عوالم عبود الجابري الشعريٌة في هذه المجموعة الصادرة عن الاتحاد العام للكتاب والأدباء في بغداد لعام ٢٠٢١ والتي جاءت بسبع وعشرين قصيدة ليس لها حدود، فليس للخراب سوى التشظي وليس للشاعر سوى أن يلتقط منه وينتحب عليه وهو الذي يرى ذاته وقد أصبحت مثقلة بجميع مفردات الكون الذي يحاول أن يكون محتواه كلهُ في هذه المجموعة الجديدة وهو الجزء المهمش فيه، ذاته التي يراها متماهية بكل ما حولها متحدة بما يحيطها من أشياء ليس بالضرورة لها صلة بها لكنها ذات الشاعر التي يصفها في قصيدة؛

"أوتار"
كما في الأمس
يغمرني كثير من الطين
لتمد الأسماء العطشى
جذورها في قلبي

أو في هذا المقطع من ذات القصيدة :
ويحدث ذلك عادة
عندما يكون لدى الشمس
فائض من الضوء

فالشمس هنا قد جردها الشاعر من هالتها ووظيفتها باعتبارها رمزاَ دائما للاشعاع إلى شمس أخرى يراها وكأنها تعطي حينما يكون لديها فائض من الضوء.
وهنا تبدأ لعبة الشاعر الذي يحاول أن ينفخ أرواحا في كل الموجودات التي يعيش بينها ومعها باعتبارها كائنات لها نفس المشاعر والأحاسيس التي اعتاد عليها البشر حيث يتضاءل هو عن وجوده باعتباره كائن عاقل له أكبر حيز في الخلق إلى كتاب مركون على الرفوف يعلوه الغبار كما في قصيدة :

"فصل من كتاب الرفوف"

حيث يقول في القصيدة :
في الرفوف متسع لكل مالم يخطر على بال أحد

الى القصيدة الرائعة : "قربان"
التي يحاول أن يعلن فيها اختلافه كميت عن باقي الموتى فهو ميت يحاول أن يصنع حياة داخل قبره بمناجاته للأرض فقط كي تتسع كما في

هذا المقطع من ذات القصيدة:
لا أزاحم أحد في قبره
فلماذا يضيق بعض الموتى
بمناجاتي للأرض
كي تكون أكثر اتساعاَ

وأيضا يعلن عن تمرده على المتعارف عليه في الفلسفات الماديٌة التي ترى الموت نهاية الحركة الجسديٌة والروحيٌة للبشر حيث يحدٌد الميت بجدران القبر الضيق لتتوقف حركته ونشاطه وهو هنا يحاول أن يفلسف معنى الموت شعريٌا حيث يسعى حتى وهو في قبره إلى جلب الحياة من جديد بحلمه الذي لا ينتهي والذي يتفوق على نهاية الموت.

كما في قصيدة : "مكابدات رجل فضفاض"
حيث يقول في هذا المقطع من القصيدة :
أنا رجل فضفاض
يضيق علي هذا العالم

كذلك في قصيدة :" زووم"
حيث يصبح الانتظار حالة يتعاطف معها الشاعر حتى وإن لم تؤدِ إلى فعل ملموس ألا وهو المجيء.
كما يقول في هذا المقطع :
ثمة ما يستحق الانتظار
وإن لم يأتي

وقد اشتغل الشاعر على نفس المعنى في أغلب القصائد الآتية:
"مباحث"
لست شقيٌاً بما يكفي
لأعطل الزهور عن وظيفتها

"أسماء لا معنى لها"

أننا في لحظة التفكير بالحصاد
ننسى كيف نرسم سنبلة

هل جربت أن تعشق أمرأة
تشتمكَ بالأغاني
حين تغضب ؟

" سمات دخول"
قليل من الشمس
وتصبح خزائني مرايا

أنا شبيهك
أيتها الأشياء المعلقة

جميعنا
ننتظر بلهفة
ذبول المسامير
كي نسقط

ولا بد أن نتوقف عند هذا المقطع الشعري الهائل الذي يصور فيه الشاعر عجزنا الذي يجعل منا أشياءَ معلقة ومؤجلة تسعى للسقوط من مسامير الحياة التي تغلبنا مرات وتهزمنا في أغلب الأحيان.
فالمسامير لها دلالات مختلفة لكنها ما يؤجل حريتنا وخلاصنا وذوبانها يجعلنا نتخلص من سلطاتها الحديدية التي يتمنى لها الشاعر أن تذوب مع الأيام ولربما السنين وحتى في صفٌرة المعادن يجد الشاعر بهجة يتعاطف معها كي يؤاخي المعدن.


