري الذي يحبه، لكن كل محاولاتي الصامتة لم تجدِ نفعاً، حتى وصل بي حد التحمل اقصاه فتقربت منه ووضعت كتبي على الطاولة وسألته مداعبةً اياه كيف الحال؟ فرفع راسهُ من على الكتابِ وقال اين انتي؟ اين غبتي؟ ولماذا الاهمال منكِ؟ اصابتني دهشة شديدة وبقيت انظر الى وجهه الذي اعشقه فضحكت بخباثتي المعهودة معه وقلت كنت مسافرة، قال الى اين؟ قلتُ الى وادي الاحلام.

اخفيتُ ابتسامة باكية في اعماقي ومشيت، سمعت صوته ينادي الى اين انتي ذاهبة؟

بقيت ماشية الى اين ؟لا اعرف فقط اردت الابتعاد، وعلى حين غفلة سمعت صوت صديقتي تناديني وتطلب مني أن لا اسرع، لم اعرها اهتماماً واذا بها تسحبني من بلوزتي وسألتني ماذا بكِ؟ كنت في عالم اخر لم اسمعها لكنها وقفت في طريقي لايقافي عن المسير وقالت ما الذي حصل؟ لم اجبها على سؤالها وبادرتها بسؤالي اذا كانت ترغب ان نخرج الان لنتناول كوباً من القهوة لأنني بحاجة للخروج لأبتعد عن المكان.

تركت صديقتي ومشيت لوحدي خارج المبنى اشعر كان الكون كله انهار فوق جسمي المثقل بالافكار الكئيبة، عبرت الشارع بدون ان انتبه لمرور العربات واذا بصوت سائق احد العربات يتهمني بالجنون. شعرتُ لحظتها بأن احلامي تفتت أمامي بحريق رهيب. فكرتُ بسرعة وقررتُ بأن اللعبة ماتت بعد احتضار، شترت بلكزةٍ بكتفي استدرت فإذا به يقول وقد ملئ الحزن صوتهُ لنلتقي غداً على كوب شاي ونتكلم، نظرت إلى عينيه وقلتُ وألم يذبح قلبي " أسفةٌ خسرنا الميعاد" وبقيت امشي وأنا أُكرر لقد مات الميعاد.