يتضمن هذا اللقاء أكثر من محور، لعل الأهم هو الذي يتناول إختلاف أشكال التعبير وطرق الاداء عند الممثل الغربي والممثل في دول العالم الثالث. أما الآخر فيتحدث عن العلاقة بين الممثل والجمهور، وكيف تتّولد الطاقة بينهما لتؤجج حرارة العرض. محور آخر يناقش فيه محاكاة الممثل لدوره أو التواري خلف الدور. المحور الأخير يتناول وحدة طاقم التمثيل التي تنمو تدريجياً أثناء سير عملية البروﭬات لتكتمل لحظة العرض.

ففي حديثه عن إختلاف أشكال التعبير وطرق الاداء عند الممثل الغربي والممثل في دول العالم الثالث يورد مثالاً من تجربته الحية، ففي إخراجه لعمل شكسبير «العاصفة» أسند الدورين الرئيسيين (بروسبيرو) و (أرييل) لممثلين أفريقيين وكان أحد الأسباب وراء ذلك كما يقول هو شعوره «بضرورة تخّطي لعبة المحاكاة الغربية». فالممثل الأفريقي الذي قام بتجسيد دور بروسبيرو، بسبب نشأته في غابات أفريقيا ولأن السحر هو واقع يومي بالنسبة له، حين قام باداء هذا الدور لم يلحظ أحد من الجمهور فارق بين الممثل وبين الشخصية الوهمية التي يقوم بتجسيدها فقد أصبحا شيئاً واحداً. في حين أن معظم الممثلين الغربيين الذين قاموا باداء هذا الدور لجأوا إلى الحيلة والخداع عبر استخدام لحية زائفة، أنف زائف، أو صوت متكلف…الخ، من أجل خلق شخصية ساحر زائف ومصطنع. فالممثل الغربي، من منظوره، هو شخص يضطلع بمهَّمته بوصفه مؤّدياً للدور، ولهذا السبب يتطلب عمله مجهوداً مضنياً ونشاطاً ظاهرياً أو سطحياً، إلا إن كل هذا المجهود يفتقر إلى الصدق، لأن الدور قد ابتلع الممثل فهو لا يعرف حقاً ماذا يفعل وأصبح «مثل عربة سباق، حيث يتحول السائق ذاته إلى عربة ولم يعد هناك من يقودها» على حد قوله.


مسرحية العاصفة

الممثل الحقيقي، حسب بروك، عليه أن يدرك ما يفعله تماماً ضمن حدود الدور ليبدأ في ملأ الفراغات الموجودة في ثنايا الدور، لهذا فهو لن يتوارى تماماً عن الأنظار إنما هو مثل الشيء وظله. والصورة التي يستخدمها هنا هي أن الممثل والدور «هما أشبه بيدٍ داخل قفاز».

الاكتشاف الأكثر إثارة للاهتمام الذي توصل اليه بروك خلال جولاته في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية هو علاقة طقس الاستحواذ بالأداء. ففي إقليم «يوربا» النيجيري، كان قد شهد هذه الممارسة في هذا الإقليم الذي كان لدى الناس هناك اعتقاد سائد هو أنه كلما ارتفعت درجة الاستحواذ أو المّس، التي يصل إليها المؤّدي كلما ازداد وعيه. ممارسة الطقس هذا تسفر عادة عن تغييرات تدريجية جلية في ذهن الشخص الممسوس تُفضي إلى هيمنة الإله على روحه، لكن رغم ذلك يُحس ويشهد كل ما يحدث له تماماً. في تلك اللحظة، حيث هو في حالة غياب وحضور في ذات الوقت، يصبح لُغز الاستحواذ هذا نوعاً من إصلاح النفس، تطهيرها أو ترويضها داخل ذلك الشخص.

وحول مستويات الجمهور في التلقي وإيجاد روابط مشتركة بينهما يأتي بشكسبير مثالاً على أهمية توحيد جمهور العرض في عملية التلقي، فهو، أي شكسبير، كان يناوب طوال الوقت بين هذه المستويات ضمن حدود النص الواحد، وفي هذه الحركة المتأرجحة بين المستويات يبقى على صلة مع الجميع. بمعنى، أنه كان يستخدم عنصر من الميلودراما الفظة يتبعه بعنصر من عالم السياسة، وفجأة يأتي شيء آخر يحيلنا إلى فكرة عسيرة ومعقدة. فمسرحية «هاملت» مثال جلي عن الكيفية التي استطاع فيها شكسبير أن يكتب لجمهور غفير متنوع المستويات، فبالرغم من أنها مسرحية فلسفية عميقة إلا أنها في ذات الوقت منفتحة وسهلة المنال وتتمتع بشعبية واسعة بوصفها إحدى أكثر المؤلفات الدرامية التي جرى عرضها على نطاق واسع على مدى التأريخ.

