”لقد انحسرت الفنون إلى فن واحد: يمكنك رسم اللوحة بالكلمات بنفس الطريقة التي يمكن أن تُرسَم المشاعر بقصيدة“. بابلو بيكاسو

عُرف بابلو بيكاسو برسوماته ومنحوتاته وأعمال السيراميك فضلاً عن تصميماته المدهشة لديكورات أعمال مسرحية شهيرة مثل: ”الاستعراض، تريكورن، بولسينيلا، كوادرو فلامنكو، أنتيگونا، عطارد، القطار الأزرق، الملك أوديب ريكس، باليه بعد ظهيرة إله الغابة، إيكار.. وسواها“، لكن، ما لا يعرفه الكثيرون أنه كان شاعراً ومؤلفاً مسرحياً أيضاً!. فقد ترك لنا مسرحيتان ومئات القصائد التي كتبها في أربعينات وخمسينات القرن الماضي.
لقد كان للشعراء والكُّتاب الإسبان والفرنسيين على حد سواء أثراً كبيراً عليه ضمن الحلقات الأدبية في برشلونة وباريس. فقد كان مشاركاً نشطاً في منتدى ”القطط الأربعة“ في برشلونة ومن ثَمَّ في التجّمع الأدبي في منزل الروائية والشاعرة والكاتبة المسرحية الأمريكية وهاوية جمع اللوحات الفنية جيرترود شتاين في باريس، التجمّع الذي كان يرتاده كُتّاب مرموقين مثل جيمس جويس وأرنست همنغواي وسواهم، كُلُّ ذلك مكَّنه في البقاء على تواصل دائم بكل أشكال الأدب والفن.
بالتسّكع مع جيرترود شتاين، تلك الكاتبة التجريبية بامتياز، استطاع بيكاسو ليس فقط أن يُبدي اهتماماً مبكّراً بالصور المرئية للكلمات، إنما توظيفها لاحقاً في أعماله التكعيبية، أخذاً بمشورة شتاين المهنية له بقولها:”ﭙاﭙلو، رسّامٌ مثلك لديه إمكاناتٍ كهذه، ليس عليه أن يتسّكع مع الرسامين الآخرين، إنما عليه أن يُقيم صداقات مع الكُتّاب“. وهكذا فَعَلْ. ولعلّ أوطد علاقة تلك التي ربطته ربطته بالشاعر الفرنسي ماكس جاكوب منذ وصوله باريس، ومن بعد علاقاته بأندريه بريتون، أبولينير، جان كوكتو، الفريد جاري وآخرين.

في أبريل من عام ١٩٣٥، وهو في سن الثالثة والخمسين، توقّف بيكاسو عن ممارسة الرسم، وكرّس نفسه ووقته للكتابة.! وقد واصل مسيرته تلك حتى عام ١٩٥٩ والتي أثمرت ثلثمائة وأربعين عملاً شعرياً ومسرحيتين كاملتين، أحداهما بعنوان ”رغبة مقبوض عليها من الذيل“ وهي عبارة عن أربعين صفحة أنجزها الفنان في أربعة أيام في شهر يناير عام ١٩٤١ حين كان مقيماً في باريس إبان الاحتلال النازي، والثانية بعنوان ”أربعُ فتيات صغيرات“ كتبها عام ١٩٤٧ وهي قطعة تنتمي لتيار الوعي خالية من الحبكة كتبها بيكاسو بشكل خاص إلى خشبة المسرح .
في طبعة بلاتفورما التي تم اصدارها مُؤخراً لقصائده ونثره، علّق بيكاسو قائلاً:”لقد انحسرت الفنون إلى فن واحد: يمكنك رسم اللوحة بالكلمات بنفس الطريقة التي يمكن أن تٌرسَم المشاعر بقصيدة“.
في شتاء عام ١٩٤١، بعد فترة وجيزة من احتلال الألمان لباريس، أمضى بيكاسو ثلاثة أيام في كتابة مسرحيته ”رغبة مقبوض عليها من الذيل“، رغم مرضه، وقد كتبها بالفرنسية، إلا أنها لم ترَ النور إلا في عام ١٩٤٤ حيث تم ادائها ”قراءةً“ لأول مرة في شقة الكاتب السوريالي والأثنوغرافي الفرنسي ميشيل ليريس من قِبَل سيمون دي وفوار، جان بول سارتر، فالنتين هوغو، ريموند كوينو، زاني أوبير، لويس ليرز، جان أوبير، دورا مار (عشيقة بيكاسو وحبيبتة) وبيكاسو نفسه. وقد قام بإخراج المسرحية الكاتب الفرنسي البرت كامو.
ووفقاً لميشيل ليريس، كان عدد الحضور أكثر من مائة شخص، من بينهم العديد من الرسامين والموسيقيين والمؤلفين والممثلين المتميزين بمن فيهم الممثل جان لوي بارو والكاتب أرماند سالكرو والشاعر ﭙول إيلوار وعالِم النفس جاك لاكان وﭙيكاسو نفسه..

