الشاعرة فاطمة سعدالله

تصدّرُ الشاعرة فاطمة محمود سعد الله ديوانها: "كلماتٌ تقترفُ غوايةَ البوحِ" (دار المسار للنشر والتوزيع، تونس، الطبعة الأولى 2021) بعبارة دالة تقودنا إلى تأمل واستشفاف نصوصها عبر معرفة الذات، وعبر الكشف عن مكامنها في النصوص من أجل استشعار ملامحها وسجاياها التعبيرية التي تلوذ بأبعاد جمالية محددة تنسرب إلى وصف تجليات المكان من جهة، والتأمل في الحدث الوطني من جهة ثانية، تقول فاطمة سعد الله: "في البوح قوة.. في البوح مكاشفة بل مسرّة بين الذات والورقة مرسالها القلم.. البوحُ في نظري عناد يسكننا ويصرُّ على التجلي لينبت البذرات المخبوءة بين طيات الزمان وعلى امتداد تعرجات المسافات والمداءات.. أنا أبوحُ إذًا أنا أتواصلُ .. أنا أتواصلُ إذًا أنا موجودة" . / ص 5

هكذا تربّي الشاعرة في توطئة الديوان لدى الوهلة الأولى للقراءة فاعلية البوح والتواصل، إنها تعطي للتلقي قسطًا من الاهتمام الواعي الذي يصنع شفرات تفاعلية وتواصلية مع آليات التلقي، من هنا فإن نصوص ديوانها تتحرك في هذه الحركة المثلى الواعية بين مرسل النص( الشاعرة) وبين القارئ( المتلقي) الذي يتفتح على حواسه بوح الكلمات.

وينطوي الديوان على (49) نصًّا شعريًّا تتفاوت طولًا وقصرًا، ما بين اللقطة الشعرية الصغيرة، والقصيدة المركبة من عدة نصوص متتابعة على شكل لوحات شعرية، كما أنها تتنوع بين عدد من الدلالات الشعرية التي تبدأ من بوح الذات، ولا تنتهي عند قراءة تجليات المكان، وتجليات الوطن.

الذات تبوح:
شفيفة هي النصوص الذاتية بالديوان، حيث تركز الشاعرة على الإفضاء عن المكامن الذاتية من خلال نصوص كثيرة بالديوان أبرزها:

"أنثى تنضج خلسة" و"تعويذة الحلم" و"حالة جفاف" و"من حرير النبض" و"تهيؤات" و"الأنثى / القصيدة" وغيرها من النصوص.

وهو ما يتواءم أولا مع عنوان الديوان: "كلمات تقترف غواية البوح" ومع توجه الشاعرة كما يتبدى من مقدمة ديوانها القصيرة التي ألحت فيها على تقديم ذات شعرية بواحة، تصنع علاقة بين نصوصها والمتلقين: "وإنما كل ما سأفعله هو محاولة بناء جسر بيني كـ"باثّ" وبينكم كقراء تتلقّون هذا البوح بكل موضوعية ودون تأثير أو توجيه، إذ للنص الواحد عدة احتمالات وتفسيرات تنشأ حسب ثقافة القارئ وأرضية أفكاره وبيئته والعلاقة التي نشأت بينه وبين النص لحظة قراءته" / ص 11.

في نص أثير يتجلى بعد عدد من النصوص التي تعبر عن الوطن يأتي نص: "أنثى الضياء" وهو نص يعبر تماما عن الذات الشاعرة الأنثوية وما تفيض به من بوح شفيف، بقدر من الاعتزاز تقول الشاعرة:

حورية بطوق ياسمين

أنتِ

باقة عطر منثورة على إيقاع الروح

يمامة نورانية تدرج على أرض النور

أيتها الحمامة الشاعرة

لا تنوحي

أفردي جناحيْ حلمك

حلّقي أيتها الساحرة

بين المدى وبيني

هكذا تزهو الأنثى بحضورها عبر هذا البوح الذي يحدد مشهدا جماليا رومانتيكيا لحضور الأنثى وبوحها وكتابتها، بصور بسيطة يتجلى فيها إيقاع الروح إلى جانب العطر والياسمين والطيور والنور، من دون الدخول في جدلية الأشياء جمالا أو قبحا، ومن دون استحضار أية هواجس درامية تتعلق بالأنثى، ولكنها رؤية تدرج على بساط البوح – على حد تعبير الشاعرة في النص نفسه- فهي قصائد تنسج الحلم دون قيود".