ما كان يفعله شكسبير، يشبهه بروك بما تفعله الأفلام السينمائية الضخمة اليوم فالأفلام المميزة عموماً بإمكانها أن تجمع جماهير مختلفة الوعي والتلقي إلى حد كبير. فثمة عدد كبير من الأفلام التي جرى عرضها في نيويورك لجمهور ذات مستوى متطور قد جرى مشاهدتها في مناطق نائية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ومع ذلك فكلا الجمهورين كان يرى جوانب مختلفة منها، وهذا هو بالضبط ما كان يفعله فن شكسبير الذي لن يتفوق عليه أحد.

وحول وحدة طاقم التمثيل، أو، ما يسميه بروك بـ «الذهن الجمعي» تتحقق هذه العملية أثناء سير عملية البروﭬات لتكتمل في لحظة العرض، فعمل المخرج يبدأ بأخذ مجموعة من الممثلين غير موحدين، لكن عبر التمرين والمران يمكنهم بالتدريج أن يرتقوا إلى مستوىً آخر يصبحوا فيه ما يطلق عليه بروك عبارة «الرواة ذو الرؤوس العديدة». بمعنى، الأمر شبيه برواية حكاية غير أنها تروى عبر العديد من الألوان والشخصيات.

وحول العلاقة بين الجمهور والعرض، والتي يسميها بروك بلحظة العرض الحقيقية على المسرح، يرى أن ثمة عملية كيميائية وفيزيائية ومغناطيسية تدخل في تلك اللحظة حيز التنفيذ لتبدأ الطاقة في التدفق. فهي تبدأ بالممثل لتنتقل بالعدوى إلى الجمهور داخل قاعة العرض فيشرع العمل في إثارة الجمهور وتنشيطه أو إيقاظه، كما يحب بروك أن يسميه. بمعنى، إن ما يفعله الممثل هو إيقاظ وعي ذلك الجمهور من غفوته، وهذا الأمر بدوره يُنتج نوعاً من الطاقة. هذه الطاقة تصبح بمثابة مصدر إلهام للممثل. وهذا الأمر يشبهه بيتر بروك بعملية الطهي، فموجب تلك الطاقة ترتفع درجة الحرارة الجماعية بين بين الممثلين والجمهور بين خشبة المسرح والقاعة.

نص اللقاء

القسم الأول

س: هل تعتقد أن تقاليد المسرح الياباني لديها شيء ما يمكن أن تقدمه اليوم إلى المسرح الحديث أم أنها تبقى مجرد تقاليد؟

ج: الإجابة لا يمكن أن تكون بنعم أو لا. ثمة تقاليد ومسرح تقليدي في كل مكان في العالم. حين بدأتُ مشواري المسرحي في إنكلترا كان ثمة تقليد واحد فقط هو المسرح الشكسبيري، وهو تقليد بشع ومقيت حقاً، لأن كل ما كان يُقدّم لم يكن له أي علاقة بشكسبير إطلاقاً .

والآن، لو أتينا إلى التقاليد المسرحية اليابانية العظيمة «نو»، «بونراكو»، «كابوكي» علينا أن ننحني ونشيد بها لأنها بمثابة أعظم الأشكال التي عرفها المسرح العالمي على الإطلاق. إنها أشكال جمالية استثنائية تحّدد معايير جبارة للجودة، الجودة الخالصة، بل الجودة على جميع المستويات.

والأهم من كل هذه الأشكال هو مسرح الدمى «بونراكو» على وجه الخصوص لسبب بسيط. فبغض النظر عن جودة الصورة وجمالها، ثمة شيء ما ينبغي أن تُبعث الحياة فيه كل مرة ألا وهو العلاقة الحية المتبادلة الرائعة بين الدمى ومحركيها. وهذا الفن فن حي يجري عرضه اليوم أسوة بالفنون القتالية.


