عندما طلب منها أولادها أن تسجل ذكرياتها في كتاب اعتذرت وقالت (لا أجيد الكتابة !) لكنهم واجهوها بما اعتادت أن ترويه لهم عن حبها لمادة الإنشاء في المدرسة، ثم تلتها بحجة ثانية (لا أعرف كيفية ربط كل تلك القصص مع بعض!) هنا اقترح عليها (توني روكا) صهرها زوج (ميرا) ابنتها الثانية، الصحافي البريطاني في جريدتي (الصنداي تايمز والديلي ميل) الشهيرتين أن تكتب ما يخطر على بالها فوراً، دون أن تعير اهتماماً لنوع الورق أو الأقلام ثم طمأنها بقوله: (اتركي الباقي عليّ!).

وها نحن قد انتهينا تواً من قرأة الباقي الذي قصده توني، عشرين عاماً كان يحمل ساعي البريد إليهم رسائلها وكانت عبارة عن قصاصات من أصناف شتى من الأوراق دونت فيها (فيوليت شماش) البغدادية المولد اليهودية الديانة سيرة حياتها دوّنتها بحنين وشوق إلى عالمها المفقود في العراق الذي اضطرت إلى الفرار منه إلى الهند برفقة زوجها وطفلتيها عقب أحداث الفرهود عام ١٩٤١، ارتحلت فيوليت مع الأسرة بعد ذلك للإقامة في كل من فلسطين وقبرص قبل أن يستقر المقام في لندن في عام ١٩٦٤، حيث شرعت في تدوين مذكراتها في ثمانينيات القرن العشرين، نقلت فيها طقوسهم وأسلوب حياتهم، أفراحهم وأتراحهم، أغانيهم و طرائفهم، تحضيرات أعيادهم، أطباق أطعمتهم، صومهم و صلواتهم، صرامة تعاليمهم، مدارسهم، وظائفهم، تجارتهم، وأماكنهم، كيف كانت تبدو بغداد أيامهم، عاصرت كل الحكومات منذ مجيء الملك فيصل الأول للعراق وإلى اليوم وما مر على البلد من مطبات سياسية انتهت بهجولتهم في المنافي.

تذكر(ميرا) ابنة فيوليت أنها اعتادت كل مساء طباعة رسائل والدتها التي تصل عبر البريد الى محل سكنهم في لندن وحفظها في الحاسوب في ملف أطلق عليه (توني) اسم (وداعاً بغداد!)، بعدها انتقلوا إلى فرنسا وكم بدت صدمتهم كبيرة حين رؤيتهم كم الصفحات التي تراكمت ليتم تحويلها الى كتاب باللغة الانكليزية بعنوان (ذكريات جنة عدن) وكان بطبعتين الأولى عام ٢٠٠٨ صدر في بريطانيا والثانية في ٢٠١٠ في أمريكا.

ترجم الكتاب الى العربية (علي شاكر) المهندس المعماري العراقي المقيم في نيوزيلندا وصاحب رواية (كافيه فيروز) و(صدام وأنا ومتلازمة ستوكهولم) بعد أن اختار عنواناً جديداً للكتاب بدل جنة عدن واستقر رأيه على (رسائل فيوليت). وللمفارقة كانت صديقته الفلسطينية/الاردنية (غادة) قد أوصته بقراءة الكتاب، وما أن قرأ أول الصفحات حتى بات يتجول في القصر البغدادي المطل على دجلة و يقطف مع البستاني جاسم من ثمار حديقتهم و يسمع حكايات فطوم زوجة البستاني وهي تروي للأطفال حكاياتها ويدها لا تتوقف عن غزل الصوف، مشى معهم دهاليز الحي اليهودي في بغداد وأصوات الباعة تطرب الأذن، شم رائحة خبز الفطير الطالع من التنور في عيد التعازيل وجلجلة ضحكات الطلاب في مدرسة الأليانس ومشاعر الود التي جمعت اليهود والمسلمين مع إخوانهم المسيحين وباقي الطوائف.