في قصيدة : "سمات دخول"
كما في هذا المقطع:

صفرة وجهكَ
وحدها
كفيلة بانتمائكَ العتيق
إلى بهجة النحاس

إلى الخشب الذي يخرجه من جموده وطبيعته باعتباره مادة تطفو داعيا إياه للغرق كما في قصيدة : " ألواح"

كان على الخشب
أن يتنازل قليلا
عن خصائصه
ويغرق مرُة

كذلك العربة التي تركناها جميعا تسير دون أن ننتبه أنها تحملنا جميعا وهي عربة تاريخنا التي لم نقدم لها ما يجعلها تصل بنا كما يكتب في هذا المقطع:

" العربة"
إنه خطأكم جميعا
فقد تركتم العربة تقطع الطريق

وفي قصيدة :" في سيرة الرجل الداكن"

حيث يعلن للغابة أنه كائن لا يملك فأساَ وأن أسلافه لم يكونوا حطابين فالغابة بأشجارها أيضا يجدها الشاعر شيئاَ يشبهنا نحن البشر ويجب أن لا يُمس أو تقطع منها شجرة
حيث يقول :
لست مديناَ للغابة بشيء
مادام أسلافي لم يورثوني فأساَ
ولي في ذمتها
حطب تنازلت عنه

لعل ما يميٌز هذه المجموعة الشعريٌة الجديدة لعبود الجابري هي قدرته الهائلة على الكتابة عن المهمل والمتروك والمنسي والمهمش والعادي وغير العادي كذلك المقدس والمعرفي الفلسفي العميق كما في قصيدة فيثاغورس التي كتبها بشكل مختلف عن باقي قصائد المجموعة لكنه حلٌق بجميع القصائد في سماء الشعر الذي يتقنه أتقاناَ مميٌزا لغويٌاَ وفنيُا ومعرفيٌا، وهي تجربة شعريٌة تستحق القراءة العميقة حيث لم يكتب شاعر من قبل عن تفاصيل نراها خارج طبيعتنا وانفعالاتنا حيث التركيز فقط علينا نحن البشر المثقلين بموضوعات تخص حياتنا فقط، ما نحتاجه ونشعر به فقط ، لكن أن يأتي شاعر يحمل ويتمثل معاناة: مسمار أو سيكارة أوخشبة أو لوحة أو تمثال أو حجر، أو ذيل حصان وسمكة وعربة وغراب ودجاج وحتى الانتظار والفراغ وكثير من الموضوعات التي جعلها تتحرك بمهارة شعريٌة فائقة وجديدة لم يألفها تماما الشعر العربي من قبل والذي أعتاد على نمطيٌة معروفة في أغراضه ومواضيعه المكرُرة في الكتابة ما عدا بعض التجارب السورياليُة التي تختلف قصائدها بصورها الفنيُة من شاعر إلى آخر.

هنا مقاطع من جميع قصائد المجموعة:
الحجر داكن
غير أن قلبه أبيض
فلا تشبهوا أحبائكم بالحجر

"ميراث"
كمن يطوي أغطية النائمين
أصنع اليوم
على ما قبله من الأيام

"فيثاغورس"
كي أخبر الشجرة أنها تحجب وجهك عنٌي
وهي صيغة أخرى للسؤال

"صيادون"
أنا سمكة حزينة
أيها الصياد المستجد
نعم أنا سمكة
أبحث عن فقير جائع يأكلني

"تلويحة وداع"
آن لي أن أخرج من اللوحة
وأنزل إلى الأرض

سأكون تلميذ الغراب
وخادم العصافير
وأماَ للحمام الجائع

"متاع الرحلة الأخيرة"
قبل أن أعود لأعتكف في علبة الكبريت الواسعة

اسمي إلى أبي
خارجاَ من متحف طفولته
أن أكون ذيل حصان
لتنعم بي ربابة عارية من الأنين

"محاكاة سقراط"
بأسمك أجنح بلغتي
صوب أحزان الغربان
وعزاءات الدجاج في ترف الأرض

حنين الجمعة إلى السبت
وتعب السبت
مما خلفته الجمعة
في ساعاته
من أوجاع

أنا رهين
ما أحتبس
من بلل في غيومكِ
وسجين قمحكِ

" توضيح عاجل"
غارق في غموض العائلة
أكتب كل يوم
عن جوع تمثال يجاور المطحنة

"بطاقة الأيام القادمة"
شمسي الحزينة مثل شيطان
في احتفال الملائكة

أمرأة تحاول عبثاَ أن تصدق
أني رجل بلا أبواب

لا جنوبي
يميل صوب نخلة
ترسم فسائلها على ثوبه
لا شمالي
يصعد الجبل
ليغتر شبابته الصاهلة

لو أنكَ لم تحدٌق
في مراياهم
لكان وجهكَ أجمل
وقلب أمكَ أكثر سكينة

"دم أسود"
تذبل الحمرة في دمي
وتنتمي إلى طلاء الأظافر

البلدان أكياس طحين

لقد غدوت قصبة كما أردت لي
لكني لم أكترث باطراء النايات

حاولت استذكار نعي جنوبي
لأستدر دموع الفراغ

"السكنى"
عندما تضرعت أليكَ
كنت أريد وداعا أفضل أيها الرب

لا الباب تغيٌر
ولا المفاتيح تبدٌلت يا سيدي

فما أن أشعل سيكارة
حتى أكون مكرها على إنهاء حياتها
لتلتحق بأخواتها

"يخرج على الناس ، ينتظر سيفه "

ولا تنسى أن تأخذ معك حزنك
لتراه واضحا في المرآة عندما تفكر
أن تغسل وجهكَ

"الوقت حزينا"
كانوا يتحلقون حول جسده
كي يسألوه فحسب
عن علامات حزن الساعة
في معصم رجل ميت

"نجوى"
لا بد منه ذلك المخلص
على حصانه الأبيض
بحوافره الاسفنجيُة
وسرجه المذهب

"روزنامة ضائعة"

كيف أغني لكِ وأنت تسكنين في قفص
من الاشارات
في قلب تمثال من القطن.

عقيل منقوش ..استراليا