مسرح الدمى الياباني

هذا الأمر لم يكن موجوداً في الماضي، فبالرغم من العمل الطويل والمكرر لمحرّكي هذه الدمى، إلا أنه يتعين عليهم، في كل عرض، أن يعيدوا اكتشاف هذه العلاقة الاستثنائية بين شخصيات العرض، وهي الدمى التي يبعثون الحياة فيها، والعمل الذي تقوم به تلك الدمى ذاتها.

إنها ممارسة فائقة، بغض النظر عن الحكاية التي تُروى، فهي تضع معياراً للجسد، للحساسية، لرشاقة وخفة واداء كل الممثلين بجميع الأنماط والأساليب في كل أنحاء العالم.

إنها ذروة في العلاقة المتبادلة، ذروة في العمل الجماعي، ذروة في مشاعر ووجدان فريق العمل، وهي تتطلب أعلى مستوى من الحساسية البدنية، العاطفية، والفكرية.

لكن، من وجهة نظر أخرى، لا يمكن للمرء القول أن أي شكل أو نموذج تصويري قد أصبح متجمداً (frozen ) ولا يمكنه التعبير حقاً عما ينبغي التعبير عنه في الوقت الحاضر. ويمكن أن تجد تماهياً له بأشكال مشابهة في الهند وجنوب شرق آسيا.

أشكال كهذه ينبغي أن تكون موضع إعجاب بذات الطريقة التي نعجب فيها بالقطع الفنية الرائعة في المتاحف أو الأعمال الموسيقية العظيمة من الماضي والتي تُعد في غاية الأهمية مثلما نجدها اليوم وهي تُظهر درجات فائقة من الإحساس بالجودة. لكن عندما يكون الإحساس العام بالجودة هابطاً للغاية حينها يصبح من الصعب تحقيقها. ينبغي الاحتفاظ بهذه الأشكال بأكبر قدر ممكن بوصفها أشكالاً حية، لكن لا ينبغي الاعتقاد أنها يمكن أن تكون بديلاً عن إيجاد أشكال جديدة في الوقت الراهن.
بوسع المرء رؤية مثل هذا التجديد في التقاليد اليابانية مجسداً بشكل بارز وممتع في تصميم الأزياء مثلاً، فقد ابتكر المصممون المبدعون تجديداً حقيقياً باستخدام أساليب ومواد ورؤى تنبثق من الزمن الراهن دون أن يتجاهلوا تراثهم، لأنه إغفال الجمال المذهل للأزياء اليابانية التقليدية بأي شكل من الأشكال يعتبر نوعاً من الارتياب والتحدي.

***

س: في التقاليد المسرحية اليابانية، كابوكي مثلاً، ثمة أهمية كبيرة تُعلّق على الحركات النمطية التقليدية التي تسمى (كاتا). كيف تقيّمون هذا النمط من ثقافة التعّلم هذه؟

ج: مرة أخرى أقول لا يمكن أن تكون الإجابة بنعم أو لا، لأن الأمر أكثر من ذلك بكثير. كيف تُحس أنت نفسك ازاء حركات كهذه؟ لو أحسست أن المطلوب هو محاكاتها على نحو كامل، حينها يمكن أن تكون عائقاً، لأن محاكاتها سيُفضي حتماً إلى القول: «وما المشكلة في ذلك؟ لقد تعلمت محاكاة شيئاً عسيراً للغاية مثلما يفعل أي شخص آخر ذلك».

ما الجدوى من ذلك إذن؟ ومع ذلك، وهذا أمر نادر جداً بالطبع، إذا استطعت تجاوز هذا الأمر وذهبت إلى القول: أن هذا الشكل الصعب هو أشبه بجسر، وإذا استطعت احتوائه واستيعابه بشكل تام إلى الحد الذي يوصلني إلى الضفة الأخرى، يمكنني حينها العثور على شيء ما تدّب الحياة فيه في داخلي. وهذا أمر مختلف تماماً.

ليس لدي المعلومات الكافية عن ذلك بشأن اليابان ولكن في الهند شاهدت الكثير من هذا في الرقص الكلاسيكي، فقد تحرر الراقصون العظام تماماً من استخدام الأشكال للتعبير عن الحقائق الانسانية العميقة.