اخذت منه الترجمة عمل عامين من الزمن، يتحدث عن تلك التجربة بكثير من التعاطف لنقله معاناة إنسانية بدت له شبيهة بما مر لاحقاً على كثير من العراقيين، وارتبط المترجم مع صاحبة السطور بعاطفة وثيقة سماها (جدتي فيوليت) ويذكر أنه احتاج لمساعدة والدته في فهم بعض المفردات اليهودية التي تنطق بلهجة أهل الموصل، فكانت له عوناً وإن بقت بعض المفردات دون فهم أو تفسير.

يقول (علي شاكر): "عندما وصلت إلى ترجمة عبارات فيوليت الأخيرة لوداع بغداد، وجدت الدموع وقد انسابت على خدي، رغم عهد كنت قد قطعته على نفسي يوم رحيلي عن العراق عام ٢٠٠٦ بعدم البكاء عليه أبداً مهما جنّ بي الشوق إليه".

الكتاب بـ (٣٤٠) صفحة من الحجم المتوسط اصدرته الدار العربية للعلوم ناشرون الطبعة الأولى تشرين الثاني ٢٠٢٠ بغلاف لصورة مقتطعة لصاحبة المذكرات وهي جالسة من صورة أصلية ضمها الكتاب هي وخطيبها (داود) عندما قررا الذهاب عند المصور آرشاك في بغداد لألتقاط صورة الخطوبة، وخلفية صورة الغلاف هي عقد زواجهما المسمّى بـ(كتبّه). احتوى الكتاب في منتصفه على عدد قليل من صورها الشخصية وهي شابة مع صورة واحدة لها أيام تدوينها مذكراتها وقد بدت كبيرة السن بملامح عراقية لا تخطئها العيون، إضافة لصورة والدها و والدتها نانا، جميع الصور واضحة رغم زمنها و القارئ بعد أن واكب الأحداث وتعرّف على شخوص السيرة تمنى حتماً لو تم الإكثار من الصور لتشمل الأبناء أيضاً وبالأخص ابنتها ميرا وزوجها توني أصحاب الفضل في نشر المذكرات.

في مفتتح الكتاب يطالعك إهداء فيوليت لأولادها (لينا و ميرا و سيمون) وإلى أحفادها وإلى أبنائهم، الآن ومستقبلًا. وتضيف في حنايا الكتاب: "جُلّ ما سأخبركم عنه لم يعد موجوداً، فتلك كانت بغدادي، أرضي الأم التي ترعرعت في حضنها، وبالكاد بقي لها أثر اليوم، كما لو أنها كانت خطوط طباشير أزالتها مُمحاة من على اللوح، استعداداً لكتابة قصة جديدة".

ولدت (فيوليت شماش) في بغداد أيام العصملي سنة ١٩١٢ ايام عيد (الحانوكا)، كانت خامسة الأطفال رابعة الإناث، تلتها ولادة بنتين، اغتم والدها لكون المولودة أنثى، وليست الأنثى كالذكر! والسبب الثاني لغرق سفينة التايتنك حيث كان من المتابعين لرحلة إبحارها، لكنه لم يبخل عليها فأعدوا لها احتفالاً (ليلة الستة) لتسمية المولودة، وأحضروا الدقاقة لتغني (مازل توف) وكسر جرة ماء فخارية ورش خليط الحلوى والمكسرات والفشار (ششه) على الأطفال وهم يغنون:

"ششه، بيت ابو فيوليت، طبخوا محشه"

أما اسمها التوراتي كان (سِمحة) الذي هو اسم جدتها لوالدتها وضمت الوليمة أطباقاً مختلفة كان من بينها الأرز بالزعفران والدجاج المشوي على الفحم، وانطلقت خلالها ضحكات الحضور ونكاتهم حتى أن سيدة شابة من المدعوات تعثرت من فرط قهقهتها وتدحرجت الى أسفل الدرج دون ان تصاب بأي أذى!.