كتب بيكاسو هذه المسرحية في وقت كان الفرنسيون يعانون الجوع والعوز والبرد والخوف، لذا فليس غريباً أن تتمحور ثيمتها بشكل أساسي حول الطعام والجوع. بعبارة أخرى، إنها تتحدث عن البؤس، القلق، المعاناة، الجوع والخوف، ذلك الكابوس الذي كان يخنق أنفاس البلاد .
المسرحية تمَّ توصيفها بأنها عملاً تجريدياً كتجريدية لوحاته، حيث المنظور المنحرف جلي كما في لوحاته، فضلاً عن غرابة أسماء شخصياتها التي لها شأن مباشر بموضوع الجوع والطعام، كشخصية البصلة، الكعكة (المومس)، وشخصية القلَق البدين والقلَق النحيف، فضلاً عن الشخصيات الأخرى الأكثر غرابة مثل القدم الكبيرة، القطعة المستديرة، كلبان على شكل دمى، صمت، ستائر.
كان القُرّاء يجلسون على شكل قوس، وكان البير كامو يقف في إحدى الزوايا يقرأ إرشادات المسرحية (وهي الارشادات التي وضعها ﭙيكاسو بين أقواس) وكان كل قارىء ينهض من مكانه ليقرأ دوره تباعاً. أما الموسيقى فقد كانت تصدح من غرامافون (حاكي) في الغرفة المجاورة.
النص في الواقع هو محاولة سوريالية يصعب تجسيده على خشبة المسرح لأنه يخلو من حبكة تقليدية أو مغزى سياسي مُعلن، رغم أنه كان بمثابة وسيلة شبه سياسية لجأ إليها بيكاسو لتفادي استجوابات النازيين له، وكان قد كتبه بقصد، على الأرجح، كمحاولة منه لإرجاء فرصة أن يظن الألمان بأنه يتضمن شيئاً ما ضد الاحتلال.
إن إجراء قراءة له على ذلك النحو هو بحد ذاته نوعاً من التحدي بوجه الاحتلال الالماني لفرنسا، فضلاً عن أن ذلك يوضح بشكل جلي كيف أن ﭙيكاسو كان جزءاً لا يتجزأ من الحلقة الفكرية والأدبية الفرنسية في ذلك الوقت.
حين تمت قراءة المسرحية فيما بعد عام ١٩٨٨ في قاعة المتحف الفني سولومون ﮔوﮔنهام Guggenheim Museum في نيويورك والتي لعب فيها دور البطولة مجموعة من مشاهير الفنانين أمثال لويس بورجيواس، ريد غرومس والرسام الانكليزي الشهير ديفيد هوكني. افتتحت العرض
السيدة ماري شارب كرونسون وهي عضو فخري في مجلس إدارة فرقة باليه مدينة نيويورك والأصدقاء الأمريكيين لأوبرا باريس والباليه قائلة:
”أن الجزء الأهم في المسرحية هو دعوتها التأريخية في التقاط وتسجيل اللحظة الزمنية: كان ثمة خوف، جوع، برد، وهو أمر نحن لم نواجهه
مطلقاً. حين تجمّع أولئك المفكرون اللامعون عام ١٩٤٤ في باريس لتقديم هذه المسرحية سّراً كان ذلك بمثابة احتجاج ضمني وبهجة معاً. كانت لحظة في الزمن إذا لم يواجهها المرء سيكون من الصعب عليه إدراكها مطلقاً. إن الأمر كما لو أنهم أرادوا القول للمحتلين: حسنٌ، إذا أنتم اقتحمتم علينا بلادنا عنوةً بهذا المعنى، فنحن عندئذ سنريكم شيئاً غير ذي معنى!“.
ماريانو ميغيل مونتانيس، صديق بيكاسو المقرّب وسكرتيره الخاص، كان قد حدّد بدقة أسلوب بيكاسو الأدبي في كتابه الموسوم بعنوان ”قصة عائلة بيكاسو الحقيقية“ قائلاً: (بيكاسو هو رساّم حتى حين يَكتُب)!. وبيكاسو ذاته في إحدى تصريحاته الأخيرة، قال:”أعتقد أن نتاجي ككاتب سيوازي في اتساعه وأهميته نتاجي كفنان تشكيلي. إنني أكرّس الوقت نفسه تقريباً للكتابة والفن على حد سواء. وفي يوم ما، وبعد أن اكون قد غادرت هذه الدنيا، سيتم التعريف بي في الموسوعات والقواميس ربمّا بالشكل التالي: (بابلو بيكاسو، فنانٌ وشاعرٌ ومؤُّلف مسرحي إسباني)“.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(هامش)
يظهر في الصورة المرفقة بالموضوع الأسماء التالية:
عالم النفس جاك لاكان،
سيسيل إيلوار (إبنة الشاعر السوريالي بول إيلوار)،
بيير ريفردي (شاعر دادائي، سوريالي وتكعيبي)،
لويس ليريز (زوجة صاحب گاليري ميشيل)
بيكاسو،
زاني دي كمبان (ممثلة)،
ﭬالنتين هيجو (فنانة وزوجة حفيد فكتور هيجو)،
سيمون دي بوﭬوار،
براساي (فرنسي هنغاري الأصل، فوتوغرافي، نحات، كاتب ومخرج سينمائي)،
جان بول سارتر،
ألبرت كامو،
ميشيل ليريس (صاحب گاليري لويز ليريس)،
جان أوبير، محرر صحفي.