الشيء ذاته يمكن أن تجده في أوروبا في ميدان الباليه الغربي الكلاسيكي مثلاً، فالراقصون العظام، وهم قلائل، يتجاوزون الشكل، والشكل في الآخِر هو مجرد عنصر مساند أو أداة دعم لا يمكن أن ينبثق من خلاله إلا شيء طفيف للغاية.

لقد شاهدت راقصة هندية رائعة تقوم باداء حركات بشكل مفتعل للغاية، وكان المشهد يجّسد أمّ تنادي على طفلها. والطفل هو الإله كريشنا الصغير.(*)

إن كل ما يمكن للمرء رؤيته أو لمسه من ذلك الاداء ليس الشكل المعقد إنما الطبيعة المحضة لمشاعر أم ازاء طفلها الصغير ليس غير.

وبنفس الطريقة شاهدت راقصة باليه أوروبية رائعة قامت باداء شخصية جيزيل، الفتاة القروية التي وقعت في حب رجل إقطاعي ظناً منها أنه فلاح. (**)


باليه جيزيل

الأمر ذاته يحدث هنا أيضاً، فكل ما يمكن رؤيته في أداء تلك الراقصة هو الشعور الصادق بالجنون في هذه الشخصية. وهذا أمر استثنائي ونادر جداً بالطبع. هذا شيء نادر وغير مألوف للغاية في الهند بالذات.

واليوم ثمة إقرار شائع في معظم المدارس الكلاسيكية يتمثل في سعي طلاب تلك المدارس جميعهم لبلوغ أقصى مستوى من البراعة. وقد بلغوا بالفعل إلى المستوى الذي يمكنهم القيام باداء وإظهار الحركة الصعبة. من هنا يبرز السؤال، ومن يأبه بذلك؟

إن من يأبه بذلك هو فقط الشخص الذي يروم استخدام تلك الحركة بطريقة مماثلة لاستخدام مقطع شكسبيري من أجل أن تفضي إلى شيء أبعد من ذلك بكثير.

***

س: لقد كرّست سنوات عديدة من حياتك وأنت تضطلع بإخراج مسرحيات شكسبير، وأفترض سلفاً أنك كنت تعكف على دراسة عصره ومجتمعه. ما هو موقفك من جمهور المقاعد الأمامية في قاعة العرض؟ هل كان الجمهور الذي يحتل الصفوف الأمامية القريبة من خشبة المسرح يأتي لغرض مشاهدة المشاهد البذيئة والفاضحة، أم أن ثمة مستوى أعلى من الفهم والاستقصاء بين الجمهور عما نراه اليوم؟

ج: حسناً، لا أظن أن هناك مجالاً واسعاً للجدل هنا. لقد أدرك شكسبير أكثر من أي كاتب مسرحي آخر نعرفه مدى الحاجة إلى جعل ما يحدث على خشبة المسرح انعكاساً لجميع أشكال الحياة. ما أعنيه بجميع أشكال الحياة، الحياة في بُعدها الفلسفي، الروحي، الداخلي، الفكري، وأيضاً الحياة في بُعدها الشعبي. هذه الأبعاد جميعاً هي بمثابة وجوه مترابطة لهذا الحشد الجماهيري الهائل الذي ندعوه”التجربة الحية“.

وشكسبير كان يعلم، وهذا أمر اكتشفته من خلال تجاربي التي مررت بها طوال حياتي، هو أن في إمكانك القيام بذلك فقط إذا اقترن الأمر بجمهور مماثل، وبأن ما تنتجه على خشبة المسرح هو بقدر ما يمكن لجمهورك أن يتلقاه. فإذا كان جمهورك أكاديمي محض ينبغي أن تقّدم له مسرحيات فكرية لكي ترضيه، أما إذا كان جلّه من عامة الناس، بأدنى معنى للكلمة، فعليك أن تقدّم له عملاً شعبياً مسّلياً وسهلاً.

أن إيجاد روابط لهذه المستويات هو أحد أصعب الأمور في جّل الأنشطة البشرية بالطبع. لكن هدف شكسبير ونتاجه الفني كانا على الدوام هو إشراك كل مستويات الجمهور في ذات الوقت.