زواج والديها كان قائماً على الحب وهما أبناء عمومة من الدرجة الثانية، كان والدها قد سلك سبيل التجارة مثل والده (حزقيال) كما عمل صرافاً رغم أن رغبته الحقيقية كانت في أن يصبح معلماً مثل جده (حاييم) وتدريسه في (بيت زلخة) اللاهوتي، أما والدتها (نانا) كما تناديه فيوليت، فقد كانت تكبره بعام أو عامين، سليلة عائلة ثرية محترمة، وكانت تُكنى بـ(نونو) لصغر قوامها، لكن زوجها سرعان ما أطلق عليها لقباً من تأليفه رافقها طيلة حياتها هو (خاتون) او السيدة باللغة التركية.

تضمن كتاب المذكرات أربع عشرة رسالة بعناوين مختلفة، ولم يخلو الكتاب من رسالة أخيرة تم إدراجها في مقدمة الكتاب، تروي فيها فيوليت مشاعرها أزاء منظر الدبابات الامريكية ونعال البغدادين التي انهالت على لوحة جدارية للرئيس السابق صدام حسين، وتتأسف لما حدث لبغداد وتسميها (بغدادي) المدينة التي شهدت وعاشت فيها سعيدة متنعمة وسط مجتمع متآلف مع جميع الطوائف.

رحلة حياة، تأخذنا فيها فيوليت شماش إلى عكد النصارى ثم إلى الكرادة حين كانت أرض جرداء لا يسكنها أحد ليقيم فيها والدها قصراً للعائلة، زارهم فيه الملك فيصل الاول رحمه الله وذكريات الدراسة وحلمها الذي لم يتحقق للدراسة في باريس، كيف كانوا يقضون سبتهم وأعيادهم وصومهم بصرامة لا تساهل فيها، زيارتهم للنبي حزقيال في مدينة العمارة المكلف بالعناية به سكنة المدينة من المسلمين، رحلة شاقة يقفون فيها في عدة محطات على الطريق تحيطهم ضيافة الناس واصطحابهم شوحيط أي قصّاب خاص ليضمن أن ما يتناولوه هو كوشر أي حلال، وصفها لمقهى موشي في وسط بغداد العتيقة، زبائنه، أمزجتهم وأحاديثهم، زواجها من (داود) بعد أن تأخرت في زواجها مقارنة بأقرانها وتعزي السبب إلى أنها كانت متوسطة الجمال والكل كان يهرول للشقراوات ذوات العيون الزرقاء وكان والدها يمازحها بقوله من سيتزوج من صاحبة هكذا عيون كبيرة، اغمضيهم قليلا إذا خطبك أحد! ثم تتوالى أحداث العراق و تقلباته وتفاصيل انجابها لبناتها، كله تزامن مع أيام الفرهود المرعبة.

تنهي مذكراتها بتساؤل وهو إن كان عمال الإنشاءات قد عثروا على الكنز الذي أودعه والدها في أساسات قصرهم في الكرادة في الجهة اليمنى من بابه الرئيسية، تحت موضع الميزوزا تحديداً وهي التعويذة التي اعتاد اليهود وضعها على عتبة دورهم جلباً للحظ الحسن وكيف أن والدها قام ليلاً بوضع جرة صغيرة مليئة بالعملات الذهبية مع رسالة مكتوبة بالعبرية القديمة وأحاطها بالآجر، وجاء تساؤلها لأن القصر بعد سفرهم قد تم هدمه ليرتفع مكانه فندق الشيراتون الحالي، وانا اقرأ تساؤلها جاء على بالي مقطع رباعيات الخيام وفيه:

"فامْشِ الهُوَيْنا إنَّ هذا الثَرى *** من أعْيُنٍ ساحِرَةِ الاِحْوِرار"

ترى كم من ثرى العراق ضم أسراراً وحكايات، ودائعاً وأمنيات، أما حكاية فيوليت شماش هذه فينفع معها تكملة البيت الشعري بـ: "إن هذا الثرى من كنوز محفوظة الأسرار".