وفي نص آخر تتواصل هذه الرؤية وتتفتح صوب قراءة حضور الأنثى، فتكتب الشاعرة في عنوان: "أنثى تنضج خلسة" / ص.ص 31-33 موجهة الخطاب إلى الأنثى، إلى بوحها هي ولكن عبر بلاغة الالتفات حيث يتوجه الخطاب عبر الضمير "أنتِ" وهو ما يصنع مسافة تعبيرية مؤقتة مخايلة بين الأنا والـ "أنتِ" كي يتسنى للشاعرة البوح بشكل مفرط لا يذهب بالضرورة في التأويل القارئ إلى الذات الشاعرة، ولكن قد يمس الأنثى بكل شمول :

ما أروعك أنثى

تنضجين خلسة في شتاء دفيء

تتفتحين براعم ذاكرة على شفاه المطر

تنبتين في خاصرة الرواء

وشقوق اللمس ضلعًا سويًّا

الأنثى حاضرة على الدوام لمعانقة الأشياء، وهي (الأنثى القصيدة) "عابرة للبحور والأجناس" (ص 101) تصبو الشاعرة من خلال هذا الحضور إلى تقديم الجوهر الجمالي الرومانتيكي الذي تتسم به أولا، ثم تتفتح على الدلالات الأخرى المتعلقة بالكتابة وبث مهادات الجمال في أشياء الطبيعة وفي الكون بوجه عام، وهو ما تصوغه الشاعرة في القصيدة بوعي شعري بيّن فتربط بين الأنثى ومختلف الدلالات الزاهية حيث تقود الأنثى قافلة الكبرياء بحداء مموسق صوب شجرة البياض، وتصبو إلى تغيير الأشياء والشخوص عبر العطر والبسمات، فيما تمطر الكون نجوما وتراتيل وهمسا. هكذا تركز الشاعرة هنا على تعبيرات جمالية في الحديث عن الأنثى وتطالبها بأن تبتكر خارطة أرض أخرى، وأن تركض "مهرة أصيلة في مضمار لغة الصفاء والخلود".

إن ما هو شعري هنا لا يتحرك عبر رؤية جدلية أو درامية، بل عبر رؤية تجميلية توصيفية تنتمي للأفق الرومانتيكي، وهو ما قد يفضي إلى مساءلة النصوص التي تدرج في هذا البعد عن درجات التحديث الشعري وقيم حضوره من ترويض اللغة وتجريبيتها، ومن استلهام ما جدّ من تيارات شعرية جعلت للرموز والحوارات واستبطان اللغة الأخرى المكتنزة بالدلالات قدرا من التوظيف والاستثمار، فالجمالي وحده لا يكفي لابتكار قصيدة راهنة متميزة.

تناص تفاعلي:
تستحضر الشاعرة عددا من المعهودات التراثية أو الحديثة، تتناصُّ مع أجوائها وتستقطر رؤاها الشعرية عبرها، حيث تستحضر قصة النبي "يوسف" و"زليخة" في نص بعنوان: "عند مفترق الهدير" / ص.ص 28-30 وفيه:

على قميص يوسف

أناملُ حرقها الشوق

تساقطت رمادًا

أيا زُليخة : لملمي حطام جرح

حزن نشيج ذكرى

اخبزي الطين في تنور الصبر

أقراصًا شقراء

لا تتعجلي

" تأنقي وتجملي"

فالنسوة لم يقطعن أيادي الانتظار

بعد

يظلّ استدعاء الموروث وتوظيفه من الأمور التي تعطي أعماقا بعيدة للنص الشعري وتهبه رمزيات متعددة قابلة للتأويل والانفتاح على دلالات كثيرة، وكلما كان توظيف هذا الموروث موغلا في رمزيته كانت التأويلات منفتحة على آفاق متكثرة، وهو ما نلمسه في نص الشاعرة هنا، على الرغم من بساطة الأداء وانفتاح العبارات على مستواها الأولي، بيد أن الباده هنا أن التأويل تحول إلى بعد مكاني، ربط بين قصة يوسف وزليخة – ربما – بمصر التي حدثت فيها القصة، ما بين المراودة وقدّ القميص والغواية، وفي كلمة واحدة ذكرت بالنص هي: "التطبيع" اتخذ النص بعده الرمزي السياسي، الذي جعل من "زليخة" رمزا لمصر، أو ربما – بمعنى بعيد – رمزا لكل دولة عربية طبّعت مع المحتل أو تصبو للتطبيع.

إن الشاعرة تزجي هذه القصة في القصيدة وتبحث عن يوم مشرق يتوقف تتم فيه مقاومة التركيع والتطبيع، وهو نص حافل بالرمزية ولم تضئ الشاعرة فيه نصها سوى بهاتين الكلمتين في نهايات النص.