الشاعر الانكليزي تيد هيوز كتب كتاباً مذهلاً عن شكسبير حلل فيه هذا الأمر من زاوية المقطع الواحد: كيف يستخدم شكسبير، ضمن مقطع واحد، كلمة مُتقنة لم يستطع معظم الجمهور فهمها، باستثناء المثقفين الذين كانوا يجلسون في الصفوف الأمامية القريبة من خشبة المسرح، ومن ثم باستخدام حرف العطف «واو» متبوع على الفور بكلمة أخرى تحّول المعنى ذاته إلى الاستخدام اليومي المألوف له تماماً.

هاتان المفردتان، معاً، الكلمة المُتقنة والكلمة اليومية المألوفة، حين وضعتا جنباً إلى جنب، منحتا الإثارة والاعجاب لكلا الصنفين من الجمهور. وهكذا، وفي ومضة سريعة، يصبح كلا الصنفين من الجمهور على قدم المساواة في المشاركة لما يحدث على خشبة المسرح.

أعتقد أن شكسبير قد فعل شيئاً سنظل نتعلمه في المسرح على الدوام، وهو ما يعرفه كل خطيب أيضاً، وهو أن لا ندع أي صنف من أصناف الجمهور ينسل أو ينزلق من أيدينا لمدة طويلة. ولأن المرء يدرك تماماً بوجود ظاهرة كهذه عند الجمهور، أعني، الجمهور الذي يخمد أو ينطفىء، لذا يصبح هدف العمل المسرحي برمته هو أن لا تغفل جمهورك أو تفقده حتى للحظة واحدة، لأنك لو فعلت ذلك حتى ولو لبضع ثوان، فمن الصعب جداً الإمساك به ثانية.

ولو تأملت بنية مسرحيات شكسبير يمكنك أن تجد أنه يناوب أو يبادل طوال الوقت بين مستوىً وآخر. وفي هذه الحركة المتغيرة أو المتأرجحة بين المستويين يبقى على صلة مع الجميع. ثمة عنصر من الميلودراما الفّظة يُتبع بعنصر من السياسة المتمرسة، وفجأة يأتي شيء آخر، شيء يُحيلنا إلى فكرة عسيرة ومعقدة للغاية.

خذ هاملت مثلاً. إذا ظننت أن هاملت هي مسرحية فلسفية عميقة لا تنضب، إلا أنها مع ذلك مسرحية منفتحة وسهلة المنال تماماً وتتمتع بشعبية واسعة بوصفها إحدى أكثر المؤلفات الدرامية التي جرى عرضها على نطاق واسع على مدى التأريخ. وهذا مثال جلي للكيفية التي استطاع فيها شكسبير أن يكتب لجمهور غفير جداً. لقد كان يفعل تماماً مثلما تسعى صناعة الأفلام السينمائية الضخمة اليوم إلى تحقيقه وتحرز النجاح إلى حد ما. فالأفلام المميزة عموماً بوسعها أن تجمع جماهير مختلفة من ناحية الوعي والتلقي إلى حد كبير. ثمة عدد كبير من الأفلام الاستثنائية التي جرى عرضها في نيويورك مثلاً لجمهور ذا مستوى متطور للغاية قد جرت مشاهدتها أيضاً في مناطق نائية من الشرق الأوسط وآسيا من قبل جماهير شعبية بسيطة. فقد شاهد تلك الأفلام كلا الجمهورين في ذات الوقت، ومع ذلك فكل منهما يرى جوانب مختلفة منها. وهذا هو بالضبط ما كان يفعله فن شكسبير الذي لن يتفوق عليه أحد.

هناك أمران لا يمكن لنا وليس بمقدورنا نكرانهما بشأن شكسبير مطلقاً. الأول، الطبيعة الشعبية لأعماله التي أثبتتها الإحصائيات وحجم انتشارها وعروضها في جميع أنحاء العالم. والأمر الآخر، وهذا ما أعتقده أنا شخصياً، أنه ليس بإمكان أحد القول في كل ما كُتِب حتى يومنا هذا، ما هو أعمق روحياً وفلسفياً مما هو موجود في صُلب كتابات شكسبير. ولهذا السبب لا توجد هناك سابقة في الكتابة المسرحية مطلقاً، ربما نجد الاستثناء الوحيد المرادف لمثل كتابة كهذه في الرواية، لا سيما عند كاتب عبقري مثل دستوييفسكي الذي يتمتع أيضاً بهذين الجانبين معاً، أعني عمق أفكاره التي تذهب بعيداً، والشكل الرائع والمتقن الذي يغوي جمهور واسع للغاية بسبب كثافته الدرامية.

