عدّه الفيلسوف الكبير مارتين هايدغر واحدا من أعظم شعراء اللغة الألمانية إلى جانب كل من غوته، وراينار ماريا ريلكه، وهولدرلين. ذلك هو الشاعر النمساوي غيورغ تراكل (1887-1914) الذي انتحر وهو في سن السابعة والعشرين من عمره عقب أزمات نفسيّة حادّة. والبعض من النقاد ربطوا علاقة روحية بينه وبين رامبو الذي هَجَرَ الشعر قبل أن يُكمل سنّ العشرين...في أشعاره تحضر شخصيات غريبة وغامضة مثل اليتيمة، والعجوز، والمسافر، والمترهب. كما تحضر شخصية سمّاها كاسبار هاوزر. ومرة كتب لصديق له يقول :"سأظل دائما لكي أكون في النهاية كاسبار هاوزر".

هنا ترجمة لمختارات من قصائده:

مزمور

مُهداة إلى كارل كراوس

ثمة ضوء أطفأتْه الريح.
ثمة في الأرض البائرة حانة منها يخرج في الظهيرة رجل سكران.
ثمة حقل عنب احترق، وهو أسود، وبه حفر مليئة بالعناكب.
ثمة غرفة دَهَنُوها بحليب الجير.
المسْعُورُ مات. ثمة جزيرة من بحار الجنوب
لاستقبال إله الشمس. يُقْرَعُ الطبل.
والرجال يؤدّون رقصات حربيّة.
والنساء يُحرّكن أردافهن، نباتات مُتَسَلّقات، أزهار مُلتهبة
حين يغني البحر. آه يا جنتنا المفقودة.

الحوريّات فرَرن من غابات الذهب.
يُدْفَنُ الغريب. يتهاطل مطر من الشرارات.
ابن "بان" يظهر بملامح حفّار
ينام في منتصف النهار على الإسفلت الحارق.
ثمة في الباحة فتيات صغيرات بتنانير مزّقها الفقر.
ثمة غرف تَنْصَبّ فيها أنغام وسونتات.
ثمة ظلال تتعانق أمام مرآة شاحبة.
عند نوافذ المستشفيات مرضى في فترة النقاهة يتدفؤون.
صاعدا القناة، مركب بخاري أبيض ينقل أوبئة دموية.
الأخت الغريبة تظهر من جديد في كوابيس أحدهم.
ممددة في غابة من البندق ، هي تلهو مع النجوم.
الطالب، ربما يكون شبيها بها، يتابعها بنظراته من نافذته.
خلفه يقف أخوه الميّتُ أو هو ينزل المدارج القديمة اللولبية.
في ظلال أشجار الكستناء يُتُرَسّبُ شبح الراهب الشاب.
الحديقة في ظلال المساء. في الدير تطير الخفافيش.
أبناء الحارس يكفّون عن ألعابهم ويبحثون عن ذهب السماء.
الأنغام الأخيرة للعزف الرباعي. العمياء الصغيرة تجتاز الممر وهي ترجف.
ظلها يتلمّسُ جدرانا باردة، مُحاطة بحكايات وبأساطير القديسين.
ثمة باخرة فارغة، عند هبوط المساء، تنزل القناة السوداء.
في ظلمات الملجأ القديم تنقرض أطلال بشرية.
الأيتام الميتون ممددون في الحديقة، على طول الجدار.
ملائكة بأجنحة مُلطخة بالطين، تخرج من الغرف الرمادية.
دود الأرض يتصفّى بجفونه التي اصفرت.
حوش الكنيسة، مُعْتم وأبكم، يُذكّر بالطفولة. ُ
على نعالها التي من فضة، تمر خلسة، حيوات سابقة.
ظلال الملعونين تنخفض باتجاه المياه المُتَنَهّدة.
في قبره، الساحر الأبيض يلعب مع ثعابينه.
غريبة، فوق تمثال المسيح مصلوبا، تنفتح العيون الذهبية للرب.

بلا عنوان

يهبط الليل على الغرفة الجنائزية
أبي نائم، وأنا ساهر.