ومن رمزية يوسف وزليخة، تنتقل الشاعرة إلى رمزية لوحة الموناليزا لليوناردو دافنشي في نص "مومياء الـ موناليزا" (ص.ص 119- 120) ثم رسم لوحة شعرية لشاعر تونس الرومانسي: "أبو القاسم الشابي" في نص: "مرحبا أبا القاسم" (ص.ص 45-48)، ثم تمثل باليه: "بحيرة البجع" في نص يحمل العنوان نفسه، (ص.ص 76-77) ثم إلى استدعاء رواية كازانتزاكيس (زوربا) في نصها: "زوربا يعتزل الرقص" (ص.ص115-117) وفيه:

على إيقاع "بحيرة البجع"

تعثّرت قدماها .. رقصة زوربا

سقط شالها .. قصيدتي لا تحسن الرقص

صار الاختلال طوطما

يرسمُ خارطة الخداع

نسي زوربا فرحة الخطوات

نسيتْ قدماه لغة الشذا .. يداعب حلم الجائعين

أو

صدى يمسحُ عرق الكادحين

زوربا يهاجمه الصمتُ والسكون

نسيت قدماه لغة العيون

لأن "الديك المذبوح" يرق

والمدية المسنونة تهزُّ

خصر الوجع

على ضفاف "بحيرة البجع"

ولأن الرقص .. صار بهلوانا

....

توقف العزف

اختلّ الإيقاعُ

نسي زوربا الرقص

غير موضع القدمين والرأس

صار ساكنًا

يحسن الصمت

ا....

ل

ص

م

تَ

ينتهي الرقص بالصمت، وتنتهي حيوية المشهد إلى السكون، كأن القيدة تعترض هذا الموات الذي يصيب اللحظة، وتذهب إلى وضع هذه الرؤية المفارقة من الرقص للصمت حيال القارئ الذي يرى ويشعر ويؤول. كما يحضر في هذه التناصات التفاعلية عدد من الشخصيات والأساطير ك (أيوب) وأبوللو، وبرومثيوس و هوميروس، وهولاكو، ولوركا، وغيرها من الإشارات التي تعمق التعبيرات الشعرية وتهبها رمزيتها الدالة.

لوحات لغوية:
تدور أجواء النصوص بين الذاتي والوطني والتراثي والثقافي، فتكتب الشاعرة عن تونس، والقدس، واليمن، والوطن العربي، فيما تكتب عن الطفولة وعن المرأة، وعن الإنسان العربي بشكل عام، كما تنطوي النصوص على أبعاد رؤيوية تكاشف الوجود وتبتكره عبر علاقات دلالية متنوعة تبدأ بحوارية الأشياء وتلاقيها على أطراف السؤال والتأمل ولا تنتهي بتخليق علاقات شعرية بين أشياء الطبيعة والكون بوجه عام. وما بين هذا البدء وذاك الانتهاء تتحوّرُ القصائد في مدارات متسلسلة صانعة الأجواء الدلالية الأثيرة لدى الشاعرة، وهي أجواء تنهض على المكاشفة حينا أو التغني والإنشاد والزهو بالأمكنة والأوطان حينا آخر، أو التأمل في علاقات الأشياء والأبعاد الجمالية بالكون.

إن الشاعرة وهي تقدم ذلك تلوذ بلغة تعبيرية تمهرُ دروبها الرومانتيكية بغنائية لا تنقطع عن التذكر والتأمل والتخيل والوصف الشاعري.

في نصوص كثيرة نلتقي مع الشاعرة على هذه الحواف الدالة التي تهبها لغة ذات وسم وجداني وروحي ، كما في "دروب في مدينة" أو ذات احتدامات مع الأفق الذي تتوارد فيه دوال الطبيعة من البحار للأنهار للأشجار للطيور، للأشرعة الملونة، والأمواج، والزهور والشروق والنجوم والغيوم والأمطار، وهي كلها حالات تبعث على شاعرية مفرطة في وجدانيتها كأن الشاعرة تترصد الجمال وتتبعه لتعيد نوعا من الأمل في الحياة في لحظات متسارعة ومربكة للوعي والروح الإنساني الشفيف.

وهي تذهب دائما في بعض نصوصها لما هو إنساني، وتعيد لزمن الطفولة رونقه حيث "الأطفال سرب حمامات تحلق بأجنحة نورانية" ثم تنقض هذه الصورة حين يتحول الإنسان إلى مجرد شظايا في غابة من وحوش.

إن الصور الشعرية تتسم بالتدفق لدى الشاعرة ما بين الطبيعي والواقعي والرومانتيكي، وما بين اليومي الدرامي التفاصيلي أحيانا، بين الصغير والكبير، وبين الجزئي والكلي وهي في ذلك كله تعيد تنشيط الحواس، وتعيد التركيز على اللغة الوجدانية القلبية، وترسم الروح مطرزة بقدر من التفاؤل وحب الأشياء وحب الجمال الذي تبثه في أغلب نصوصها.

إن البحث عن القيمة وعن المثل الجمالية والوجدانية هي أبرز ما تبثه الشاعرة في نصوص ديوانها الذي تبوح فيه بكل ما هو مشرق وساطع وأصيل .