***

س: لم أكن أتساءل عن فن شكسبير إنما عن نوعية الجمهور ذاته، حيث أننا لم نصل حتى الآن، على الصعيدين التعليمي والثقافي، إلى مثل ذلك النوع من الأمور التي كان جمهور العصر الاليزابيثي مفتون بها والتي لم تكن مجرد مشاهد مبتذلة ورخيصة كما نشاهدها اليوم في وسائل الإعلام، إنما كان اهتمام الجمهور في واقع الأمر منصّب على قضايا أكثر عمقاً فضلاً عن أن ثمة اهتماماً جاداً أيضاً بأمور أكبر حتى بين شرائح المجتمع الدنيا.

ج: أعتقد أنك تتطرق إلى أمرين مهمين ومثيرين للانتباه. الأول، هو أن الجمهور دائماً ما يتم التقليل من شأنه، على مستوى الإدراك والاستيعاب. والأمر الآخر، هو أن كل شريحة من السكان لديها قدرة إدراك أكثر بكثير من قدرات إدراك المسؤولين عن إنتاج وسائل الترفيه الاجتماعي ذاتهم. وهذه حقيقة عالمية. لكن هناك حقيقة أكثر دقة وهي أن كل حدث مسرحي هو عبارة عن مسار أو سلسلة من العمليات المتعاقبة. بعبارة أخرى، إن شيء ما يحدث في منتصف الحدث هو ليس ذاته كما هو في بداية حدوثه وهو ليس في النهاية مثلما هو في منتصف حدوثه. عندما يكون الحدث صائباً وسليماً، حين تكون كلمات النص قد تمت صياغتها مخيلة المؤلف كما ينبغي، وحين يكون أداء الممثلين قد تم التعبير عنه بشكل سليم، حينها يحدث تغيير في درجة الحرارة. وهذا بدوره سيرفع من قدرة الجمهور على الفهم أكثر من قدرته الاعتيادية. وهذا الأمر يمكن ملاحظته عند الممثل أيضاً، فقد يكون الممثل في الحياة اليومية شخصاً عادياً ومثيراً للملل، ولكن حين يبدأ في أداء دور في مسرحية رائعة مثل (هاملت) أو (الملك لير) يرتقي تدريجياً إلى مستوى أعلى ويسمو على الإنسان الذي كان عليه قبل أو بعد ذلك. الشيء ذاته سيرفع وعي الجمهور إلى مستوى أعلى، كما قلت، حين يكون العرض مُنجزاً على نحو سليم. وهذا الأمر لا ينطبق على جمهور شكسبير فحسب، إنما يمكن أن ينطبق على جمهور اليوم أيضاً. لا تنسى بأننا نتخيل هذا الأمر لأنه ليس بإمكاننا حقاً معرفة طبيعة الجمهور في العصر الاليزابيثي.

إن أداء أعمال شكسبير بشكل متقن ومبتكر سوف يسحر معظم الناس الذين لم يفكروا يوماً أن شكسبير قد يثير اهتمامهم، ولكن حين يرون أداءً جيداً لمسرحياته، وهو أمر نادر جداً بالطبع، وليس أداءً أكاديمياً بليداً ومضجراً، فإن ذلك يدفعهم، ورغماً عنهم، إلى الاهتمام بطرح الأسئلة، وتجربة المشاعر التي تفوق المستوى الطبيعي لنوع تجربتهم. وهذا بحد ذاته هو هدف المسرح.

***

س: وهو ما كانت الكنيسة تصبو إليه أيضاً…

ج: لم يعد هذا موجوداً بعد بالطبع. المعبد والمسرح كانا مرتبطين بشكل وثيق للغاية في اليابان قياساً بالتقاليد الأوروبية. الفارق الكبير هو أن التجربة الروحية للكنيسة تهدف إلى الهيمنة على الفرد والتحكم به لفترة أطول قياساً بالتجربة المسرحية. كلاهما يصبو نحو ذات الهدف، غير إن المسرح في عالم التسلية والترفيه هو شبيه بمقطع دعائي لفيلم رائع.