وجه الميّت أبيض، مُتَصَلّب
يتلألأ في ضوء الشموع

الأزهار تطلق روائح زكيّة، الذبابة تظنّ.
قلبي يراقب، ساكنا كئيبا.

بهدوء تضربُ الريحُ على الباب
فينفتح مُحدثا صخبا عاليا.

في الخارج يرتجف القمح في الحقول،
والشمس تشعّ في السماء.

مُثْقلة بالثمار تتهاوى الأشجار والغياض
وسريعة تطير العصافيرُ والفراشات.

في الريف، الفلاحون يَحْصدُون
في منتصف النهار، في صمت عميق.

قمت بإشارة الصليب على الميت،
وخاشعة تضيع خطواتي في العشب.

صيف

في المساء تخفت شكوى
الوَقْوَاق في الغابة.
وهناك في الأسفل ينْحَني القمْحُ،
والخشْخاشُ الأحمر.

عاصفة مطريّة سوداء
تُهَدّدُ من فوق الهضبة.
النشيدَ الرتيبَ للجدجد
يموت في الحقل.

أفنان شجرة الكستناء
كفّت عن الحركة.
في المدْرَج الدائر
يُهَفْهف فستانك.
الشمعة تَلْمَعُ هادئة
في الغرفة المعتمة.
يد من فضّة أطفأتها.

هدوء، ليل بلا نجوم.

غرب

إلى الزا لاسكر-شولا

قمر، كما يخرج
من كهف أزرق
وكثيرة الأزهار التي تسّاقَطُ على
الدّرْب الحجري.
وثمّة شيء مريض يبكي فضيّا
قرب مُسْتَنْقَع المساء،
في مركب أسود
عشاق ذهبوا إلى الموت.
أو ترنّ خطوات أيليس خلَلَ غابة
الياقوتيّة،
وتموت مرة أخرى تحت شجر البلّوط.
آه يا لشكل الطفل
المَجْبُول من دموع الكريستال،
ومن الظلال الليلية،
الصاعقة تضيء

ربيع الروح

صرخة في النوم. في شوارع ضيّقة تندفع الريح، وأزرق الربيع يعطي الإشارة من بين الأغصان التي تنْكسر،
الندى القرمزيّ لليل والنجوم من حول ذلك تنطفئ.
الجدول يتلوّن بالأخضر، وبالفضيّ الممرات القديمة
وأجراس المدينة. آه يا للانتشاء اللطيف
في المركب الذي ينساب والنداءات المعتمة للشحرور
في الحدائق البريئة . والإزهار الورديّ يكون قد تخفّف.

في الاحتفال صوت المياه. آه الظلال الرطبة للمَرْج،
ووقع تقدم الحيوان. أوراق في عذريّة الاخضرار، أغصان مزهرة
تلامس جبهةَ الكريستال. تأرجح المركب المتلألئ.
بهدوء ترنّ الشمس في السحب الوردية على الهضبة.
مهيب ، صمت أشجار التنّوب، والظلال الحزينة على حافّة الجدول.
طهارة! طهارة! أين الدروب المخيفة للموت
والصمت الرماديّ للأحجار، والصخور الليلية
والظلال من دون سلام؟ الهوّة المتلألئة للشمس.
أيتها الأخت، حين وجدتك في فرجة الغابة المتوحدة ،كانت الساعة منتصف النهار، وكبيرا كان صمت الحيوان.
أبيض تحت شجرة البلّوط المتوحشة، ومن الفضة أزهار الأشواك ،
أن نموت أقوياء والشعلة مُنْشدة في القلب.

أشدّ عتمة المياه مبلّلة ألعاب الأسماك الجميلة.
ساعة حداد، ومظهر مكتئب للشمس
الروح من الأجنبيّ على الأرض. زاهدة تتعتم.

أزرق من فوق الغابة المقتولة، ويرنّ
طويلا جرس مظلم في القرية. موكب سلام.
في صمت يزهر الرّندُ فوق أهداب الموت البيضاء.

المياه ترنّ بهدوء عند انتفاء الظهيرة
والأرض البور تخضرّ على الضفّة، وفرح في الريح الورديّة
والشّدْو اللطيف للأخ على هضبة المساء.