إن تجربة المسرح يمكن أن ترفعك إلى علوّ روحي شاهق لمدة دقائق ومن ثم يتم أخذها منك بعيداً عند مغادرتك قاعة العرض. حينها تدرك أن ثمة شيء ما يُدعى الطريق الروحي الذي يمكن أن يقودك إلى هناك على أساس أكثر ديمومة في عملية أكثر إيلاماً وصعوبة وبطئاً. وهنا يتشابك الإثنان.

***

س: دعنا نتحدث عن موضوع الشكل «السحري» للمسرح من وجهة نظر المخرج، فثمة بعض التساؤلات البسيطة مثلاً حين يتوارى الممثل خلف دوره. تُرى، إلى أين يذهب؟

ج: ها أنك تلامس اللغز العظيم والمفارقة الكبرى في المسرح. حسناً، إذا كان لديك ممثل سيء سترى أنه يتوارى خلف دوره تماماً، وهذه هي الطريقة التي يمكنك من خلالها القول أنه ممثل سيء. الممثل السيء هو الذي يبتلعه دوره لذا فهو لا يعرف حقاً ماذا يفعل. ومع ذلك يمكن أن يغادر خشبة المسرح بإحساس أنه قدّم أفضل أداء في حياته لأن فيض العاطفة قد جرفه بعيداً ممسكاً بخناقه حينها يكون قد أضّل طريقه. أما إذا امتدحه المخرج فسيفاجَىء ويندهش لأنه فقد وعيه الذاتي تماماً وتلبّس الشخصية التي لعب دورها. لقد أصبح مثل عربة سباق حيث يتحول السائق ذاته إلى عربة ولم يعد هناك من يقودها.

على أي حال، كلما كان الممثل أكثر مهارة وقدرة كلما كان أكثر صدقاً. ما يحدث هو أن شخصيته تفسح المجال أمام فرديته. بعبارة أخرى، إن الشخصية، التي هي مجموعة من السلوك والطباع الموجودة لدى كل واحد منا فضلاً عن القيم والأفكار والرغبات التي نسّلم بها ونحيا من خلالها جميعاً، تستسلم للدور. لكن ضمن حدود الدور يدرك الممثل الحقيقي ما يفعله تماماً فيقوم بملأ الفراغات، لذا فهو لن يتوارى عن الأنظار أو يذهب بعيداً. والصورة التي أحب أن أستخدمها عادة هي أن الممثل والدور هما أشبه بيدٍ داخل قفاز. بمعنى آخر، بوسع المرء القول أن الممثل يبدو كما لو أنه قد استسلم تماماً للدور. ولهذا يتوصل الفنان الحقيقي إلى المفارقة التالية وهي أن كل خلية فيه تُستثمر للاضطلاع بالدور، لكن مع ذلك يمتلك مساحة من الحرية للتحكم بذلك الدور بشكل كامل.

الاكتشاف الأكثر إثارة للاهتمام الذي توصلت إليه ذات مرة في أفريقيا عندما ذهبت إلى إقليم يُوروبا (يوروباس) الذي يقع في القسم الجنوبي من نيجيريا، هناك حيث يُمارس شعبياً طقس الاستحواذ، وهو نوع من المّس يصيب الإنسان حين تتلبسه روح ما على النحو الذي يحدث في العديد من بلدان العالم.

في كل بلد من من بلدان البحر الكاريبي حتى أمريكا الجنوبية وصولاً إلى أفريقيا، حين تستحوذ على الشخص روح ما أو كائن أثيري يفقد ذلك الشخص وعيه ويجهل تماماً ما الذي يحدث له، باستثناء يُوروبا (يوروباس) حيث العكس هو الصحيح، فثمة اعتقاد سائد هناك أنه كلما ارتفعت درجة الاستحواذ أو المّس التي يصل إليها المؤدي كلما ازداد وعيه. ممارسة الطقس هذه تسفر عن تغييرات تدريجية جلية في ذهن الشخص الممسوس تُفضي إلى هيمنة الإله على روحه، لكن مع ذلك يُحس ويشهد كل ما يحدث له تماماً.

وفي تلك اللحظة، حيث هو في حالة غياب وحضور في ذات الوقت، يصبح لُغز الاستحواذ هذا نوعاً من إصلاح النفس أو ترويضها داخل ذلك الشخص.

من بين التمارين التي أحب القيام بها مع الممثلين هو أن أطلب منهم رفع أياديهم وإحكام قبضتهم بشدة، ثم أقول لهم «لو افترضنا أننا نلتقط صورة لتلك القبضة المشدودة، هل يمكن أن يكون ثمة فارق بين قبضتك وهي مشدودة لأنك غاضب بصدق حقاً وبين قبضتك وهي مشدودة بإحكام لأنني طلبت ذلك منك؟».

لا يمكنك بالطبع القول بعدم وجود أي فارق بينهما، ليس خارجياً فحسب، إنما داخلياً أيضاً. القبضة المشدودة هي القبضة المشدودة. وبذات الطريقة ينبغي على الممثل أن يوّظف دوره كلياً لدرجة أنك مهما تكن الزاوية التي توجه مجهرك نحوها لن تكن قادراً على اكتشاف مستويين.

هذه في الواقع إحدى السبل التي يكون فيها الممثلون من العالم الثالث، إذا جاز لي أن أستخدم هذا التعبير القديم، أو الممثلون اللاغربيون، فهم غالباً أكثر صدقاً من الممثلين الإنكليز أو الفرنسيين أو الألمان أو الأمريكان رغم أن هؤلاء أكثر ثقافة وتطوراً.

الممثل الغربي في الواقع شخص يضطلع بمهَّمته بوصفه مؤّدياً للدور، ولهذا فهو يحظى باستحسان وإعجاب الجمهور بسبب أدائه لهذه المهَّمة بتمّيز ومهارة فائقة. ولهذا السبب يتطلب عمل الممثل في الغرب مجهوداً مضنياً ونشاطاً ظاهرياً أو سطحياً يفتقر إلى ”الصدق“ وهو ما يوحي للجمهور بأنه يبذل قصارى جهده. وهذا هو الأسلوب الأساسي للبراعة الفنية في أوساط الممثلين الغربيين.

حين قمنا مؤخراً بإخراج مسرحية «العاصفة» لشكسبير لعب الدورين الرئيسين «بروسبيرو» و «أرييل» ممثلين أفريقيين، وكان أحد أسباب هذا الاختيار هو أنني شعرت أنه ينبغي للمرء في هذه المسرحية أن يتخطى لعبة المحاكاة الغربية تلك.

الممثل الأفريقي الذي لعب دور بروسبيرو، مثلاً، بسبب نشأته في غابات أفريقيا ولأن السحر هو واقع يومي بالنسبة له، حين قام باداء هذا الدور، لم يلحظ أحد من الجمهور أو أي منّا أي فارق بين الممثل وبين الشخصية الوهمية التي يقوم بتجسيدها، فقد أصبحا شيئاً واحداً. أما في الغرب فإن معظم الممثلين الذين قاموا في أداء دور بروسبيرو ممن أعرفهم وعرفت الكثير منهم في المسرح الغربي، باستطاعتك دوماً رؤية المؤدّي وهو يسعى لاستخدام الحيلة والخداع عبر استخدام لحية زائفة، ربما، أو أنف زائف، أو صوت متكلف…الخ، من أجل خلق شخصية ساحر زائف ومصطنع.

والآن يمكنك أن تختار بين شكلين لفن المسرح، التواري وراء الدور أو محاكاته، وأنا شخصياً أعتقد أن الفن الذي يتوارى تماماً هو أفضل وأسمى من فن المحاكاة الذي يكون فيه المتفرج مدركاً لمهارة المؤّدي.

***

هوامش:

(*) كريشنا أحد أكثر الآلهة شعبية عند الهندوس وهو يُعبد بوصفه التجسيد الثامن للإله فينشو، وهو الإله الأسمى بحكم سلطته.

(**) جيزيل، هي واحدة من أقدم عروض الباليه ولا تزال تحظى بشعبية واسعة في جميع أنحاء العالم.باليه كتب نصه ثيوفيل غوتييه و فيرنوي دي سان جورج وموسيقى أدولف آدم. عرضت لأول مرة في عام ١٨٤١ في المسرح الموسيقي الملكي في باريس.

يتحدث الباليه عن الحب والخداع والخيانة والتسامح من خلال قصة فتاة قروية تدعى جيزيل وقعت في حب رجل إقطاعي يدعى الكونت ألبرشت ظناً منها أنه فلاح يدعى لوي.

القسم الثاني يُتبع